البرهان يقوض نفوذ حميدتي داخليا وخارجيا.. ما مستقبل نزاع عسكر السودان؟

12

طباعة

مشاركة

ما يدركه عسكر السودان أن كتم الصراع لم يعد ممكنا بين قائد الجيش رئيس المجلس السيادي الحاكم عبد الفتاح البرهان، ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إذ لم تعد خلافاتهما تخفى على أحد.

وتتواصل الأجواء الملتهبة بين الجنرالين القويين في السودان، سواء البرهان الكائن وسط جيشه الكبير، أو حميدتي المنزوي وسط حاضنته العشائرية في دارفور، حيث المركز الرئيس لقواته المنتشرة في عموم البلاد.

ويدرك الجميع أن غضبة حميدتي التي تمثلت في تصريحاته الأخيرة الناقدة للمكون العسكري، إنما هي ردة فعل لضربات متتالية من البرهان، حجم فيها من نفوذ غريمه، أو على الأقل جعل الأمر أصعب عليه في الوصول إلى غايته في الحكم. 

جيش موحد

وفي 2 سبتمبر/ أيلول 2022، كشف الصحفي السوداني عبد الرحمن عن تراجع القيمة السياسية والعسكرية لحميدتي، بعد تراجع قدرته على تحصيل الأموال عبر تقديم الخدمات (العسكرية)، وضعف قدرته على الاستقطاب والتجنيد وتقديم الرشاوي السياسية. 

وأضاف في تدوينة عبر فيسبوك، أن "حظوظ حميدتي السياسية في الرئاسة تكاد تكون معدومة، ويخشى على ظهره من نظام تشادي كشر عن أنيابه، ويتأهب للعبة كبيرة، أما من الشرق فيبدو البرهان متأهبا لخطوة أكبر".

ثم اختتم تدوينته بعبارة مثيرة: "وداعا حمدان"

وفي الأسابيع الأخيرة، تكاثرت تصريحات حميدتي لوسائل إعلام محلية ودولية يتحدث فيها كقائد للمكون العسكري، مؤكدا أنه سيجرى "ترك الحكم للمدنيين وتفرغ الجيش للمهام الوطنية"، ما فسره مراقبون على أنها ردود فعل على مساعي البرهان لإحكام قبضته على البلاد.

وبدأت إجراءات البرهان لتحجيم حميدتي مبكرا منذ اللحظات الأولى للإطاحة بالرئيس المعزول عمر البشير، إذ عمل على جمع قيادات الجيش على قلب رجل واحد. 

ويضم الجيش السوداني قرابة 190 ألف جندي بينهم 105 آلاف في قوات الاحتياط، ويمتلك 191 طائرة حربية و410 دبابات و403 مركبات قتالية مدرعة و20 منصة صواريخ تجعله في المرتبة 69 بين أقوى جيوش العالم والمرتبة الثامنة على مستوى إفريقيا.

وسبق أن خاض الجيش السوداني معارك لمدة تزيد على 50 عاما في الحرب الأهلية بجنوب السودان من عام 1955 حتى 2005 التي انتهت بتوقيع اتفاقية نيفاشا للسلام.

شوكة المخابرات

وإلى جانب توحيد قيادات الجيش، وجه البرهان ضربة أخرى لطموحات حميدتي، عبر دعم جهاز المخابرات العامة. 

إذ حاول حميدتي تحجيم ونزع شوكة هذا الجهاز جارية منذ الإطاحة بالبشير، وفي 15 يناير/ كانون الثاني 2020، اتهم المخابرات بالوقوف وراء الاضطرابات السياسية والأمنية التي شهدها السودان ووصفها بالمتمردة.

وقال في تصريحات صحفية، إن "تمرد هيئة العمليات التابعة للمخابرات، مؤامرة تستهدف النظام، ولدى الهيئة ضباط في الخدمة وخارج الخدمة يمكنهم الانقلاب على الوضع". 

وعلى عكس إرادة حميدتي الرامية إلى تفكيك الجهاز، كانت رغبة البرهان في استمراريته وتقويته. 

