"سلام فرمانده".. حزب الله يفرض على لبنان أفكار إيران عبر أناشيد مهدوية

12

طباعة

مشاركة

في 6 يوليو/تموز 2022 أقام حزب الله عبر جمعية كشافة "المهدي" الإسلامية تجمعا مركزيا حاشدا لأداء نشيد "سلام فرمانده" أي "سلام يا مهدي"، في باحة "عاشوراء" بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وهي معقله الرئيس. 

جاء هذا الحدث ضمن سلسلة من الفعاليات الجماهيرية التي أسماها حزب الله بـ"التجمعات المهدوية" في عدة مناطق لبنانية ذات أكثرية شيعية لأداء النشيد نفسه.

وكل هذه الأنشطة تزامنت مع تجمعات مشابهة نسبيا لأداء نفس النشيد في الدول التي يوجد فيها تأثير شيعي مثل العراق واليمن وأذربيجان، وصولا إلى مالي في إفريقيا.

ومنذ أيام قليلة، وخلال إحياء ليالي عاشوراء، قال أمين عام حزب الله حسن نصر الله، أنه "مكلف من الله" فيما يفعله.

وقد رأى كثير من اللبنانيين في كلامه تعبيرا عن أنه الآمر الناهي في لبنان، والحاكم الفعلي للبلاد لا يسمح بمناقشته ولا بمساءلته، وصولا إلى أنه يتلقى تكليفه من الله.

اللا وعي "المهدوي"

وظهر نشيد "سلام فرمانده" للمرة الأولى في أواخر مارس/آذار 2022. وهو حسب موقع "جادة إيران" من إعداد المؤسسات الدينية والثقافية الإيرانية، ويرمز لعلاقة الجيل الجديد بالمهدي (الإمام الثاني عشر عند الشيعة)، الذي سيأتي لإقامة العدل على الأرض. 

وفي 26 مايو/أيار 2022، نظمت إيران مهرجانا شعبيا حاشدا في ملعب "آزاد" غرب طهران، حضره عشرات الآلاف من الإيرانيين مع أطفالهم لأداء النشيد في جوقة نظمها فنانون محترفون على الهواء مباشرة. 

وحسبما أفادت وسائل الإعلام الرسمية، شارك في التجمع قرابة 100 ألف مشارك، وهي السعة القصوى للملعب الأكبر والأشهر في إيران.

ويتضمن النشيد بنسخته الفارسية تحية إلى الإمام المهدي، وكذلك شخصيات فارسية منتقاة بعناية.

منهم علي بن مهزيار الأهوازي، أحد فقهاء الشيعة البارزين، ويونس الشهير بـ"ميرزا كوجك خان" أحد زعماء الثورة الدستورية ضد آخر الملوك القاجاريين، ومحمد تقي بهجت وهو من كبار الفقهاء ومراجع التقليد الشيعي. 

بالإضافة الى مرشد الجمهورية الإيرانية الحالي علي خامنئي، وقائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري قاسم سليماني الذي قتلته الولايات المتحدة الأميركية في 3 يناير/ كانون الثاني 2020 بغارة جوية. 

أما في نسخة حزب الله اللبنانية، فيتضمن النشيد ذكر عباس الموسوي سلف حسن نصر الله في موقع الأمانة العامة، وراغب حرب، أحد رجال الدين الشيعة المؤسسين لعقيدة الحزب، وعماد مغنية الذي يعد بمثابة أسطورة عند جمهور الحزب. 

والأخير لديه سجل إجرامي حافل دوليا، ومن آخر الاتهامات الموجهة إليه التخطيط لاغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. والثلاثة اغتالتهم إسرائيل. وقد أبقت النسخة اللبنانية من النشيد على اسمي خامنئي وسليماني.

تقول الصحافية زينب عواضة في مقالة لها بموقع قناة "الميادين" في 8 يوليو 2022 إن النشيد لم يكن ليتحقق لولا توجيهات مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ سنوات طوال. 

وتنقل عنه قوله: "إحدى ميزات النشيد أنه يبني ثقافة في المجتمع، ويعد من المستويات العليا للمعرفة والعلم وما شابه، وصولا إلى المستويات الشعبية، ويشمل الجميع بانتشاره السريع".

وبينت عواضة أنه "في الوقت الذي تصدت به إيران وأخواتها للحفاظ على المجتمع الإسلامي المحمدي الأصيل من خلال الاقتدار السياسي والعسكري والاقتصادي، كانت بالتوازي تدهش العالم بأنها صاحبة المنظومة القيمية الأكثر جسارة".

إذ "تسعى لتطبيق عدالة الله في الأرض من خلال نصرة المستضعفين في العالم ودعم المقاومات الشريفة"، وفق تعبيرها. 

