سياسي أم قانوني؟.. قصة خلاف الجزائر والمغرب على أكبر منجم حديد بالعالم
.jpg)
ما إن تظهر بشائر تقارب بين الجزائر والمغرب، حتى يعلو صوت نذير يعلن بدء أزمة جديدة أو سوء تفاهم بين البلدين الجارين، ما يعيد صراع الدولتين المغاربيتين إلى الواجهة، ويذكي نار الخلاف بينهما.
أحدث الخلافات، وليس آخرها بمنطق الواقع والتاريخ، هو إعلان الجزائر في 30 يوليوز/تموز 2022، عن بدء العمل بمنجم "غار الجبيلات" للحديد، على بعد 130 كلم جنوب شرق مدينة تندوف، أقصى جنوب غرب الجزائر، في وقت يقول المغرب إن جارته الشرقية "ليس من حقها استغلال المنجم دون اتفاق مع الرباط".
هذا المنجم الذي تصفه الجزائر بـ"تكساس إفريقيا"، كناية عن الثروة التي يحتويها من الحديد، والذي يعد "الأكبر في العالم"، باحتياطات تقدر بـ3 مليارات طن، سهلة الاستغلال كونها مكامن سطحية، سيسمح للحكومة بتلبية الطلب الداخلي وتصدير الفائض إلى الخارج.
اختيار التوقيت
الإعلان عن بدء استغلال منجم "غار الجبيلات" بشراكة مع الصين، تزامن مع تخليد المغرب لـ"عيد العرش"، أي الذكرى السنوية لتولي الملك محمد السادس على الحكم، والذي تحتفى به الرباط في 30 يوليو من كل سنة، حيث ألقى العاهل المغربي خطابا لشعبه، دعا فيه الجزائر إلى "بناء علاقات طبيعية بين البلدين وتجاوز الخلاف القائم بينهما".
قبل خطاب الملك محمد السادس بساعات قليلة، كان وزير الطاقة والمناجم الجزائري، محمد عرقاب، يعلن عن بدء العمل بالمنجم، موضحا أنه سيسمح بإنتاج 2 إلى 3 ملايين طن من خام الحديد في المرحلة الاولى (2022-2025)، ثم 40 إلى 50 مليون طن سنويا ابتداء من 2026.
ووفق وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أوضح عرقاب في كلمته، خلال إشرافه على افتتاح منجم الحديد غار جبيلات، أن "هذا المشروع الهيكلي سيمر بعدة مراحل ممتدة من 2022 إلى 2040".
وأشار الوزير إلى أن المرحلة الاولى الممتدة من 2022 إلى 2025، سيتم خلالها استخراج 2 إلى 3 ملايين طن من خام الحديد ونقله بريا إلى مدينة بشار، والتي تقع على بعد 1000 كلم من العاصمة الجزائر، وتعد بوابة غرب البلاد، من أجل تحويله وتثمينه من قبل متعاملين وطنيين أبدوا رغبتهم في الاستثمار.
أما المرحلة الموالية، يضيف المسؤول الحكومي الجزائري، والتي ستكون ابتداء من عام 2026، فستنطلق مباشرة بعد إنجاز خط السكة الحديدية، حيث سيتم استغلال المنجم بطاقة كبرى تسمح باستخراج 40 إلى 50 مليون طن سنويا.
في السياق نفسه، أكد الخبير الاقتصادي الجزائري، مراد كواشي، أن منجم غار جبيلات سيحول الجزائر من بلد مستورد للحديد إلى مُصدر له، بإيرادات تتراوح من 12 إلى 16 مليار دولار سنويا.
وأوضح كواشي للجريدة الاقتصادية "المستثمر" المحلية، في 2 أغسطس/آب 2022 أن "المشروع سيسمح بتوفير 3 آلاف منصب عمل مباشر، وأكثر من 25 ألف وظيفة غير مباشرة".
ورأى أن "هذا المشروع سيجعل من منطقتي بشار وتندوف غربي الجزائر، قطبا اقتصاديا كبيرا، لأن الدولة مجبرة على إنجاز البنى التحتية من أجل إنجاح هذا المشروع".
ولفت كواشي إلى أن "الجزائر شرعت في إنجاز خط السكك الحديدية بين بشار وتندوف على مسافة تزيد عن 600 كيلومتر، حيث أوكلت مهمة الإنجاز للشركة الصينية، بالإضافة إلى الخط البري وهو خط الطريق العابر للصحراء بين تندوف والزويرات الموريتانية على مسافة 775 كيلومترا".
وشدد كواشي، على أن هذه البنى التحتية ستفك العزلة عن منطقة الجنوب الغربي الجزائري بشكل عام، مشيرا إلى أن كلفة إنجاز مشروع منجم غار جبيلات تناهز 15 مليار دولار، وسيتم إنجازه بالشراكة مع شركات صينية عملاقة".