وفي نفس اليوم، أعلن البرهان سيطرة القوات المسلحة على مقرات هيئة العمليات بجهاز المخابرات، بالعاصمة الخرطوم، لهيكلة الجهاز.

وأعلن البرهان في تصريحات بتاريخ 30 سبتمبر/ أيلول 2021، أن "جهاز المخابرات العامة سيظل شوكة تتكسر عندها كل المؤامرات".

وأضاف قاطعا الطريق على حميدتي: "البلاد لا يمكن أن تستغني عن جهاز مخابراتها، وكل منسوبيه الذين لا حزب لهم سوى الوطن".

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي 27 ديسمبر/ كانون الأول 2021، أصدر البرهان "أمر طوارئ"، قضى بإعادة سلطات لجهاز المخابرات، كانت قد سحبت منه عقب الإطاحة بالبشير.

وقضى الأمر بمنح المخابرات تفويض سلطات القبض على الأشخاص ومنحها الحصانة الكاملة. 

وشملت الصلاحيات التفتيش، والرقابة على الممتلكات والمنشآت، والحجز على الأموال وغيرها، وحظر أو تنظيم حركة الأشخاص. 

وهو الوضع الذي أزعج حميدتي، والقوى المناوئة للجيش السوداني والبرهان، خاصة أن للمخابرات تاريخ طويل في السياسة السودانية. 

ويقدر عدد أفراد هيئة العمليات فيه بـ 13 ألف عنصر، منهم قرابة 7 آلاف في ولاية الخرطوم فقط.

جذب الأعداء 

ومن الأسلحة التي امتلكها البرهان في إطار صراعه مع حميدتي، هي الحركات المسلحة، والتي تتنازع عليها جميع القوى السودانية. 

وفي 29 يوليو/ تموز 2022، أدلى حميدتي بتصريحات للإذاعة السودانية، أثارت جدلا ولغطا كبيرين في الأوساط الشعبية والسياسية بالبلاد التي تواجه مخاطر عديدة حاليا، في مقدمتها الاقتتال القبلي.

وقال قائد قوات الدعم السريع سيئة السمعة، إن "البلاد تعاني من الاقتتال والحروب والفتن والكراهية، والآن تتعافى بدءا من ولاية غرب دارفور". 

ووجه حميدتي إصبع الاتهام إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في السودان بأنها تمنح رخص سلاح لأشخاص بصورة غير قانونية.

وبدا حينها أن هناك بعدا أعمق من تلك التصريحات، وأن السبب الرئيس لهجوم حميدتي على تلك الحركات، يختلف عن ضبط الحدود، أو ترخيص السلاح. 

وبالفعل السبب الرئيس تمثل في تواصل مستمر بين البرهان وهذه الحركات، وأن القوات المسلحة لها رؤية خاصة تجاهها. 

وتحت عنوان "جيش موحد"، كتبت القوات المسلحة السودانية عبر فيسبوك في 27 فبراير/ شباط 2021، أنه "من أجمل ما جاءت به ثورة الشعب السوداني هو اتفاق جوبا للسلام بين أبناء شعبه".

وأضافت أن "هذا الاتفاق هو نواة توحيد الجيوش لتنصهر في جيش قومي لحماية الوطن، وقريبا جدا هناك مسميات سوف تنتهي، مثل الحركات المسلحة، والدعم السريع، وغيرها".

وذكرت أن "الترتيبات لتوحيد هذا الجيش تسير على قدم وساق، وستشاهدون كما العهد بالقوات المسلحة بإذن الله جيشا موحدا لا قبلية ولا جهوية، ينتشر في كل ربوع السودان حاميا للأرض والعرض وداعما للتنمية موحدا في الزي الرسمي".

ويصل عدد الحركات المسلحة في السودان إلى 87 حركة، منتشرين في عموم البلاد، وفق إعلام محلي.

مجلس الصحوة 

لم يكن الجيش النظامي وحده هو سلاح البرهان، في إطار تجاذباته مع حميدتي، فقد كشف اعتقال الدعم السريع الطاهر دود، أحد أبناء قبيلة المحاميد في 28 سبتمبر/ أيلول 2020، عن كونه ضابطا مكلفا من البرهان للتواصل مع خصوم حميدتي الرئيسيين، وهم المجلس الصحوي الثوري السوداني، الذي حاول دود تجنيد قادة منهم واستمالتهم إلى الجيش، وفق وسائل إعلام محلية.

