في ظل الاتجاه إلى "دولرة" السلع والخدمات.. ما مستقبل الاقتصاد اللبناني؟
في ظل الوضع الاقتصادي المزري في لبنان وابتعاد المعنيين عن الحلول اللازمة لإنقاذ البلاد التي تفشى فيها الفقر والتضخم والفساد، تراجع سعر الصرف الليرة اللبنانية إلى مستويات قياسية متجاوزا الـ 37 ألف ليرة أمام الدولار الواحد.
تدخل مصرف لبنان المركزي في 27 مايو/أيار 2022، ليعيد العملة المحلية عند 27 ألف ليرة للدولار.
وجاء التدخل عبر تعميمين جديدين للجم الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار، الأمر الذي انعكس سريعا على السوق، ما أدى إلى هبوط كبير للدولار من 37 ألف ليرة إلى أقل من 30 ألفا خلال ساعتين فقط.
ويعد هذا التراجع بسعر الصرف الأكبر والأسرع خلال يوم واحد، الأمر الذي عكس مدى الغموض حول طبيعة أداء العملة المحلية والسيطرة عليها، ويثير الشكوك حول سلوك المصرف المركزي ومدى قدرته على السيطرة على سعر الصرف.
يأتي ذلك عقب انتخابات البرلمان التي أفرزت، في 15 مايو 2022، بعض التغييرات في مقاعد الأحزاب.
وارتفعت مقاعد حزب "القوات اللبنانية" إلى 18 مقعدا بدلا من 14، بينما تراجعت "كتلة التيار الوطني الحر" (أسسها الرئيس ميشال عون) وحليف حزب الله من 21 مقعدا إلى 18.
ويأمل المواطن اللبناني أن تنعكس تلك التغيرات على واقع البلاد خاصة على الأزمة الاقتصادية المحلية التي وصفها البنك الدولي "من ضمن أسوأ ثلاث أزمات في العالم".
إلا أن المشهد الأخير لسعر صرف الليرة الذي جاء كأول اختبار بعد الانتخابات يكشف عن أن الأزمة مستمرة لفترة طويلة ما يهدد الأمن الاجتماعي في ظل تدني المستويات المعيشية.
"غير مستدامة"
ويأتي تدهور سعر صرف الليرة نتيجة عدم التوازن بين سعر الصيرفة وحجم مبيع الدولار في السوق خاصة السوداء.
ويسهم هذا التدهور في تراجع القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع معدلات التضخم والفقر وهروب المستثمرين.
وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، فإن أسباب انهيار سعر صرف الليرة عديدة، أبرزها انعدام الثقة في الليرة اللبنانية.
وأشار لـ"الاستقلال" إلى أن أي مواطن يحصل على الليرة يذهب فورا لتحويلها إلى دولار ما خلق ضغطا تصاعديا على العملة المحلية.
وأضاف مارديني، أنه من ضمن الأسباب هو أن الليرة أصبحت غير مغطاة بالنمو الاقتصادي لأن لبنان يعاني من نمو سلبي ما يسهم في انخفاض غطاء العملة المحلية.
بالإضافة إلى أن ما بقي من غطاء نقدي أجنبي كالدولار أصبح غير كاف نتيجة الانخفاض الحاد في احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، فضلا عن زيادة الكتلة النقدية بالليرة من خلال طباعة النقود وضخها بالسوق.
ويؤدي الاتساع الهائل في الفجوة المالية بين طلب السوق اللبنانية المقدرة شهريا بنحو 600 مليون دولار لتغطية الاستهلاك المحلي، مقابل المعروض من النقود الذي لا يتجاوز 120 مليون دولار، إلى الاتجاه لطباعة أطنان من العملات الورقية بالليرة لتغطية الفارق.
وارتفعت الكتلة النقدية المالية المتداولة في الاقتصاد المحلي من 34.4 تريليون ليرة في فبراير/شباط 2021 إلى 46 تريليون ليرة في يناير/كانون الثاني 2022، أي بزيادة قدرها 33.4 بالمئة.
وذلك بعدما كان نحو 17 تريليون ليرة في عام 2019، أي ضخ نحو 2000 مليار ليرة شهريا في الاقتصاد اللبناني كمعدل وسطي.
ويسهم تراجع معدل النمو في انكماش الناتج المحلي الإجمالي ما يجعل من الصعوبة بمكان أن يجاري إجمالي الناتج حجم الزيادة في المطبوع من النقود. وهو أمر يقلص الغطاء النقدي للعملة المحلية ويجعل من التضخم أداة تفتك بالاقتصاد.
ويقدر تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، الصادر عن البنك الدولي، أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي هبط بنسبة 10.5 بالمئة في 2021 في أعقاب انكماش نسبته 21.4 بالمئة في 2020.
وانخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان من قرابة 52 مليار دولار أميركي في 2019 إلى مستوى متوقع قدره 21.8 مليار دولار أميركي في 2021.
وبذلك سجل انكماشا نسبته 58.1 بالمئة، وهو أشد انكماش في قائمة تضم 193 بلدا، وفق بيانات تقرير البنك الدولي.
وأشار الخبير اللبناني إلى أن تدخل مصرف لبنان لخفض سعر الصرف بهذا الشكل غير صحيح، مشيرا إلى أنه بهذا الشكل يخسر البنك المركزي ما لديه من احتياطي العملات الأجنبية أو ما تبقى منها، ما يسهم في تغير سعر الصرف بطريقة لا تتناسب مع حقيقة السوق.
ولفت مارديني، إلى أن هذه المنهجية التي يتبعها مصرف لبنان في الحفاظ على سعر صرف العملة المحلية لا يستطيع أن يستمر بها على طول الخط.
