كيف بدأت الدول العربية تعيد النظر في علاقاتها مع إسرائيل؟.. معهد عبري يجيب

“سياسة تُقوّض اتفاقيات التطبيع القائمة”
في ظل حرب مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام، لا تزال الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات التطبيع متمسكة بهذه الاتفاقيات، ومع ذلك، يتزايد القلق من أن استمرار السياسات الحالية لإسرائيل سيُلحق ضررا متعدد الأبعاد بالعلاقات بين الجانبين.
هذا ما خلُص إليه تقييم لمعهد "دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، في ملف أعدّه كل من المحاضر في قسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة تل أبيب، أوفير وينتر، والعقيد الاحتياطي أوفير غوترمان، الذي شغل منصب مساعد استخبارات للسكرتير العسكري لرئيس الوزراء.
تآكل إسرائيل
وقال الباحثان: "على مدى العقدين الماضيين، وطّدَت إسرائيل علاقاتها مع عدد من الدول العربية التي طبّعت معها، استنادا إلى مصالح إستراتيجية مشتركة، أبرزها مواجهة النفوذ الإيراني، وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة".
وفي هذا السياق، أُنشئ "منتدى غاز شرق المتوسط" و"منتدى النقب"، وبدأ الحديث عن بنية شرق أوسطية جديدة قائمة على المصالح الجيوسياسية المتبادلة.
واستدركا: "لكن عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أسفرت عن نجاح فعلي، ولو مؤقت، في وقف هذه التطورات الإيجابية.. ويُعد غياب إسرائيل عن جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المنطقة مثالا واضحا على هذا التحول".
وولفتا إلى أن “ترامب قد أقر خلال الزيارة بأن مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية غالبا سيُؤجَّل بسبب العدوان في قطاع غزة”.
في الوقت نفسه، أسهمت إبادة غزة في تسريع تآكل صورة إسرائيل لدى الحكومات العربية والرأي العام على حد سواء، وفق تقييم المعهد.
ففي أوساط واسعة من المجتمعات العربية، تُنظر إلى إسرائيل على أنها متمسكة بنهج يعتمد على القوة، ومتخلية عن أي مقاربة متوازنة تدمج الأدوات الدبلوماسية والمدنية والاقتصادية.
وفي ظل هذه الظروف، يُنظر إلى هذا السلوك بصفته مضر بالمصالح الإستراتيجية العربية والإسرائيلية على حد سواء، ما يدفع الدول العربية المُطبعة إلى إعادة النظر في الفرضيات الأساسية التي بُنيت عليها علاقاتها مع إسرائيل.
وبحسب المعهد، تتمحور انتقادات الدول العربية المعتدلة لإسرائيل حول عدد من القضايا الأساسية.
أولا، التصوّر بأن إسرائيل تسعى إلى تحقيق "نصر كامل" على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فكثيرون في العالم العربي يرون أن إسرائيل تريد استمرار الحرب سعيا وراء هذا "النصر الشامل". بحسب المعهد.
وفي ظل هذه الظروف، يُنظر إلى إصرار إسرائيل على تصوير حماس كتهديد وجودي مستمر باعتباره ترسيخا لرواية مشوّهة، تدفع إسرائيل إلى الغرق أكثر في "مستنقع غزة"، وتنعكس سلبا عليها وعلى المنطقة بأكملها.
ثانيا، يُنظر إلى طموح إسرائيل في السيطرة على قطاع غزة والقضاء على حماس "حتى آخر عنصر فيها"، من دون التقدم بمسار سياسي موازٍ لتأسيس بديل فلسطيني في الحُكم، بصفته هدفا غير واقعي وذا نتائج عكسية.
تقويض الاستدامة
ومن وجهة نظر الدول العربية التي وقّعت اتفاقيات تطبيع، فإن مواصلة الاعتماد على الضغط العسكري لن يحقق الأهداف الإستراتيجية لإسرائيل.
فالقوة العسكرية لن تؤدي إلى نزع سلاح حماس، ولن تسهّل استعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها، ولن تسهم في استقرار غزة في حال غياب الحركة.
كما أن هذا النهج الإسرائيلي لن يحظى بدعم من شركائها في المعسكر العربي المعتدل، وفق وصف المعهد.
ثالثا، تُهدد سياسة إسرائيل -التي تعتمد على الوسائل العسكرية فقط- طيفا واسعا من المصالح الإستراتيجية العربية-الإسرائيلية المشتركة.
فهي تُقوّض اتفاقيات التطبيع القائمة، وتُعيق جهود توسيعه ليشمل دولا إضافية، وفي الوقت نفسه، تُؤجج الكراهية والرغبة في الانتقام تجاه إسرائيل، وتُقوّض استدامة علاقات التطبيع الحالية، ناهيك عن ظهورها العلني. حسب المعهد.
رابعا، يسهم التركيز الإسرائيلي الحصري على الحلول العسكرية في تغذية التطرّف داخل المنطقة.
وأضاف المعهد: "تخشى الدول العربية المطبّعة أن يُتيح هذا الواقع لحماس تجنيد عناصر جدد من جيل الشباب في غزة -لا سيما في ظل غياب بديل عملي لحماس وأيديولوجيتها- ويُقوّي محور المقاومة".
واستطرد: "كما أنه يزيد من جاذبية الجهات الإسلامية الفاعلة في الدول العربية، خاصة في الأردن ومصر، ويُعيق جهود لبنان للمضي قدما نحو واقع جديد مستقرّ خالٍ من هيمنة حزب الله".
