رغم قصف غزة.. لماذا يتجاهل العالم جرائم الاحتلال ويركز على الفصل العنصري؟
تصاعد التركيز الدولي خلال السنوات الأخيرة على توجيه اتهامات بـ"الفصل العنصري" لإسرائيل، في خطوات متقدمة تلقى ترحيبا فلسطينيا كبيرا، ولكن أيضا تخوفات من حجب الاهتمام عن المشكلة الأساسية.
ورغم أهمية هذه الخطوات، فإنها تتجاهل في الغالب جذور الأزمة التي بدأت بالنكبة الفلسطينية عام 1948، ومن ثم الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 للضفة الغربية والقدس وغزة (انسحب منها عام 2005 أمام تصاعد عمليات المقاومة لكنه يحاصرها منذ 15 سنة وشن 4 حروب عليها).
كما أن جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، وآخرها القصف على القطاع الذي بدأ 5 أغسطس/آب 2022، وأسفر عن استشهاد أكثر من 30 مدنيا، لم يحقق نفس التضامن مع القضية مثل "الفصل العنصري"، بل هناك دول غربية وقفت بجانب "الظالم" وتجاهلت "الضحية" في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الإنساني الدولي.
ولا يحاول هذا التقرير نفي التهمة المذكورة عن إسرائيل، ولكن تأصيل الأزمة وإعادتها إلى جذورها، إذ يرى البعض أن التركيز الدولي على قضية "الفصل العنصري" وتجاهل "الاحتلال" العسكري للأراضي الفلسطينية، يميع القضية ويضرها.
آخر الخطوات
في يوليو/تموز 2022، وقع حوالي 40 نائبا يساريا في فرنسا معظمهم من الشيوعيين، مشروع قرار يدين "نظام الفصل العنصري المؤسسي" الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
ويتهم النص إسرائيل بأنها "أقامت نظاما مؤسسيا للقمع والسيطرة الممنهجة من قبل مجموعة عرقية واحدة".
وكتب النواب في مشروع قرارهم "منذ إنشائها في العام 1948، تنتهج إسرائيل سياسة تهدف إلى إقامة هيمنة يهودية ديمغرافية والحفاظ عليها".
وسبقهم في منتصف يونيو/حزيران 2022 تصديق برلمان إقليم كتالونيا الإسباني بالأغلبية خلال تصويت تاريخي على قرار يقضي بأن إسرائيل "ترتكب جريمة الفصل العنصري" ضد الفلسطينيين.
وبذلك أصبح البرلمان الكتالوني الأول في القارة الأوروبية من ناحية الاعتراف بأن إسرائيل ترتكب جريمة الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني.
وجاء في القرار أن "النظام الذي تطبقه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتعارض مع القانون الدولي، ويكافئ جريمة الفصل العنصري على النحو المحدد في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية".
ولوحظ في الخطوتين الفرنسية والكتالونية عدم التطرق إلى الاحتلال كمشكلة أساسية تسببت بما يطلق عليه اليوم "فصل عنصري".
وفي تفاصيل تلك البيانات والقرارات غابت الدعوات لإنهاء الاحتلال والهيمنة العسكرية على الأراضي الفلسطينية.
وينسحب ذات الأمر على تقرير منظمة العفو الدولية "أمنستي" الصادر في الأول من فبراير/شباط 2022، والذي اتهمت إسرائيل فيه بأنها دولة "فصل عنصري".
وطالبت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنياس كالامار، بمساءلة إسرائيل على ارتكاب جريمة "الفصل العنصري" ضد الفلسطينيين المقيمين فيها وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلا عن اللاجئين النازحين في بلدان أخرى.
ويبين التقرير بالتفصيل كيف أن إسرائيل "تفرض نظام اضطهاد وهيمنة على الشعب الفلسطيني أينما ملكت السيطرة على حقوقه".
وجاء التقرير في 211 صفحة بعنوان "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظام قاس يقوم على الهيمنة.. وجريمة ضد الإنسانية".
وسبقها في 27 أبريل/نيسان 2021، اتهام منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إسرائيل بارتكاب "الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد في الأراضي الفلسطينية".
وأضافت "تستند هذه النتائج إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية الشاملة للإبقاء على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين، والانتهاكات الجسيمة التي ترتكب ضدهم".
وقبل ذلك وتحديدا في يناير/كانون الثاني 2021، أسست منظمة "بتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية (غير حكومية) لذات المعنى، بإطلاقها وصف "دولة فصل عنصري" على إسرائيل.
وعللت "بتسيلم" في "ورقة موقف" وصفها بأن "النظام الإسرائيلي يسعى لتحقيق وإدامة تفوق يهودي في المساحة الممتدة من النهر (الأردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط)"، في إشارة إلى "أرض فلسطين التاريخية".
وقالت المنظمة الشهيرة: "كل المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل، داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة، يقوم فيها نظام واحد يعمل وفق مبدأ ناظم واحد: تحقيق وإدامة تفوق جماعة من البشر (اليهود) على جماعة أخرى (الفلسطينيين)".
وتعاملت المنظمات الثلاث المذكورة آنفا مع الاحتلال كأمر واقع، الأمر الذي قد يوهم كثيرين حول العالم بأن مشكلة هذا الصراع أساسها عرقي عنصري.
أين المشكلة؟
لتحليل هذه الجزئية لا بد من التطرق إلى تعريف "الفصل العنصري" الذي يعد بحسب المادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية "جريمة ضد الإنسانية".
وتعرفه المحكمة المذكورة بأنه "أي أفعال غير إنسانية ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أي جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام".