وأشار إلى أنه بالنهاية سيفرط الأمر من بين يدي المصرف وحينها ستكون أسعار الصرف كبيرة جدا، ما يعني أن الصدمة ستكون شديدة بمجرد فقدان الأخير قدرته على التدخل.
وأوضح أن السياسة النقدية الحالية التي تتسبب في الكثير من التقلبات بسعر صرف الدولار مقابل الليرة من ارتفاع إلى 37 ألف ليرة للدولار ثم الانخفاض إلى 27 ألفا، أي تغيير بنحو 37 بالمئة خلال يوم واحد، تسهم في ذعر المستثمرين وخروج الاستثمارات من لبنان.
انعدام الشفافية
وبالتالي نجد اليوم أنه لا أحد لديه الرغبة أو الثقة في الاستثمار في بيروت، نظرا لأن المستثمر لا يعلم على أي سعر صرف سيسترجع أمواله، وفق تقديره.
كما أن تقلبات سعر الصرف تؤدي إلى تراجع التبادل التجاري وارتفاع البطالة نتيجة تخارج تلك الاستثمارات.
وارتفع معدل البطالة في لبنان من 11.4 بالمئة في الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2019 إلى 29.6 بالمئة في يناير/كانون الثاني 2022، أي زاد بنحو ثلاثة أضعاف، بحسب إدارة الإحصاء المركزية ومنظمة العمل الدولية.
ويعد أحد العوامل الرئيسة التي دفعت الليرة إلى هذا الهبوط خلال يوم واحد هو انتشار الشائعات بأن الليرة ستنخفض بشكل كبير.
وهو ما أدى زيادة الطلب على الدولار وعكس عدم ثقة المتعاملين بالعملة كونهم تفاعلوا مع الشائعات دون تحقق، قبل أن تأتي بيانات مصرف لبنان المركزي.
ودعا المصرف حاملي الليرة الذين يريدون تحويلها إلى الدولار الأميركي، التقدم بطلبات إلى المصارف اللبنانية على سعر منصة "صيرفة".
وهو ما يعني أن مصرف لبنان قدم وعدا للبنانيين الذين كانوا أمام واقع شراء الدولار بقيمة تصل عند 38 ألف ليرة للدولار، بأنه سيكون معروضا عليهم نهار 29 مايو بقيمة 24600 ليرة أمام الدولار الواحد في المصارف.
وهذا الأمر يعني عمليا تفعيل عمل المصرف في ضخ الدولارات إلى الأسواق من احتياطاته من أجل دعم سعر الصرف الذي يمثله على منصة صيرفة.
والتي كان تعثر عملها والتزام المصارف بها من أبرز أسباب الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار مؤخرا.
بدوره، قال مارديني، إن البنك المركزي يتحدث عن أن احتياطاته ما زالت عند 12 مليار دولار، ولكن فعليا لا نعرف كيف يحتسب المصرف تلك الأموال.
وتابع: "هل يحتسب المصرف الأموال التي قدمت إليه من صندوق النقد الدولي الخاصة بحقوق السحب ضمن احتياطاته أم لا؟ وبالتالي في حال أنه يحتسبها فهذا يعني أن الاحتياطي انحدر بشكل كبير وحقوق السحب الخاصة بالصندوق دعمته".
وزاد: "أم يحتسب المصرف القروض التي أعطاها للحكومة اللبنانية معتقدا أنه ما زال قادرا على استرجاعها وأنها من ضمن احتياطاته أم لا، وبالتالي طريقة الحساب هي التي تأتي في اهتمامنا نحن الاقتصاديين".
ويعتقد الخبير اللبناني، أنه رغم الحديث عن أن الاحتياطي عند 12 مليار دولار، فإنه في حال كان هناك حالة من الشفافية سنجد أن الاحتياطي أقل من هذا الرقم.
وأشار إلى أن السياسة التي يتبعها المصرف من خلال ضخ دولارات بالسوق لضبط سعر الصرف غير مستدامة ومحدودة بكمية الدولارات التي ما زالت بحوزته.
في خضم تلك المعطيات، تظل السياسة النقدية من قبل البنك المركزي في لبنان تعمق الأزمات الاقتصادية وتنتج سياسات غير مدروسة تنعكس على المواطن أيضا، خاصة في ظل التخبطات السياسية وعدم التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي.
ويعاني نحو 82 بالمئة من إجمالي السكان من الفقر متعدد الأبعاد، بينما بلغت نسبة من يعانون من الفقر المدقع متعدد الأبعاد نحو 40 بالمئة، وفق دراسة نشرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" في 3 سبتمبر/أيلول 2021.
ويسعى لبنان للتوصل إلى برنامج مساعدات مع صندوق النقد الدولي، للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية الحادة.
وتوصلت السلطات اللبنانية إلى اتفاق مبدئي مع الصندوق لتمويل بقيمة 3 مليارات دولار تصرف على مدى أربع سنوات.
ويعتقد مارديني، أن عودة الاقتصاد اللبناني للانتعاش تتطلب ما لا يقل عن 10 سنوات من الآن على الأقل نظرا لتردي الوضع الاقتصادي.
ويرى الخبير أن الاتجاه إلى دولرة الأسعار في ظل عدم قدرة لبنان على إصلاح العملة المحلية يسهم في حماية الاقتصاد من تقلبات سعر صرف الليرة نتيجة الاستقرار الذي سينعكس في السوق المحلية. وبالتالي ستنجذب الاستثمارات التي ستضمن أنها ستبيع وتشتري بالدولار.