وتأسس المجلس في يناير/ كانون الثاني 2014، ويسيطر على مدن عدة من بينها كتم، وكبكابية، وسرف عمرة، هو عبارة عن مليشيا مسلحة في دارفور، وتقوده القبائل العربية السودانية، وتحديدا المحاميد.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، جرى اعتقال قائد المجلس موسى هلال من قبل نظام البشير، من قبل قوات الدعم السريع، ويومها عاد حميدتي بهلال مكبلا ذليلا إلى الخرطوم، ما خلق حالة ثأرية لا تنتهي بين تلك الأطراف. 

وتأتي استعانة البرهان بأطراف من المحاميد، لتغولها وحجم تأثيرها الواسع، فهي قبيلة عربية متفرعة من قبيلة الزغاوة العربية السودانية الأكبر في شمال دارفور، ويتزعمها موسى هلال، ابن الزعيم التاريخي للقبيلة هلال عبد الله.

وتشتهر المحاميد بأنها كانت تزود مليشيا الجنجويد (الدعم السريع) بالقوات، قبل أن يغدر حميدتي بقطاع منهم، ويخون موسى هلال، لصالح البشير.

ومحاولة استمالة المحاميد والاعتماد عليهم، يمثل محور قلق عارم لحميدتي، الذي يقوي جبهته لفرض سيطرته على الحكم، بوصفه الرجل الأقوى وأحد المرشحين لقيادة البلاد.

تحجيم السفر

التضييق على حميدتي استمر من قبل البرهان، حتى في تفاصيل أبعد من الإعدادات العسكرية والتحالفات الداخلية. 

وفي 21 مايو/ أيار 2021، جرى منع أعضاء مجلس السيادة السوداني من السفر إلا بإذن كتابي من رئيسه البرهان، مع وجوب توضيح الأسباب والوجهة، وفق لائحة داخلية جديدة. 

وورد في نص المادة المضافة إلى اللائحة أن على العضو الذي يريد السفر أن يوضح وجهته وسبب سفره إلى الدولة المنوطة حال كانت الدعوة رسمية، وعليه أيضا أن يناقش طلب الزيارة في اجتماع مجلس السيادة أمام جميع الأعضاء للموافقة عليه.

وقتها نال حميدتي النصيب الأكبر من الإشارات أنه هو المعني بذلك القرار، نظرا لسفرياته المتعددة إلى عديد من الدول.

لا سيما تلك التي جاءت بشكل سري وغير معلن، مثل ذهابه إلى العاصمة الإيطالية روما، وبعدها إلى الإمارات في فبراير 2021.

والمقلق في تحركات قائد قوات الدعم السريع، إقدامه على عقد صفقات تسليح متطورة خاصة بقواته بمعزل عن الجيش.

كل ذلك دفع البرهان إلى محاولة وضع ضوابط تحجم أسفار حميدتي، ضمن سياقات التنافس القائم بين الجيش وقوات الدعم السريع. 

وفي 22 مايو، ذكرت صحيفة "مونتي كاروو" السودانية، أن الأمر جعل حميدتي يغضب، ويقول في اجتماع مجلس السيادة إنه "ظل يتعرض لحملة منظمة لتشويه صورته وأنه سيتخذ إجراءات قانونية تجاه من يستهدفه".

وصحيفة "مونتي كاروو" هي التي كشفت زيارات إلى إيطاليا والإمارات، ما أحدث جدلا كبيرا في الشارع السوداني حينئذ.

توازنات إقليمية 

وأخطر ما قام به البرهان في سياق حصاره لحميدتي، هو تواصله مع المجلس العسكري التشادي. 

وفي 3 أغسطس/ آب 2022، أجرى وفد عسكري تشادي برئاسة وزير الدفاع الجنرال داؤود يحيى إبراهيم يرافقه رئيس أركان القوات المسلحة، وقائد القوات المشتركة التشادية، زيارة محورية إلى الخرطوم. 