تكريس الأزمة
خامسا، إن تمسك إسرائيل بنهج "إدارة الصراع" من دون التطلع إلى حله بشكل جذري لن يضمن لها أمنا دائما، بل يُكرّس واقع الأزمة ويُعمّق جذورها.
وبحسب وصف المعهد، تُدرك الدول العربية المعتدلة أن إسرائيل تُعطي الأولوية للقوة على حساب الدبلوماسية، ما يؤدي إلى إدامة مشهد العنف والدمار وانعدام الأمل.
وفي ظل هذه الظروف، يستحيل تحقيق أمن مستقر لإسرائيل، أو توسيع دائرة التطبيع.
أخيرا، ترى الدول العربية أن هناك حاجة ملحّة لتعزيز دور السلطة الفلسطينية، وبحسب هذه الدول، كان من المفترض أن تشكّل أحداث 7 أكتوبر "جرس إنذار" يدفع إسرائيل إلى التخلّي عن النظرة التي تعد السلطة الفلسطينية عبئا.
ورغم إدراكها لما تعانيه السلطة من ثغرات وضعف، فإن هذه الدول تعدها جهة ملتزمة بالمسار التفاوضي مع إسرائيل، لكنها تفتقر حاليا إلى شريك إسرائيلي جاد. بحسب المعهد.
وقال الباحثان: "يتزايد القلق بين الدول العربية المطبعة من التأثير السلبي طويل الأمد للحرب على علاقاتها مع إسرائيل".
وأشارا إلى أن “أسوأ السيناريوهات تتمثل في اتخاذ إسرائيل خطوات تُعدّ تهديدا مباشرا لأمن هذه الدول، وتعد تجاوزا للخطوط الحمراء من وجهة نظرها، مثل تشجيع الهجرة الجماعية للفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية إلى مصر و/أو الأردن، بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ تُعدّ مثل هذه الخطوات انتهاكا لاتفاقيات السلام، وقد تؤدي إلى تعليقها أو إلغائها”.
ومن التطورات الإضافية التي قد تُعرّض العلاقات للخطر ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية، أو انهيار السلطة الفلسطينية، أو اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية.
وأكَّد المعهد أن "من الواضح أن الحرب قوّضت الثقة التي نشأت على مرّ السنين بين إسرائيل ودول السلام العربية، سواء على المستوى الرسمي أو من حيث مكانة إسرائيل لدى الرأي العام العربي".
وأضاف أن "صور الموت والجوع المتواصلة القادمة من غزة لا تُؤجج الإدانة العالمية لإسرائيل فحسب، بل تُحرج الأنظمة العربية وتُولّد ضغطا شعبيا لاتخاذ إجراءات احتجاجية ضدها".
“كما أثارت هذه الصور تضامنا عربيا مع المعاناة الإنسانية لسكان غزة، بمن فيهم الكثيرون ممن يرفضون أيديولوجية حماس، ورغم استمرار الالتزام الأساسي باتفاقيات السلام، إلا أن التطورات الحالية قد تؤدّي إلى تآكلها وإضاعة الفرصة التاريخية لتوسيعها”. بحسب المعهد.
الحلول العربية
وأشار إلى أنه “في مواجهة استمرار الحرب، دعت الدول العربية إلى تغيير السياسة الإسرائيلية، وطرحت، عبر المبادرة المصرية المدعومة عربيا في مارس/آذار 2025، خطة من ثلاث مراحل رفضتها إسرائيل سريعا”.
وتبدأ الخطة بوقف دائم لإطلاق النار لمدة ستة أشهر، وتشكيل حكومة فلسطينية تكنوقراطية مدنية بديلة لحكم حماس، مع نشر قوات شرطة مدرّبة في مصر والأردن. تليها مراحل لإعادة الإعمار تمتد لأربع سنوات ونصف السنة، بتمويل عربي ودولي يتجاوز 50 مليار دولار.
هذه الخطة ترتكز على ثلاث أولويات، وفق المعهد، تتمثل في إنهاء العدوان الإسرائيلي بسرعة وإطلاق الإعمار دون ربط ذلك بتجريد فوري لحماس من السلاح، وإنشاء إدارة مدنية فلسطينية تمهّد لعودة السلطة إلى غزة وتفكك نفوذ حماس تدريجيا.
وإطلاق مسار سياسي شامل لحل القضية الفلسطينية وتجنب الحلول الجزئية التي قد تؤدّي إلى "جولات مواجهات جديدة".
وبحسب تقييم الباحثين، قد تبدي الدول العربية استعدادا لأخذ مخاوف إسرائيل الأمنية في الحسبان، عبر ضمانات تشمل سيطرة إسرائيلية على حدود غزة، وآليات رقابة مشددة على المعابر، ومشاركة دولية أو عربية في التنفيذ، وموافقة ضمنية على عمليات أمنية ضد تهديدات محددة داخل القطاع.
وأكدا أن مواصلة إبادة غزة دون رؤية سياسية يُقوّي المتطرفين ويُضعف المحور المعتدل ويهدد فرص التطبيع، خصوصا مع السعودية.
ومع ذلك، لا تزال الدول العربية المعتدلة حريصة على مواصلة التعاون مع إسرائيل، ضمن تصور مسؤول لإعادة إعمار غزة وتسوية النزاع، بل إن هذه الدول -بحسب المعهد- مستعدة لتلبية احتياجات إسرائيل الأمنية.
وختم قائلا: إن "القرارات التي ستتخذها إسرائيل -أو ستتجنب اتخاذها- في المستقبل القريب ستكون لها عواقب وخيمة، ليس فقط على نتائج الحرب في غزة، بل أيضا على مستقبل علاقاتها مع العالم العربي".