غير قانونية
بالمقابل، يرى خبراء مغاربة أن إعلان الجزائر استغلال مناجم الحديد بـ"غار الجبيلات" يعد خرقا للاتفاقية الموقعة بين المغرب والجزائر عام 1972، والمصادق عليها من طرف الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، والمتعلقة بالاستغلال المشترك لمناجم الحديد.
وفي هذا الإطار، رأى الخبير المغربي في العلاقات الدولية والشأن الإفريقي، أحمد نور الدين، أن "إعلان الجزائر استغلال مناجم غار الجبيلات بشكل أحادي، سلوك فيه خرق مباشر لبنود اتفاقية البلدين".
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال" أن "هذا الخرق بما يعنيه من منع للمغرب من استغلال المناجم بشكل مشترك، معناه في القانون الدولي، أن الاتفاقية الموقعة أضحت لاغية".
وأفاد نور الدين بأن "الاتفاقية تنص بوضوح على أن المغرب لديه الحق في استغلال وتصريف معدن حديد غار جبيلات وشحنه عن طريق ميناء يقع على شاطئ المحيط الأطلسي، وتوزيع الأرباح مناصفة بين الطرفين".
من جانبه، قال أستاذ العلاقات الدولية، خالد شيات، إن "التصرف الجزائري بخصوص الموضوع كان سيئا للغاية، وفيه نوع من الإصرار على استمرار الأزمة السياسية بين الجزائر والمغرب، رغم الإشارات المباشرة التي بعث بها المغرب لأجل طي صفحة الخلاف وبناء علاقات طبيعية بينهما".
ورأى شيات في حديث لـ"الاستقلال"، أن "القضية أكبر من حق المغرب والجزائر في الاستغلال الثنائي والمشترك لمادة الحديد، بل نحن أمام تبعات أكبر، سياسية وقانونية ودبلوماسية".
ومن هذه التبعات، يسترسل الأستاذ الجامعي، أن إلغاء الجزائر للاتفاقية من جانب واحد، بعد أن عمدت إلى بدء المشروع دون اتفاق مع الرباط، معناه أن من حق الرباط إعادة المطالبة بترسيم الحدود.
وأشار شيات إلى أن "المغرب تنازل عن مجموعة من مناطقه الحدودية لفائدة الجزائر، مقابل تبادل المنافع المتولدة عن تلك المناطق، كما هو حال غار الجبيلات"، معبرا عن دعمه لهذا السيناريو، أي إعادة ترسيم الحدود المشتركة بين البلدين.
هذه الفكرة أكد عليها أيضا الخبير في الشأن الإفريقي، نور الدين، والذي بيّن أن "المغرب الآن، بات من حقه الرجوع إلى نقطة الصفر، والمطالبة بإعادة ترسيم الحدود التي كانت قد اقتطعتها منه فرنسا أيام الاستعمار، لأن ترسيم الحدود بين البلدين كان هو جوهر وموضوع اتفاقية 1972".
وذكر أن "المغرب قبل توقيع اتفاقية 1972، كان دائما يطالب باسترجاع الأراضي التي كانت فرنسا قد قامت بضمها للجزائر، وكان هناك وعد مكتوب من طرف الحكومة الجزائرية المؤقتة آنذاك، أنها ستقوم بإرجاع الأراضي التي ضمتها فرنسا للجزائر فور خروج الاستعمار".
وخلص نور الدين، إلى أن "المغرب الذي وقع الاتفاقية سنة 1972 مع الجزائر، لطي صفحة النزاع الحدودي الشرقي، اشترط أن يكون استغلال مناجم الحديد بغارة الجبيلات بشكل مشترك ومناصفة، كما هو مدون في الاتفاقية".
بنود الاتفاقية
بالعودة إلى نص الاتفاقية المغربية الجزائرية للتعاون من أجل استثمار منجم غارة جبيلات، والموقعة بالرباط في 15 يونيو/حزيران 1972، نجد أنها نُشرت بالجريدة الرسمية الجزائرية عدد 48، السنة العاشرة، في 15 يونيو 1973.
وتنص الاتفاقية على تأسيس شركة جزائرية مغربية لاستثمار منجم غارة جبيلات ويشار إليها فيما يلي باسم "الشركة الجزائرية المغربية"، وبأحرفها الأولى "ش.ج.م".
ومن البنود الأساسية أيضا، وفق نص الاتفاقية، منح الشركة مدة 60 سنة من أجل تحقيق مهمتها، وذلك اعتبارا من التاريخ الذي تصبح فيه هذه الاتفاقية سارية المفعول.
وعند انتهاء مهمة الشركة، تتشاور الدولتان من أجل التوصل باتفاق مشترك إلى تحديد الصيغة التي تعطي لتعاونهما من بعد في هذا الميدان.
