تمنع ترميمها أيضا.. ما سر تعمد إسرائيل تحطيم "قمريات" الأقصى؟

12

طباعة

مشاركة

كان مشهدا مثيرا للغضب حين اعتلى جنود الاحتلال الإسرائيلي يومي 15 و19 أبريل/نيسان 2022 أسطح المصلى القبلي المرواني، وهو جزء من المسجد الأقصى، وكسروا نوافذه التاريخية.

دمرت قوات الاحتلال بهمجية نوافذ المسجد الزجاجية الفريدة، كي تتمكن عبرها من إطلاق قنابل الصوت والغاز والرصاص المطاطي على المرابطين بداخله واعتقال الشبان الفلسطينيين المتحصنين لحمايته.

نوافذ المسجد، والتي دمرت قوات الاحتلال بعضها، ليست عادية فهذه الشبابيك البديعة، والتي تسمى "قمريات" في فن العمارة الإسلامية، تصنع بعناية فائقة وبمهارة عالية، ويستغرق العمل على النافذة الواحدة قرابة ستة أشهر.

لكن الصور التي ظهرت عقب هجوم الاحتلال الهمجي على نوافذ المسجد الأقصى أظهرت تدميرهم هذا التراث في دقائق، في تصرف متعمد لتحطيم هذه العمارة الإسلامية ضمن خطة طمس المعالم الإسلامية للأقصى والقدس.

وعام 1969، إثر الحريق الذي أشعله أحد المستوطنين في المسجد القبلي، والذي التهمت نيرانه أكثر من ثلث المسجد، بما فيه منبر صلاح الدين، تحطمت 48 نافذة.

وتقول دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، إن نحو عشر نوافذ في المسجد الأقصى لحقت بها أضرار خلال المواجهات مع الاحتلال في مايو/أيار 2021 إضافة إلى 8 أخرى تقريبا كسروها في مواجهات أبريل/ نيسان 2022.

لم يكتف الاحتلال بالتدمير المباشر العلني لهذه القمريات، بل منع كل أعمال الترميم والصيانة في المسجد الأقصى ورفض إدخال المواد اللازمة لذلك، في محاولة لتدمير هذه المعالم التاريخية بمعول الزمن والعوامل الطبيعية.

قصة القمريات 

يطلق على الزجاج المعشق الذي تتسلل منه خيوط الشمس وضوء القمر في العمارة الإسلامية، اسم "الشمسيات" أو "القمريات"، والأولى هي النوافذ نصف دائرة، غير المستديرة، أما الثانية فهي النوافذ المستديرة كالقمر مثل نوافذ المسجد الأقصى.

ويقدر عدد "القمريات"، بالمسجد الأقصى بـ 56 نافذة تضيء مع ضوء الشمس، وهي بمثابة لوحات تتزين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وأشكال هندسية دقيقة أبدعها فلسطينيون، وتحكي قصص فنون العمارة الإسلامية.

وقد صممت نوافذ المصلى القبلي الذي يبلغ سمك جداره نحو متر لتكون من جهتين واحدة خارجية مصممة بأشكال هندسية من الجبس المعشق بالزجاج الشفاف، وأخرى داخلية مزخرفة بالزجاج الملون بصور النباتات وبالرسوم الهندسية.

وتعد صناعة القمريات من أبرز الفنون التشكيلية الإسلامية، التي بدأت من اليمن قبل 4 آلاف سنة، وبلغت أوج ازدهارها في عهد المماليك لتصبح علامة بارزة في العمارة الإسلامية.

وتصنع القمرية من مادة الجص (تشبه الجبس) ثم تصب عجينة على لوح خشبي بأبعاد معينة وفق مساحة القمرية قبل أن يرسم الشكل المطلوب بآلة ‏الفرجار‏، وتحفر الرسوم بالسكين لإظهار الزخارف.

ثم تترك القمرية لمدة يومين حتى تجف وتوضع على أرضية ناعمة، لتبدأ مرحلة تثبيت الزجاج الملون.

وكل متر مربع من نوافذ المسجد الأقصى يستغرق بين 120 و140 ساعة وأكثر من العمل، أي أن النافذة الواحدة تحتاج بين 4 و6 شهور لينتهي تنفيذها فيما لا يحتاج جنود الاحتلال لأكثر من دقيقة واحدة، كي تحطمها بنادقهم. 

بعد أن تعرضت نوافذ المسجد الأقصى المزخرفة للتكسير بسبب اقتحامات قوات الاحتلال الإسرائيلي والاعتداء على المرابطين، عرضت مصورة بمدينة القدس رحلة تصنيع هذه النوافذ مع صناعها.

المصورة "آية أمين" بثت مقطع فيديو يظهر المراحل الأولى لتصنيع النوافذ، والتي عادة ما تأخذ أشكالا مزخرفة ذات طابع إسلامي تاريخي.

