لإغاثة القطاع أم للسيطرة عليه؟.. علامات استفهام حول "مؤسسة غزة الإنسانية"

منذ ١٢ ساعة

12

طباعة

مشاركة

سلط تقرير للمعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية الضوء على “مؤسسة غزة الإنسانية” التي ظهرت أخيرا على الساحة بدعوى تقديم المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع. 

ومنذ أوائل مارس/آذار 2025، قطعت إسرائيل كل الإمدادات عن غزة، ضمن خطة تجويع وتهجير، بما في ذلك الغذاء والملاجئ والأدوية والوقود، مما أدى إلى أزمة إنسانية لسكان القطاع البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة.

وفي 27 مايو/ أيار الماضي، بدأت تل أبيب في تنفيذ خطة توزيع مساعدات إنسانية عبر ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي جهة مدعومة إسرائيليا وأميركيا، لكنها مرفوضة من قبل الأمم المتحدة.

علاقة غامضة

ولفت تقرير المعهد إلى أن الصلة الغامضة لمؤسسة غزة الإنسانية بإسرائيل تثير الشكوك بشأن استخدامها كأداة إستراتيجية للسيطرة على أراضي غزة وسكانها".

وأشار إلى تصاعد المسارات المأساوية التي يشهدها النزاع، بعد مرور أكثر من 600 يوم من الحرب الإسرائيلية على غزة.

وبالرغم من الحديث المستمر عن مفاوضات لوقف إطلاق النار بين الطرفين، إلا أن إسرائيل شنّت في أوائل مايو/ أيار 2025، هجوما بريا جديدا على قطاع غزة، وذلك بقرار من حكومة نتنياهو بهدف السيطرة الأمنية ودفع حماس للاستسلام، وإجبار غالبية السكان على الانتقال إلى جنوب القطاع.

كما أشار التقرير إلى أن الحملة العسكرية الجديدة أثارت انتقادات دولية واسعة؛ حيث أدانت عدد من الدول هذه الخطوة، من بينها كندا وفرنسا والمملكة المتحدة.

لكن المعهد يرى أن "النزاع قد تجاوز الآن حدود المواجهة العسكرية المباشرة". 

موضحا أن قرار إسرائيل بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة منذ ما يقرب من 3 أشهر، أثار انتقادات حادة.

في المقابل، برر الاحتلال الإسرائيلي هذا الحصار بأنه محاولة لـ "إجبار حماس على الاستسلام وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين".

وادعى أن "حماس كانت تستولي على المساعدات"، وهي تهمة يؤكد التقرير أنها "لم تُدعَم قط بأدلة ملموسة من الجانب الإسرائيلي".

وأفاد التقرير أن الفاعل الجديد الذي دخل على الخط “مؤسسة غزة الإنسانية” قدَّمت نفسها كمنظمة غير حكومية مستعدة لتحل محل منظمات الإغاثة الأخرى الموجودة أصلا -والتي طالما تعرّضت للعراقيل من قبل إسرائيل- في قطاع غزة.

وأشار التقرير إلى أن المؤسسة لا تمتلك أي خبرة سابقة في مجال المساعدات الإنسانية، ومنذ ظهورها أثارت الكثير من الشكوك والانتقادات. 

علامات استفهام

وفيما يتعلق بتأسيس المنظمة وصلاتها غير الشفافة يرى التقرير أن هناك العديد من علامات الاستفهام؛ حيث أُسست رسميا في سويسرا، وظهرت لها صلات واضحة بالحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة الأميركية.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، سجلت المؤسسة باسم جيمس كانديف، الممثل القانوني لشركة "سيف ريتش سولوشنز"، وهي إحدى شركتين أميركيتين كلفتا بتفتيش المركبات المتجهة إلى غزة خلال الهدنة الأخيرة.