وتخلص إلى أن "التسديد الإلهي هو الذي جعل سلام فرمانده ليس مجرد نشيد، بل بداية مرحلة في الحرب الناعمة التي تتفوق فيها إيران مجددا، من خلال إعادة صنع اللاوعي الجماعي للأمة بما يليق بقيمها الأصيلة".

و"المهدوية" أو الإيمان بالإمام المهدي في صلب العقيدة الشيعية، وهي من أصول الدين عندهم، فلا يمكن أن تخلو الأرض من "ولي"، ولا يمكن للناس أن لا يتمسكوا بفكرة وجوده بينهم وعودته. 

الغزو الثقافي

ولحزب الله العديد من المؤسسات التي تحمل اسم "المهدي"، منها شبكة مدارس وكشافة ومجلة وغيرها. 

وتعمل هذه المؤسسات "المهدوية" على صنع الأجيال وتثقيفها، وقد جرى إنتاج فيديو خاص بـ"سلام يا مهدي" يتضمن مقاطع مدمجة للتجمعات الحاشدة التي نظمها حزب الله في عدة مناطق. 

ومنذ عرضه على "يوتيوب"، حصد الفيديو حوالي مليون و440 ألف مشاهدة بما يقارب إجمالي عدد الشيعة في لبنان، الأمر الذي يعكس مدى انتشاره وتسويقه.

تستند ثقافة حزب الله إلى ولاية الفقيه، ويربط الحزب مباشرة بين الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة انطلاقا من مبدأ الولاية. 

ومن هذه النقطة، يستثمر حزب الله الدين في كل قضية، ولا سيما القضايا السياسية، و"سلام يا مهدي" يأتي في هذا السياق بالتحديد. 

ويحاول حزب الله منذ سنوات إدخال الثقافة الإيرانية إلى لبنان عبر العديد من الأساليب. 

نذكر منها رفع صور عملاقة لقادة ورموز لبنانيين وإيرانيين يعظم من شأنهم على الطريق التي تربط مطار رفيق الحريري الدولي بالعاصمة، وتسمية الشوارع بأسمائهم رغم ما تحمله من استفزاز لبعض اللبنانيين وخاصة السنة.

إذ من بين هؤلاء القادة عدد من المتهمين باغتيال رفيق الحريري أبرز زعماء السنة في لبنان. 

ومنها استئجار أجنحة لرفع صورة عملاقة لقاسم سليماني في معرض الكتاب في بيروت. وأيضا الأناشيد والصور والكتب والأنشطة وغيرها من الأشكال التي تحمل إطارات ثقافية. 

وفي مقالة بصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية في 11 يوليو 2022، يقول الكاتب السياسي سام منسى إن المناطق التي يغلب فيها الوجود الشيعي "تشهد منذ نحو أربعة عقود أشكال حياة انطوائية وأساليب عيش غير مألوفة بلبنان تطال الملبس والعادات الاجتماعية وأشكال الترفيه المختلفة". 

ويلفت منسى إلى أن إطلاق نشيد "سلام فرمانده" الإيراني مؤخرا هو تعبير فاضح عن تأثير السطوة العقائدية الإيرانية لسنوات طوال.

 فالنشيد هو "توجيه وإرشاد عقائدي مذهبي سياسي بصبغة إيرانية غير ملتبسة، يتبع ولاية الفقيه والمرشد الأعلى الإيراني. وبالمحصلة، ثمة إصرار ممنهج على الاختلاف بل الانقطاع عن الشركاء في وطن متعدد الطوائف والمذاهب".

في حين يرى الكاتب والباحث علي الأمين، وهو سليل عائلة خرجت عددا من مراجع التقليد عند الشيعة، أن النشيد هو "سياسي لا ديني اتخذ من فكرة المخلص (المهدي) سبيلا للاستثمار السياسي، وربطها بالإمام الحاضر وهو المرشد الأعلى الإيراني". 

وبين الأمين في حديث لـ"الاستقلال"، أن النشيد "يستخدم لشد العصب الداخلي من جهة، والتغطية على الأزمات والمآسي من جوع وفقر وحرمان وانهيار، وهذا هروب من مواجهة الواقع". 

ويخلص إلى أن "توجه النشيد للأطفال بشكل خاص هو استغلال لبراءتهم، وهدفه التأثير عليهم أيديولوجيا، وهو ما يعد إلغاء لشخصية الطفل العفوية، واستبدالها بالتلقين السياسي والديني".

