"التسفير إلى سوريا".. حقيقة الادعاءات بحق العشرات من معارضي قيس سعيّد

12

طباعة

مشاركة

أسدل الستار في تونس فجر 22 سبتمبر/أيلول 2022 على أول فصول محاكمة العشرات من السياسيين وأساتذة جامعيين وخطباء مساجد ومسؤولين أمنيين في قضية ما بات يعرف بملف "التسفير إلى سوريا".

وقرر قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب إطلاق سراح علي العريض رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة (إسلامية) بعد احتجازه على ذمة القضية لمدة يومين. ويتهم كذلك زعيم الحركة راشد الغنوشي في نفس الملف.

ويتهم معارضو الرئيس قيس سعيد السلطة القائمة بتوظيف هذه القضية لضرب المعارضين وإلهاء الرأي العام عن قضاياه الحقيقية في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة.

توقيت مشبوه 

منطلق البحث في قضية "التسفير إلى بؤر التوتر" بدأ بعد شكوى تقدمت بها فاطمة المسدي النائبة السابقة عن حزب نداء تونس (علماني) في العام 2021 إلى المحكمة العسكرية، كونها كانت عضو لجنة التحقيق البرلمانية في الموضوع.

إلا أن المحكمة العسكرية قررت التخلي عن الملف لفائدة القطب القضائي لمكافحة الإرهاب.

وقد انطلق البحث في الأمر بداية سبتمبر 2022 بعد سماع أقوال فاطمة المسدي لدى الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب بصفتها شاكية.

بالتزامن مع فتح التحقيق في هذه القضية أعادت وسائل إعلام محلية التذكير بتصريحات سابقة لبعض قيادات حركة النهضة المتهمين في الملف تتراوح بين الإشادة بالثورة السورية وتأييد فكرة القتال ضد نظام بشار الأسد.

وصرح عضو مجلس شورى حركة النهضة الحبيب اللوز في 13 مايو/أيار 2013 أنه لو كان شابا لن يمانع في الذهاب للجهاد في سوريا، وفق ما نشرت جريدة الصباح الأسبوعي.

وبين أن الشعب السوري لم يطلب من التونسيين الدعم المادي والمعنوي و"لكن إذا اقتنع أحدهم بالذهاب للجهاد فهو حر"، مشددا على أنه ضد ما يجرى من حملات تجنيد الشباب وإرسالهم للقتال ضد نظام بشار الأسد.

من جهته أكد القيادي في حركة النهضة رياض الشعيبي أن "فتح الملف من جديد دون أن يكون هنالك مستجدات أو عناصر تكشف الحقيقة إنما هو فقط شكاية لأشخاص من خصوم النهضة".

وأشار الشعيبي في حديث لـ"الاستقلال" إلى أن "السلطة تبنت الملف وفتحت تحقيقات فيه ورأينا حملة إعلامية متزامنة كشفت أن الأغراض الحقيقية هي إدانة حركة النهضة".

ومن خلالها إدانة مرحلة الانتقال الديمقراطي ومحاولة إقصاء شخصيات سياسية تحضيرا للانتخابات (التشريعية) المقبلة المقررة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، وفق الشعيبي.

وأضاف المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة أن "ملف التسفير يوظف من جهات مختلفة في مختلف المراحل".

في البداية جرى طرحه واتهام حركة النهضة به في محاولة للربط بينها وبين تنظيم "أنصار الشريعة" في تونس، والآن وظف الملف بشكل مختلف، إذ جعل من ذهب لسوريا وقاتل وقتل بريئا والمتهم هي الحركة، مرة بنسبة هؤلاء إليها، ومرة بادعاء أن هؤلاء ضحية سياستها، كما قال.

نفض الغبار 

ويرى الشعيبي أن "حكومة النهضة حمت تونس من الخطر الإرهابي وهي من صنفت تنظيم أنصار الشريعة إرهابيا وخاضت حربا ضروسا ضد الإرهاب من خلال وزرائها وترؤسها للحكومة وحقيبة الداخلية."

ويعتقد أن "النهضة" لا تتحمل أي مسؤولية قانونية أو سياسية حول هذا الملف، خاصة أن الفترة التي حكمت فيها لم تتجاوز العام والنصف وبقية الفترات كانت رئاسة الحكومة وحقيبة الداخلية من نصيب أطراف سياسية أخرى.

تعود فصول القضية إلى ما بعد ثورة عام 2011، واندلاع ثورات الربيع العربي التي كانت سوريا أحد أهم محطاتها، حين تحولت احتجاجات السوريين المطالبين بالحرية والديمقراطية وإنهاء حكم بشار الأسد إلى ثورة مسلحة في مواجهة مجازر النظام.

الوضع الجديد في سوريا حولها إلى قبلة لعدد كبير من المقاتلين الذين اختار جلهم الالتحاق بـ"جبهة النصرة" في البداية ومن ثم تنظيم الدولة.