كما أن المؤسسة تعتمد حاليا على شركات أميركية خاصة عاملة في مجالي الأمن واللوجستيات لنقل المساعدات الإنسانية، والتي توزع لاحقا داخل القطاع من قبل عاملين مدنيين في مراكز مخصصة تدعي إسرائيل أنها "آمنة". 

وأكد التقرير الإيطالي على أن “الجهات الممولة الحقيقية للمؤسسة لا تزال مجهولة”، مشيرا إلى أن المؤسسة صرَّحت بأنها تلقت 100 مليون دولار من "دولة أوروبية"، لكنها لم تقدم أي معلومات إضافية عن هوية الدولة المانحة.

وحسب الخطة المعلنة، تهدف المؤسسة إلى استبدال شبكة التوزيع الغذائي الواسعة الحالية -والتي تتكون من حوالي 400 نقطة توزيع نشطة تديرها نحو 200 منظمة غير حكومية دولية- بنظام مركزي صارم يقتصر على أربعة مراكز توزيع فقط، تقع جميعها في جنوب قطاع غزة.

ورأى المعهد الإيطالي أن هذا القرار اللوجستي "ليس محض صدفة"؛ حيث إن "اقتصار توزيع المساعدات على جنوب القطاع يعني إجبار السكان على التحرك نحو هذه المراكز، ما يسمح للقوات الإسرائيلية بالسيطرة على الشمال، وهو هدف سبق أن طُرح في الحملة العسكرية التي أُطلقت بعد انتهاك وقف إطلاق النار في مارس 2025". 

وشدَّد التقرير على أن هذا "النقل القسري للسكان" يعد "جريمة حرب"، بموجب القانون الدولي، ونظرا لهذه الإشكالات، أعلنت عدة أطراف دولية مقاطعتها المبادرة؛ حيث صرح مسؤولون في الأمم المتحدة بأن التعاون مع المؤسسة، كما تريد إسرائيل، سيقوض حيادهم وسيسهم فعليًا في تنفيذ الخطة الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين. 

حتى إن جيك وود، المدير السابق لمؤسسة غزة الإنسانية، أعرب عن موقف مماثل قبل أن يقدم استقالته قبيل انطلاق العمليات الميدانية. 

ويقول التقرير: إن استقالة وود تعزز الاعتقاد بأن "المبادرة بأكملها تتناقض مع المبادئ الأساسية للعمل الإنساني الإغاثي (الحياد والاستقلالية وعدم التحيّز)". 

وتوحي بدلا من ذلك بوجود مخطط يهدف إلى "إحكام السيطرة على الوصول إلى السلع الأساسية وتحويلها إلى أدوات قسرية ضمن إستراتيجية سياسية-عسكرية متكاملة".

معسكرات اعتقال

ولفت التقرير إلى نقطة خلاف أخرى، تكمن في إخضاع المدنيين الفلسطينيين الذاهبين إلى مراكز التوزيع لفحوصات أمنية قبل تسلم حصصهم الغذائية؛ وذلك بهدف نقل سكان غزة إلى مجمعات خاضعة للرقابة تستوعب عشرات الآلاف من المدنيين. 

وحسب التقرير، يكمن الخطر في أن "تتحول هذه المجمعات إلى معسكرات اعتقال فعلية مزودة بأنظمة بيومترية، يُعزل فيها الفلسطينيون، فيما تستمر المعارك بين إسرائيل وحماس خارج هذه المناطق".

وشدد المعهد الإيطالي على أن "ما تحاول إسرائيل تقديمه على أنه خطة إنسانية لمساعدة الفلسطينيين، يبدو في الواقع نظاما للسيطرة، يسحب الاستقلالية من الوكالات الإنسانية ويضع قرارات مصيرية في يد طرف مشارك في النزاع". 

مؤكدا أن "مؤسسة غزة الإنسانية تُستخدم كأداة فعلية للقوة الناعمة، تسحب النفوذ من أيدي المنظمات غير الحكومية المستقلة وتركزه بيد إسرائيل".