ويرى عباس الجوهري، وهو شيخ شيعي معارض لحزب الله، في النشيد "بعدا ثقافيا، تحاول إيران من خلاله أن تكون محور المذهب الشيعي، وتضع اليد على كل مجتمعات المذهب لصناعة ثقافة مغايرة كليا عن ثقافة أهل الشيعة الحقيقية، ولهذا السبب ترجم إلى لغات متعددة".

التكليف الإلهي

كذلك، استثمر حزب الله تزامن ذكرى مرور 40 عاما على تأسيسه مع ليالي عاشوراء كي يدمجها بشعار واحد: "أربعون عاما على نهج الحسين"، ويجعلها عنوانا مسيطرا على أغلب المراسم العاشورائية. 

ويسجل لحزب الله نجاحه منذ سنوات في استقطاب وأدلجة مراكز قوى ونخب ثقافية وإعلامية للتسويق لمشروعه السياسي – الديني. 

اللافت في هذه النخب والقوى أنها متنوعة ومتناقضة، فبعضها مسيحي يميني متطرف أو يساري علماني أو حتى ملحد، بما يعكس مدى تغلغل حزب الله داخل المجتمع اللبناني بمختلف أطيافه. 

ومن الظواهر الدالة على مستوى الهيمنة الثقافية لحزب الله ارتداء مذيعات قنوات تلفزيونية محلية شهيرة اللون الأسود الكامل مشاركة في الحزن على الإمام الحسين. 

وكذلك اشتراك بعض رجال الدين المسيحيين وخصوصا من الموارنة في احتفالات التأبين العاشورائية.

وانطلاقا مما تقدم لا يبالي حزب الله كثيرا بتزيين مشروعه السياسي – الديني بغلاف الحرص على التوازنات الطائفية والمذهبية الهشة في لبنان. 

ولذلك قال حسن نصر الله في معرض رده على تساؤلات اللبنانيين حول من كلفه بالدفاع عنهم أنه "مكلف من الله". 

كما أن رئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين أكد أن "المقاومة (أي حزب الله) في لبنان تحدد الخيارات والمستقبل، وعلى الأميركي والإسرائيلي أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار". 

الحديث عن "التكليف الإلهي" قوبل بموجة استنكار واسعة من قبل اللبنانيين، ولا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي. 

بيد أن الكاتب السياسي رامي الأمين يقول إن "كلام نصر الله غير مفاجئ، فمرجعيته هي ولاية الفقيه التي ترى الحكم تكليفا شرعيا من الله. وعمليا فإن حديثه يأتي منسجما مع فكره"، وفق تصريح لموقع "الحرة" الأميركي. 

ويوضح الأمين أن "نصر الله كان في السابق يراعي هذه الأمور لأسباب تتعلق بتحالفاته مع الأطراف المسيحية ولا سيما التيار الوطني الحر (حزب رئيس الجمهورية). أما الآن وبعد أن أصبح الأخير بالكامل تحت جناح حزب الله، بات يعبر عن نفسه وتوجهاته بوضوح أكبر". 

ويرى الأمين أن نصر الله "غالبا ما يتوجه بهذا الكلام إلى جمهوره، ليذكر بأنه ممسك بتكليف إلهي ولديهم ولاية الفقيه، خصوصا الآن، في مواجهة من نوع آخر تستدعي منه رفع العصبية في مكان ما لإسكات الأفواه الجائعة في بيئته ومناطقه".

ويضرب الكاتب الشيعي اليساري النزعة المثل بما جرى قبل أيام في بلدة "بيت ياحون" جنوبي لبنان، وهي ضمن مناطق سيطرة حزب الله وثقله.

وشهدت البلدة احتجاجات من قبل الأهالي على انقطاع المياه والأوضاع المعيشية المتردية، وأطلقوا خلالها صرخات الانتقاد واللوم على حزب الله ونوابه. 

في حين يرى الكاتب السياسي الشيعي المعارض لحزب الله نديم قطيش في مقالة له بموقع "أساس ميديا" في 8 أغسطس/ آب 2022، أن الأخطر في كلام نصر الله، والذي لم يأخذ حقه في النقاش العام هو حين يسأل خصمه: "إنت إنسان؟"

ويعد قطيش أن نصر الله "لا يشكك فقط في إنسانية من يعارضونه، بل يفتح بابا سيكولوجيا وسياسيا وفقهيا عريضا على كيفية عمل العقل العميق لمليشيا حزب الله وآليات تفكيرها بالاغتيال وتشريع القتل واستسهال استباحة الدماء دفاعا عما تراه مقدسات ومهمات إلهية". 

ويخلص قطيش "هنا تكتمل دائرة هذا العقل الغيبي الذي يحرس مصالح إيران. فالمهمة إلهية، وأثمانها قرابين"، وفق تعبيره.