ومن البنود أيضا، تمنح الدولتان للشركة الجزائرية المغربية، دون مقابل ولنفس المدة، حرية المرور في الاتجاهين عبر تراب كل منهما، لنقل المعدن والمعدات والتموينات بين منجم غارة جبيلات والميناء المغربي على شاطئ المحيط الأطلسي.
وقالت الوثيقة، إن الشركة يجب أن يكون لها مقر في الجزائر وآخر في المغرب، وأن تكون الأسهم بنسبة 50 بالمئة في حوزة مؤسسة أو عدة مؤسسات عمومية تملكها كليا الدولة الجزائرية، فتشكل المجموعة الجزائرية، وبنسبة 50 بالمئة في حوزة مؤسسة أو عدة مؤسسات عمومية تملكها كليا الدولة المغربية، فتشكل المجموعة المغربية.
وتخلص الاتفاقية إلى القول تتعهد الدولتان، بصورة عامة، ببذل كل ما في وسعهما، سواء على الصعيد القانوني أو الإداري أو المالي، لكي تحقق الشركة "ش.ج.م" بسرعة وبنجاح كامل، الغرض الذي أنشئت من أجله.
ويتفق الجامعي شيات والخبير الإفريقي نور الدين أن الخطوة الجزائرية "أعطت المغرب فرصة حقيقية للمطالبة بإعادة ترسيم الحدود بين البلدين".
كما يؤكدان، أن باب التحكيم الدولي في الملف متاح أيضا، إذ تنص الاتفاقية على اللجوء إلى التحكيم حال الخلاف بينهما، سواء في تفعيل الشراكة أو إحداث تغيير على طريقة تفعيلها.
غير أن شيات يتوقف عند أثر الخطوة الجزائرية على صورتها الدبلوماسية، قائلا إن "قرارها سيُظهرها بصورة دولة غير موثوق بها دوليا، خاصة وأنها قبل أسابيع أعلنت عن إيقاف العلاقات الاقتصادية مع إسبانيا وإيقاف الاتفاقيات معها، ثم عادت إلى استئنافها دون سابق إنذار".
أما نور الدين، فيقول إن "ما قامت به الجزائر يدخل في باب المزايدة السياسية ضد المغرب، ومن باب التصعيد أيضا، ذلك أن البدء في نقل الحديد المستخرج يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية والبنيات المنجمية، وهذا مستعصي على الحكومة الجزائرية في الوقت الراهن بسبب تخبطها في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة".
وبالتالي، يضيف الخبير في الشأن الإفريقي، "إشهار هذه الورقة يدخل في إطار حملة التصعيد وتسميم العلاقات الثنائية، في اتجاه الدفع نحو مزيد من الاحتقان للوصول إلى غاية الجنرالات، وهي إشعال فتيل الحرب بين البلدين".
من جانبه، اعتبر سفير جزائري سابق أن الاتفاق الذي وقعته الجزائر مع المغرب لاستغلال منجم الحديد غارا جبيلات، "قد سقط لأسباب قانونية وسياسية".
وأوضح السفير في 4 أغسطس 2022، لموقع "الشروق أون لاين" الجزائري، -لم تسمه- أنه ”تم التوقيع على هذه الاتفاقية في 15 يناير 1972 بالرباط، وهي ملحقة بالاتفاقية المتعلقة برسم الحدود بين البلدين، وقد صادقت عليها الجزائر في 17 مايو 1972″.
وتابع: "لقد استغرق الأمر 20 سنة كاملة، قبل أن يصدر المغرب تصديقه على الاتفاق بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 1992″.
وأفاد بأنه "على عكس الجزائر، لم يسلّم المغرب تصديقه على الاتفاقية إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهو ما يثير تساؤلات عديدة حول مصداقية المواثيق التي يوقّعها هذا البلد".
ولفت الدبلوماسي السابق إلى أن “المغرب قرر قطع علاقاته مع الجزائر من جانب واحد في العام 1976، في حين كان توقيع اتفاق 1972 يهدف إلى إرساء أسس سلام دائم بين البلدين".
وأمام هذا الصراع القانوني والسياسي بين خبراء ومحللي البلدين، إلا أن الموقف الرسمي للجارين كان هو الصمت بشأن الجدل الدائر والمستمر إعلاميا حول منجم "غار الجبيلات" للحديد.
المصادر
- إنتاج منجم الحديد غار جبيلات سيتراوح بين 40 و 50 مليون طن سنويا
- الجريدة الرسمية الجزائرية
- الجزائر مضطرة لتقاسم عائدات المنجم مع شركات صينية
- بعد 70 سنة.. الجزائر تقرر استغلال عملاق الحديد النائم غار جبيلات ثالث احتياطي عالمي
- شروع منجم الحديد غار جبيلات بعد 60 عاما من الركود
- سفير جزائري سابق: لهذه الأسباب “سقط” اتفاق غارا جبيلات بين الجزائر والمغرب