وتنص المادة الثانية من نفس الاتفاقية على أن عبارة "جريمة الفصل العنصري" تنطبق على الأفعال اللاإنسانية المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما على أية فئة عنصرية أخرى واضطهادها إياها بصورة منهجية.
أما "الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها" (أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 ودخلت حيز التنفيذ في 1976)، فتقول إن هذه الجريمة "تنطبق على الأفعال اللاإنسانية المرتكبة لغرض إقامة هيمنة فئة عنصرية ما على أي فئة عنصرية أخرى واضطهادها".
ومن هنا يرى كثيرون أن التعريفات السابقة تنطبق على ما جرى في جنوب إفريقيا التي حكمت فيها الأقلية البيضاء منذ عام 1948 لمدة نصف قرن حتى السقوط الرسمي في 1991.
ويجادل هؤلاء بوجود "نظام مؤسسي" خدم "نية الهيمنة العنصرية" في جنوب إفريقيا، ولا يمكن إسقاط ذات الأمر على ما يحدث في فلسطين كليا.
وقال الباحث محمد الدجاني الداودي، وهو زميل سابق بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومدير "معهد الوسطية الأكاديمي" في القدس، إن "الأمثلة المذكورة في (تقارير المنظمات الدولية) هي في الأغلب ناشئة عن سياسات الاحتلال وليس الفصل العنصري".
وأوضح في مقال نشره منتدى "فكرة" للدراسات في أبريل/نيسان 2017 أن "هؤلاء الذين يتهمون إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري يخلطون ما بين سياسات الاحتلال والفصل العنصري"، وفق رأيه.
ويطرح الداودي مثالا على ذلك قائلا إن "الجيش الإسرائيلي فكك مشروعا (لم يذكر التاريخ) بتمويل هولندي في الضفة الغربية على ضفاف نهر الأردن، بما في ذلك معداته وحظائره".
وكان هذا المشروع الذي صرفت عليه هولندا نحو 10 ملايين يورو يعنى بتعليم الفلسطينيين كيفية استخدام الأرض لزراعة محاصيلهم الخاصة.
وأردف أن "هذه سياسة احتلالية قمعية، وليست فصلا عنصريا، والجدار الذي بنته إسرائيل هو جدار فصل جاء في أعقاب الهجمات التي طالت الإسرائيليين وكان الغرض الأساسي منه فصلهم عن الفلسطينيين لأسباب سياسية وأمنية".
ويرفض فلسطينيون هذه التسمية أيضا ويقولون إنه جدار احتلالي عسكري هدفه الأول منع "العمليات الفدائية".
احتلال واستعمار
وشرعت إسرائيل ببناء الجدار المذكور في يونيو/حزيران 2002، على أراضي الضفة الغربية (أغلبه أسمنتي وبعضه يتكون من سياج وأسلاك شائكة)، بداعي منع فلسطينيين من التسلل، في خطوة أدانتها الأمم المتحدة.
وفي تقارير سابقة، قال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة إن طول الجدار يبلغ 712 كيلومترا ويقع 85 بالمئة منه داخل أراضي الضفة الغربية وليس على طول الخط الأخضر (حدود عام 1967) التي تحتلها إسرائيل.
ويوضح الداودي أن "إسرائيل لا تمارس التمييز ضد الفلسطينيين بسبب جذورهم العرقية أو بسبب لون بشرتهم بل لأنها تريد استمرارية الاستحواذ على أراضيهم".
وبين أن "اتهام إسرائيل بالفصل العنصري لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يصرف الاهتمام عن واقع أن إسرائيل هي دولة احتلال"، وفق تقديره.
وواصل القول أن "الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لا يتعلق بفصل عنصري بين مواطني الدولة كما كان الحال في جنوب إفريقيا وإنما هو احتلال جاء في أعقاب نصر عسكري"، بحسب وصفه.
وختم الداودي بالقول أن "ما يطالب به الفلسطينيون ليس إنهاء الفصل العنصري في دولة إسرائيل بل إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية والاعتراف بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم وحقهم بإقامة دولة حرة مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشريف".
يختلف مع هذا الرأي، نعيم جينا، مدير مركز الدراسات الشرق أوسطية الإفريقية والمهتم بموضوع "الفصل العنصري".
وقال جينا لـ"الاستقلال" إن "إسرائيل دولة تمارس الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري في آن واحد، ويجب أن توصف بأنها مذنبة من الثلاث نواحي وأن نحارب تلك المظاهر سياسيا".
وبين أن "تصنيف ممارساتها على أنها تفرقة عنصرية لا يعني تجاهل الاحتلال، بل يفتح جبهة إضافية في المعركة ضد إسرائيل".
وتحدث عن أهمية ذلك الأمر بالقول: "على المستوى القانوني الذي يجب أن نخوض المعركة فيه، فإن الاحتلال ليس جريمة (غير مصنف دوليا بهذه الصورة)، في حين أن الفصل العنصري الإسرائيلي والاستعمار جريمة".
وبالتالي، فهو يعتقد أن "تصنيف أفعال إسرائيل على أنها فصل عنصري يعمق عدم شرعيتها على المستويين القانوني والعلاقات الدولية".
ويختم جينا بالقول: "من هذا المنظور إذن، لا يمكن أن يضر (التركيز على هذه التهمة) القضية الفلسطينية ولكنه يساعد على المضي قدما، طالما أن الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار ومشروع الإبادة الجماعية لم يجر تجاهلها لصالح حجة الفصل العنصري".