"أمين" تشرف على مدونة "صور فلسطين" وتنشر عبرها صورا معبرة عن تاريخها، قالت عبر فيديو نشرته بالتزامن مع الاقتحام إن: "نوافذ الجامع القبلي التي دمرت قوات الاحتلال بعضها مؤخرا، ليست نوافذ عادية أبدا".

أضافت أن "هذه النوافذ البديعة التي تسمى بالقمريات في فن العمارة الإسلامية تعمل بعناية بالغة وبمهارة عالية، حيث تنحت بأشكال زخرفية ويضاف إليها الزجاج الملون بدقة".

كشفت أن الاحتلال يعرقل عمليات الترميم داخل المسجد الأقصى، حتى إن بعض النوافذ التي دمرت في أحداث العام 2021 لم يجر استبدالها حتى الآن ومكانها مغطى بالبلاستيك".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Aya Amin (@aya.amiin)

ونشر الناشط "مجد هدمي"، صورة لأحد المشرفين القدامى والفنيين المحترفين في نحت تلك النوافذ، يدعى "العم أبو أشرف الموسوس"، الذي تعلم المهنة من والده.

أوضح "أبو أشرف" أن" المهنة تحتاج إلى عين بصيرة وجرأة وتحكم دقيق في قوة النحت والكثير من الصبر وطول البال"، مشيرا إلى أن سر اختيار الألوان "ذوق من بركة الأقصى" وفق تعبيره.

ويروي "بشير الموسوس"، أحد من يتولون ترميم نوافذ مصليات المسجد الأقصى وتحديثها، لموقع جمعية حماية التراث العثماني في بيت المقدس (ميراثنا) أن الوقت الذي تستغرقه كل نافذة في العمل مرتبط بنوع الزخرفة فيها.

فمنها ما يحتوي على زخارف هندسية ونباتية، يحتاج كل متر مربع فيها حوالي 140 ساعة فما فوق، فيما تستغرق نوافذ أخرى لا تحتوي على طبقات أرضية 120 ساعة من العمل في كل متر مربع منها.

أوضح أنه في الاعتداءات الأخيرة، دمرت قوات الاحتلال 8 نوافذ ما بين شبابيك خارجية وداخلية، منها نافذتان بالكامل داخلية وخارجية عند مصلى الجنائز، إضافة لنافذتين جرى استحداثهما، ليفتحا بزاوية معينة لقلة التهوية في المصلى القبلي. وقال: "أحتاج إلى عامين آخرين لأصلح ما دمروه في بضع لحظات".

وفي مقابلة مصورة مع وكالة رويترز البريطانية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 عقب مواجهات رمضان من ذلك العام، قال مدير دائرة الإعمار بالمسجد الأقصى بسام الحلاق، إن الاحتلال يعتمد تكسير نوافذ المسجد.

وأضاف أن "هذه الشبابيك تصنع في ورشة الإعمار بيد فنيين فلسطينيين، وكله شغل يدوي لا يدخل فيه أي شيء كهربائي، وكل شباك يستغرق نحو ستة أشهر عمل".

أوضح أن 98 بالمئة من نوافذ الأقصى جددت على يد فنيين فلسطينيين مهرة بعد حريق سنة 1969 الذي أتى على أجزاء من المسجد. وأشار إلى أن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لديها الرسومات الأصلية لزخارف النوافذ.

ويقول الباحث في العمارة اليمنية إبراهيم القباطي لموقع "الجزيرة نت" 19 أبريل 2019، إن القمرية جزء من التميز الحضاري في البناء اليمني وحضارات اليمن، مثل سبأ في العام 275، وحمير في العام 525.

وبين أنه "بمرور الزمن تطورت القمرية بشكل أو بآخر، كتراث إسلامي، من حيث نوعية المواد المستخدمة في تشكيلها كالرخام أو الزجاج، بالإضافة إلى الشكل وهو ما يلاحظ بوضوح في المساجد الأثرية، والمنازل القديمة، ومنها المسجد الأقصى.

تهويد ثقافي

"إذا حصلنا يوما على القدس، وكنت لا أزال حيا قادرا على تنفيذ أي شيء، فسوف أزيل كل ما ليس مقدسا لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها عبر قرون". 

بهذه الكلمات القصيرة لخص رئيس المؤتمر الصهيوني الأول وصاحب كتاب الدولة اليهودية "ثيودور هرتزل" السياسات الإسرائيلية تجاه القدس والأقصى منذ احتلالها، والتي ترتكز على محو أي آثار إسلامية، خصوصا في منطقة المسجد الأقصى.

وتعد خطة إنجاز "الحدائق التوراتية السبع" المحيطة بالبلدة القديمة، من أخطر مشاريع التهويد الثقافي، ولا تقل خطورتها عن التهويد الديمغرافي والجغرافي، بحكم أنها تستهدف طمس حضارة القدس العربية والإسلامية.

