تكون أكثر تدميرا.. هل تنزلق دولة جنوب السودان إلى حرب أهلية جديدة؟

منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

رغم اتفاقات السلام المبرمة منذ الاستقلال في 2011، لا تزال دولة جنوب السودان رهينة لصراع على النفوذ بين النخب الحاكمة، ما أدى إلى تأجيل الانتخابات وتفاقم الانقسامات. 

يستعرض معهد "تحليل العلاقات الدولية" الإيطالي المشهد المعقد في جنوب السودان؛ حيث تتشابك الأزمات السياسية والعرقية والاقتصادية في دائرة عنف مستمرة تهدد استقرار الدولة. 

ويبرز المعهد أن هذه التوترات تُغذى بعوامل داخلية، أبرزها التنافس العرقي بين "الدينكا والنوير" وصراع المصالح على الموارد، إلى جانب هشاشة الوضع الأمني والانهيار شبه الكامل في الخدمات. 

كما تتأثر الدولة بصراعات إقليمية وتدخلات خارجية، وسط تصاعد المخاوف من انهيار شامل إذا فشلت الحكومة في تفعيل عملية السلام.

وفي هذا التقرير، يسرد المعهد كيف أصبح جنوب السودان عند مفترق طرق حاسم بين فرص الاستقرار ومخاطر الانفجار.

تعميق الانقسامات

يستهل المعهد الإيطالي تقريره بالتأكيد على أن "جنوب السودان، بعد فترة من المصالحة السياسية والعسكرية الظاهرية، يواجه مجددا دوامة من العنف والتوترات العرقية التي لم تهدأ قط". 

وبحسب مركز الأبحاث، فإن "ما يعرفه الخبراء في هذا المجال، لكن يجهله غالبية الناس، هو أن العامل العرقي -رغم أهميته- ليس الجذر الأساسي للعنف الذي يخترق النسيج الاجتماعي للبلاد".

ويوضح المعهد ذلك مشيرا إلى وجود عناصر أخرى تستوجب اهتماما دقيقا، مثل السيطرة على الأراضي والموارد وتأثير المساعدات الأجنبية.

ولفهم كيف تطورت الأزمة إلى ما هي عليه اليوم، يستعرض التقرير المشهد في جنوب السودان بشكل تفصيلي. 

مشيرا إلى أن الانقسامات الداخلية العميقة كانت تظهر بوضوح بين الشمال ذي الغالبية المسلمة، والجنوب ذي الغالبية المسيحية، منذ استقلال السودان عن الإدارة الاستعمارية. 

وقد سعت الخرطوم -وفق ما ذكره المعهد- إلى فرض سيطرتها على الجنوب من خلال سياسة "فرق تسد"، التي عمقت الخلافات وأشعلت الصراع بين المجموعات المختلفة في المنطقة. 

وتابع: "ومع ذلك، لم تكن هذه السياسة كافية لتجنب اندلاع حربين أهليتين، ولا لمنع الصراع الطويل الذي انتهى باستقلال جنوب السودان عام 2011، عقب استفتاء صوتت فيه الأغلبية الساحقة لصالح الانفصال عن السودان".

وبحسب المركز البحثي: "بقي الوضع الداخلي هشا من عدة نواح، وكانت طموحات الزعيمين السياسيين الرئيسين، سلفا كير وريك مشار، سببا في اندلاع نزاع جديد عام 2013". 

ويضيف المعهد أن هذا الصراع أدى إلى توقيع اتفاق عام 2018 يقضي بتشكيل حكومة انتقالية تضم الحركتين السياسيتين، وتضع أسسا لتوحيد حقيقي للبلاد. 

"غير أن الصراع على السلطة بين هاتين الشخصيتين المحوريتين لم ينته، مما أعاق تنفيذ بنود الاتفاق"، حسب التقرير. 

وحتى اليوم، وبحسب ما ورد عن المعهد، "لم تُجر الانتخابات الديمقراطية الأولى، إذ أُجلت مرارا على مدى السنوات الماضية". 

"ورغم أنه من المقرر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول 2026، إلا أنه من غير المستبعد أن تُؤجل مجددا"، على حد قول المعهد.

حدود هشة

وفي هذا الإطار، يتحدث معهد "تحليل العلاقات الدولية" عن التنوع العرقي الكبير الذي تحظى به جنوب السودان، حيث تتباين العادات والتقاليد بين المجموعات المختلفة. 

وفي الإطار التحليلي، يقول المعهد: إنه "من المفيد التركيز على العلاقة بين المجموعتين الرئيسيتين؛ الدينكا والنوير، واللتين تشكلان معا نحو 50 بالمئة من السكان". 