وحذر كذلك من أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تقليص نفوذ جهات لطالما حاولت التوسط في النزاع، مثل قطر ومصر. 

مشيرا إلى أن الطرفين قد يسعيان إلى الترويج لقنوات إنسانية بديلة متعددة الأطراف أو عبر منظمات غير حكومية، بهدف استعادة دورهما في هذا الجانب من النزاع. 

ومن هذه الزاوية، تشكل مؤسسة غزة الإنسانية -من وجهة نظر التقرير- "خطرا حقيقيا قد يعيد رسم توازنات القوى السياسية في إدارة ملف غزة".

وكنتيجة لذلك، يتوقع التقرير أن "إدارة المساعدات الإنسانية ستتحول، في الأشهر القادمة، إلى ساحة صراع إستراتيجي موازٍ للنزاع العسكري، على المستويين العملي والدبلوماسي". 

لافتا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي "قد يتمكن، جزئيا على الأقل، من فرض المؤسسة كقناة مفضلة لتوزيع المساعدات، خاصة بفضل الدعم اللوجستي والعسكري الأميركي، والوصول الحصري إلى الأراضي التي تسيطر عليها". 

وسينتج عن ذلك تدريجيا استبعاد المنظمات غير الحكومية المستقلة، مما يقلل من شفافية العمليات الإنسانية، حسب التقرير.

وفي المقابل، يقول التقرير: إن تصاعد الضغوط الدبلوماسية، خاصة من الاتحاد الأوروبي ومصر وقطر، قد يؤدي إلى إنشاء آلية مساعدات متعددة الأطراف، تحت إشراف الأمم المتحدة أو الهلال الأحمر، كردّ على عدم كفاءة مؤسسة غزة الإنسانية وتسييسها.

وسيؤدي هذا السيناريو -في نظر التقرير- إلى "تعزيز المعابر البديلة (مثل معبر رفح إذا أعيد فتحه)، وتهميش مؤسسة غزة". 

أما إذا لم تتمكن الأطراف من إنشاء سلسلة لوجستية آمنة، يحذر التقرير من أن "الأوضاع في القطاع ستزداد تدهورا، مع ازدياد الهجمات على القوافل الإغاثية، وانتشار المجاعة". 

وتابع: "وهذا السيناريو سيؤدي إلى تصاعد الشعور الدولي بوجود أزمة خارجة عن السيطرة، وقد يفتح المجال لاحتمال التدخل في شكل بعثة حفظ سلام دولية، رغم أن هذا يبقى احتمالا بعيدا حتى الآن".

وبناء على ما سبق، يؤكد التقرير أن مؤسسة غزة الإنسانية تتجاوز كونها مبادرة إنسانية، مشددا على أنها "أداة جيوسياسية"، وواصفا إياها بأنها "حصان طروادة يتخفى في هيئة مؤسسة إغاثية، لكنه يخفي في طياته مخاطر جمة، ويعكس تحولا كبيرا في الإستراتيجية الإسرائيلية".

وفي هذا السياق، يقول المعهد الإيطالي: إن "المواد الغذائية والمساعدات الصحية لم تعد أدوات للإغاثة، بل أدوات للضغط تهدف إلى التأثير في التحركات السكانية، وإضفاء شرعية على السيطرة على الأرض، وبناء إجماع دولي من خلال الخطاب الإنساني". 

وإذا لم ترفق هذه العملية بعملية جادة لخفض التصعيد السياسي ومشاركة متعددة الأطراف ذات مصداقية، فإنها لا تعدو -وفق التقرير- كونها "خطرا جديدا يؤدي إلى تأجيج التوترات، ويخلق نوعا جديدا من الصراع الهجين، حيث تصبح المساعدات سلاحا، ويصبح سكان ما يوصف الآن بأنه (المكان الأكثر جوعا على وجه الأرض) مجرد أهداف أو بيادق".