حيث استقبلهم البرهان، وقالت وسائل إعلام سودانية، منها صحيفتا "حرة نيوز" و"التغيير" إن الجانب التشادي متململ من التحركات الحدودية لقوات الدعم السريع.

خاصة أنه يمتلك تاريخ من العداء ضد حميدتي، ففي 4 يوليو/تموز 2022، نشرت صحيفة "تشاد وان" الناطقة بالفرنسية، أن قتالا عنيفا اندلع بين مليشيا "تورو بورو" التشادية وقوات حميدتي، ما أدى إلى مقتل مدنيين تشاديين داخل المدن الحدودية مثل "بالي وسوجوني" 

وأرجعت الصحيفة التشادية أصل الصراع الدامي إلى توغل 300 عربة مدججة بالسلاح مليئة بمليشيات الدعم السريع والحركات السودانية المسلحة إلى المناطق التشادية. 

وقتها اشتبكت مع جماعات تورو بورو التي تضم فرقا أيضا في السودان بحكم الولاءات والانتماءات العشائرية، لكن معظمها بالفعل قد غادر الخرطوم قبل سنوات.

وتعد الحدود التشادية السودانية التي يبلغ طولها 1403 كم، محور ضغط كبير على حميدتي، لأن حاضرته ومركز قواته مدينة الجنينة في دارفور، متاخمة لتلك الحدود. 

وتعد اللقاءات بين الجيش السوداني والتشادي، بمثابة تهديد كبير لحميدتي وقواته. 

نهاية حتمية 

وفي قراءته للمشهد، قال السياسي السوداني الدكتور عمر الخضر، لـ"الاستقلال"، إن "المثل الشعبي الدارج يؤكد على أنه (لا يجتمع أسدان في قفص واحد)، فحتما أحدهما سيقضي على الآخر".

وأضاف أن هذه معضلة السودان الأساسية، وجود القوات المسلحة بعتادها وعدتها، وقوامها الكبير تحت قيادة البرهان، ووجود قوات الدعم السريع المجهزة على أعلى مستوى بأسلحة ثقيلة كجيش مواز يضاهي قوة الجيش الأساسي، تحت قيادة حميدتي، وهو رجل تغلب عليه العصبية القبلية، وتحكمه تطلعات قيادية لا حد لها". 

وتابع: "الجيش من الأساس لم يكن راضيا عن إلحاق الدعم السريع به أو إضفاء طابع رسمي عليها، ومنذ قرار البشير في عام 2013، وحتى الآن الضباط والقادة يتندرون عليهم تحت مسمى (الجنجويد) وينظرون إليهم كمليشيا وقوة لقيطة جاءت من خارج المؤسسة العسكرية، وتمثل خطرا داهما على الدولة". 

واستدرك الخضر قائلا: "أما حميدتي الذي أخذ وزنا محليا وإقليميا عقب الإطاحة بالبشير، يرى نفسه السبب الرئيس في نجاح الثورة وإسقاط النظام السابق".

وأوضح أن "حميدتي لا يريد أن يؤكل بليل وتحل قواته أو تهزم أو لا يكون له دور، بل يرى نفسه قائدا سياسيا يمكن أن يجمع السودان تحت قبضته، وهذا مستحيل عمليا وعقليا". 

ومضى يقول: "البرهان ليس بالرجل السهل، ولا مؤسسة الجيش والمخابرات بالقوى الهينة التي ستسمح لأي طرف أن يحكم السودان غيرهم، سواء كان مدنيا أو مسلحا".

وأكد السياسي السوداني أن "البرهان اعتمد على شرعية الجيش، ودعم قوى إقليمية على رأسها مصر والسعودية وكذلك تشاد، وقام بالتواصل مع إسرائيل، وله اتصالات مع واشنطن والعواصم الغربية". 

واستطرد: "الفاعلون السياسيون بالسودان يعلمون جيدا أنه لا وقت كثيرا لديهم كما في السابق، أمام عالم مضطرب وأزمات اقتصادية متفاقمة، وحالة الضغط القائمة دفعت مراكز القوى لتجاذبات غير محسومة حتى الآن، لكنها ستحسم أي كان ثمنها، والصدام آت لا محالة عاجلا أم آجلا".