من بين المقاتلين الأجانب الذين التحقوا بصفوف المجموعات المقاتلة المئات من الشباب التونسي، إذ بلغ عددهم 2900 مقاتل أي أقل من نصف التقديرات التي كان يجرى الترويج لها محليا، بحسب إحصائيات نشرها معهد واشنطن للشرق الأدنى في نوفمبر/تشرين الثاني 2018.

ووجهت أصابع الاتهام في تجنيد المقاتلين ونقلهم لبؤر التوتر لـ "تنظيم أنصار الشريعة " (سلفي جهادي)، والذي صنف في العام 2013 كتنظيم إرهابي.

وأكد رئيس الحكومة التونسية حينها علي العريض أن بلاده تملك أدلة على أن تنظيم "أنصار الشريعة" قتلوا سياسيين وجنودا، مضيفا أن تونس تعلن أنه تنظيم إرهابي قائم على هيكلة عسكرية.

وأعلن العريض خلال مؤتمر صحفي في 26 أغسطس/آب 2013 عن "ضلوع تنظيم أنصار الشريعة في العمليات الإرهابية بتونس وفي عمليات اغتيال (المعارض اليساري) شكري بلعيد و(النائب القومي) محمد البراهمي". 

وفي العام 2014 أكد الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية محمد علي لعروي أن الوزارة أوقفت نحو 300 شخص (تونسيين وبعض الليبيين) ينشطون في "شبكات" تعمل على تجنيد وتسفير مقاتلين من تونس نحو سوريا لافتا إلى أنه جرى تفكيك "أغلب" هذه الشبكات.

ظاهرة قديمة 

ظاهرة انتقال مقاتلين تونسيين للقتال خارج البلاد ليست جديدة ولم ترتبط بالربيع العربي ونتائجه، ولكنها قديمة وتتجاوز حتى التيار الإسلامي بتفريعاته لتشمل مجموعات يسارية وقومية قاتلت في فترات مختلفة على عدة جبهات.

إلا أن الانفتاح الإعلامي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى توظيف الأمر ضمن الصراع السياسي في وضع تعيش فيه البلاد تنافسا على أشده سياسيا وانتخابيا، جعل الملف يتصدر اهتمامات التونسيين ومتابعتهم.

إذ سجل المقاتلون التونسيون حضورهم في مختلف جبهات القتال خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، وصولا إلى الالتحاق بتنظيم القاعدة والمشاركة في القتال ضد الاحتلال الأميركي بعد العام 2003.

وتذكر عدد من المصادر التي اعتمدها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن الحضور التونسي في القتال الأفغاني كان بارزا.

 وأوضح الباحث هارون زيلين في بحث نشر في 9 سبتمبر 2021 أن جماعة تونسية مقاتلة ساعدت في اغتيال زعيم "التحالف الشمالي" الأفغاني أحمد شاه مسعود قبل يومين من وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وأكد الباحث أنه "جرى تأسيس هذه الجماعة في يونيو/حزيران 2000 من قبل أبي عياض التونسي وطارق معروفي، وهما شخصيتان رئيستان في جهاز المغتربين العرب الذي أنشئ لمساندة حركة الجهاد العالمية في أوروبا. 

وكان المقاتلون التونسيون متمركزين بشكل أساسي في ميلانو وباريس وبروكسل ولندن، ومعروفين بتزوير الوثائق. 

وسبق للكثير منهم أيضا أن حاربوا كمقاتلين أجانب في أفغانستان والجزائر والبوسنة وبدرجة أقل في الشيشان.

ويذكر نفس المصدر أن أبا عياض كان في فترة التسعينيات مسؤولا عن بيت الضيافة التونسي في جلال آباد، ومقربا جدا من زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن ونائبه حينها المصري أيمن الظواهري.

كما بينت مجلة "منبر سوريا الإسلامي" في عددها الثالث الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2005 أنه قد جرى اعتقال ألف تونسي أثناء محاولتهم السفر إلى العراق.

 علاوة على ذلك، قال المحامي التونسي سمير بن عمر الذي دافع عن المقاتلين المعتقلين في تونس، أنه في الفترة 2005-2007، اعتقل 600 تونسي خلال محاولتهم الوصول إلى العراق.

 ولا يشمل هذا الرقم التونسيين المقيمين خارج تونس أو أولئك الذين لم يجر اعتقالهم قبل عام 2005، بحسب بحث معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.

وقد يشير ذلك إلى أن العدد الفعلي للأفراد الذين اعتقلوا قبل وصولهم إلى العراق وأولئك الذين وصلوا يتراوح بين 1600 و2500 على امتداد تلك الفترة الزمنية بأكملها.

لذلك، فإن هذه الإحصائيات تجعل الأمر إذا أقل إثارة للدهشة في علاقة الأمر وارتباطه بالربيع العربي وتشكك في دور حركة النهضة في الملف.