ويذكر المعهد أن "النزاع بينهما اقتصر في البداية على اشتباكات محدودة للسيطرة على الماشية والوصول إلى الموارد الزراعية والمائية". 

"غير أن الطبقة السياسية استغلت هذه التوترات وعمقتها لخدمة مصالحها الخاصة، مما أسفر عن خلق حالة عامة من عدم الاستقرار استُثمرت لتحقيق مكاسب ضيقة"، وفق التقرير. 

وتابع: "تساعد هذه الديناميكية في تفسير الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور في البلاد، حيث تعيش غالبية السكان تحت خط الفقر، في ظل انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان ترتكبها مختلف الجماعات المسلحة المنتشرة في المنطقة".

ومن ناحية أخرى، يربط المعهد الإيطالي هذه الظاهرة بالسياق الجيوسياسي الأوسع في منطقة القرن الإفريقي.

مشيرا إلى أن هذه الظاهرة تقع في صميم التحولات السكانية التي شهدتها السنوات الأخيرة؛ حيث سُجل تدفق آلاف اللاجئين من الدول المجاورة، إلى جانب وجود 2.2 مليون نازح داخلي. 

وبذلك، يجعل هذا الواقع من جنوب السودان منطقة خاصة، من حيث كونها مصدرا وممرا ووجهة لحركات النزوح. 

وفي هذا السياق، ينوه المعهد أن "الحدود الشمالية مع السودان تُعد من أكثر النقاط توترا، بالنظر إلى الحرب الأهلية الدائرة هناك بين القوات الحكومية في الخرطوم وقوات الدعم السريع".

وفي هذا الصدد، يشير المعهد إلى أن "إقليم دارفور، الواقع في أقصى غرب السودان، شهد مجازر جديدة خلال العامين الأخيرين مع تصاعد العنف".

وهو ما زاد -بحسب المعهد- من تعقيد أزمة إنسانية بدأت في عام 2003، حين بدأ استخدام مصطلح "إبادة جماعية".

وإذا أخذنا في الحسبان -كما ورد عن المعهد- منطقة أبيي المتنازع عليها، يتضح بشكل أوضح مشهد العنف وعجز مؤسسات الدولة عن الوصول إلى المواطنين بشكل فعال، وفق ما ذكر التقرير. 

وعلى جانب آخر، يبرز المعهد الإيطالي أن "هشاشة الحدود تُعد مشكلة شائعة في دول إفريقيا جنوب الصحراء، وفي جنوب السودان تسهم المناطق المتنازع عليها في زيادة مستوى عدم الاستقرار، مما يصعب من ترسيخ سيادة القانون".

وإلى جانب "أبيي"، يحدد المعهد منطقتين إضافيتين من هذا النوع.

حيث تتمثل المنطقة الأولى في "كفيا كنجي" التي تقع على الحدود بين السودان وجنوب السودان، وهي حاليا جزء من دارفور الجنوبية.

جدير بالذكر أن اتفاق السلام لعام 2005 ينص على ضمها إلى إدارة "جوبا".

بينما تتمثل المنطقة الثانية في "مثلث إيليمي"، والذي يقع على الحدود الجنوبية مع كينيا، وتسيطر عليه الأخيرة فعليا.

وفي هذا الشأن، يوضح المعهد أن "النزاعات حول هذه المناطق تعود أساسا إلى التنافس على الموارد المعدنية واحتياطات النفط". 

وأضاف: "كما أن العامل الجغرافي يمثل عنصرا حاسما آخر، ليس فقط بسبب مرور نهر النيل الأبيض، بل أيضا بسبب الوفرة الكبيرة للنفط والذهب". 

ومن الناحية البيئية، يقول المعهد إن "هشاشة البلاد أمام موجات الجفاف والفيضانات تؤدي إلى مزيد من النزوح، ما يغذي الحلقة المفرغة من عدم الاستقرار المذكورة سابقا".

مشهد متشابك

وهنا، في قلب هذا المشهد المعقد، يسلط المعهد الإيطالي الضوء على أن "مصالح القوى الإقليمية والدولية تتقاطع، مما يزيد من تعقيد الوضع العام في جنوب السودان".

ويشير المعهد إلى أن "العنف بين المجموعات العرقية هو مشكلة ممنهجة، متجذرة في عقود من النزاعات وانعدام الأمن الغذائي وعدم الاستقرار الاقتصادي". 