فهذه الخطة هدفها تغيير طابع القدس التاريخي، وتحويل المشهد المقدسي على الصعيد المكاني والتاريخي، من عربي إسلامي إلى تلمودي توراتي، ومن ثم شطب الرواية العربية الإسلامية في القدس، وتزوير التاريخ والجغرافيا لإحكام السيطرة.

ويعمل الاحتلال على إقامة الحدائق السبع، حول البلدة القديمة بالقدس ومحيط المسجد الأقصى المبارك، ضمن مخطط شامل يستهدف تطويق وخنق المسجد من جميع الجهات، ليبدو المكان "تلموديا توراتيا" وليس عربيا إسلاميا.

والحلقة الرئيسة في هذا المخطط التي تتركز فيها الحدائق، هي بلدة سلوان، كونها محاذية للمسجد الأقصى من الجهة الجنوبية، وتشكل خط الدفاع الأول عنه، وهو ما يفسر سر تركيز الاحتلال على سلوان والسعي لتهجير 800 أسرة عربية منها.

ويقول الباحث المختص بشؤون القدس "فخري أبو دياب"، لموقع "الهدف" في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2020 إن مخطط الحدائق يأتي ضمن مشروع "أورشليم" حسب الوصف التوراتي.

ويهدف المخطط إلى جعل محيط البلدة القديمة والأقصى محاطا ومحاصرا بسلسلة من الحدائق والمسارات التلمودية، بعد أن يجري تغيير معالم المنطقة بسبب أعمال الحفريات والتجريف، مشيرا إلى أن سلطات الاحتلال قطعت شوطا كبيرا في تنفيذها.

أضاف أنه "لإقامة هذه الحدائق، صادرت سلطات الاحتلال نحو 5000 دونم من الأراضي، بعضها كانت أملاكا خاصة، وأخرى تعود إلى دائرة الأوقاف الإسلامية، وجرى تخصيص ميزانية لأجل إقامتها.

ومن أشهر أساليب التهويد الأخرى التي يتبعها الاحتلال، تغيير الأسماء العربية والإسلامية، للأماكن المقدسة والآثار والأماكن واستبدالها بأسماء عبرية.

ومنها تغيير معالم البلدة القديمة من خلال تزوير الشواهد التاريخية والحضارية للمدينة وخطة ما يسمونه "الحوض المقدس" والزج ببعض القطع الأثرية المزيفة في بعض الأماكن التاريخية، لإضفاء طابع يهودي.

وقد كشفت دراسة أعدها رئيس لجنة الحريات بلجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني الشيخ كمال خطيب، أنه منذ نكبة 1948 واحتلال فلسطين جرى تحويل 15 مسجدا إلى معابد لليهود.

وأكدت الدراسة التي نشرتها وكالة الأناضول التركية في 28 يوليو/تموز 2022 أنه جرى أيضا هدم 40 مسجدا أو إغلاقها أو باتت مهملة، إضافة إلى 17 مسجدا حولت إلى حظائر للأغنام والأبقار أو مطاعم وخمارات ومتاحف ومخازن.

ويقول عضو الهيئة الإسلامية العليا بالقدس جمال عمرو، إن مجموع الشوارع والأزقة والحارات والساحات العامة والأبنية التاريخية والعامة التي غيرتها سلطات الاحتلال منذ عام 1948 حتى اليوم بلغت أكثر من 22 ألف اسم.

وأوضح لموقع "العين" في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إن تغيير الأسماء يرمي إلى غرس المفاهيم والمصطلحات اليهودية التوراتية في الجيل الصاعد وفي عقول السياح الوافدين لإسرائيل وإضفاء صبغة دينية على كل فلسطين وأبرزها القدس.

ربما لهذا، أثارت الخطط التركية لإحياء التراث الإسلامي في القدس غضبا وخلافات مع إسرائيل.

 واتهمت تقارير إسرائيلية يوليو/تموز 2018 الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه يبني "الحي الإسلامي التركي" في القدس، ويرمم منازل الفلسطينيين.

وتحت عنوان "أردوغان يبني الحي التركي في القدس"، سلطت صحيفة "إسرائيل هيوم" 3 يوليو 2018 الضوء على ما قالت إنه "تنامي النفوذ التركي" في المدينة المحتلة.

وقالت إن تركيا تسعى إلى تعزيز سيطرتها ونفوذها في شرق القدس عبر جمعية "ميراثنا" وجمعيات أخرى لها نشاطات إنسانية واجتماعية، فيما يعد انتهاكا للسيادة الإسرائيلية، بحسب وصف الصحيفة اليمينية المتطرفة.

وتأسست "ميراثنا"، وهي جمعية تركية غير حكومية، عام 2008، بهدف حماية وإحياء التراث العثماني في مدينة القدس، وتسعى إلى التعريف بالمسجد الأقصى والتراث العثماني في بيت المقدس، بحسب الموقع الرسمي لها.