وعلى حد قول معهد "تحليل العلاقات الدولية": "يرتبط مستقبل جنوب السودان بشكل وثيق بتطورات الأوضاع في السودان، ليس فقط بسبب القرب الجغرافي، بل أيضا بسبب الروابط التاريخية العميقة بين البلدين".

وتابع: "فعلى سبيل المثال، العلاقات بين حكومتي جوبا والخرطوم بعيدة كل البعد عن المثالية، في ظل تحالف قائم بين مليشيات الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان". 

وكما أشار عدد من المحللين: "لا يمكن استبعاد احتمال أن تكون عودة التوترات جزءا من إستراتيجية مدروسة من قبل الخرطوم لخلق حالة من عدم الاستقرار واستخدامها كورقة ضغط استراتيجية ضد جوبا".

"حيث تسيطر الخرطوم فعليا على صادرات جنوب السودان، نظرا لأن البنية التحتية الوحيدة القابلة للاستخدام في تصدير النفط تمر عبر أراضيها وصولا إلى بورتسودان على البحر الأحمر"، وفق المحللين. 

وفي هذا السياق، يوضح المعهد الإيطالي أن "الحظر الأخير الذي فرضته الحكومة السودانية تسبب في خسائر اقتصادية كبيرة لم تتعاف منها جوبا بعد، ومن المرجح أن تحدث تعطيلات مماثلة في المستقبل".

وإلى جانب النفط، يضيف المعهد أن "الذهب يعد أيضا من الموارد الحيوية التي تُستغل وتُهرب عبر شبكات إجرامية عابرة للحدود، تستفيد من الفساد وضعف المؤسسات". 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوغندا والإمارات تعدان من أبرز الوجهات التي يُنقل إليها الذهب. 

علاوة على ذلك، تشير مصادر إلى أن "أبوظبي تتبع سياسة زعزعة للاستقرار في القارة الإفريقية، تهدف إلى تعزيز مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية". 

وأضاف التقرير: "كما تلعب كمبالا دورا مشابها، من خلال دعم الجيش الشعبي لتحرير السودان في عملياته ضد الجماعات المتمردة". 

وفي هذا السياق، ينوه المعهد إلى أن "حظر السلاح المفروض من الأمم المتحدة لا يبدو أنه فعال في ظل وجود قنوات بديلة لتهريب الأسلحة".

جدير بالإشارة هنا إلى أن "الصين تعد واحدة من أبرز مصادر هذه الأسلحة المهربة".

مصير مجهول

وفي المقابل، يلفت معهد "تحليل العلاقات الدولية" إلى أن "القوى العالمية الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، تظل على الهامش لتجنب التورط المباشر في تعقيدات النزاع الإقليمي، غير أن قراراتهم سيكون لها أثر بالغ على مستقبل البلاد". 

وعلى سبيل المثال، خفضت واشنطن تمويل المساعدات الإنسانية، في خطوة لها انعكاسات كبيرة محليا وإقليميا، حتى مع الجدل القائم حول مدى فعالية تلك المساعدات في الوصول إلى المحتاجين. 

أما الصين، فيذكر المعهد أنها "تواصل لعب دور محوري من خلال مشاريع البنية التحتية وشراكاتها القوية في قطاع النفط".

وفي ظل هذا المشهد، يقول المعهد الإيطالي: إنه "من الصعب التنبؤ بمصير البلاد، حتى على المدى القصير، نظرا لتعدد الأطراف وتضارب المصالح". 

وفي أفضل السيناريوهات، من وجهة نظر مركز الأبحاث، ستُحتوى موجة التوترات الداخلية وتُستأنف عملية تنفيذ اتفاق السلام. 

ولكن من المرجح أن "تظل التوترات العرقية عند مستويات خطيرة، مع احتمال اندلاع موجات جديدة من التصعيد في الأشهر المقبلة".

أما في أسوأ السيناريوهات، كما يسرد المعهد، فقد تتفاقم الأزمة الداخلية لتصل إلى حد اندلاع حرب أهلية جديدة. 

وفي النهاية، يؤكد المعهد أنه "في ظل كثرة المتغيرات، يتضح أن مستقبل السودان وجنوب السودان بات مترابطا بشكل كبير". 

وكما ذكر سابقا: "إذا ما اندلعت حرب بين الفصائل المسلحة المنتشرة في البلاد، فقد تتسبب في كارثة إنسانية تتجاوز في حجمها حتى ما حدث في دارفور، مع تصاعد ضغوط الهجرة عبر منطقة الساحل وشمال إفريقيا".