الغزو وكورونا والانقلاب.. ثالوث أزمات يشل الوضع الاقتصادي في تونس
تتواصل التحذيرات من الاستمرار بالانفراد في الحكم في تونس وعدم التوصل إلى توافق سياسي يجمع القوى الوطنية، مما ينعكس بدوره على الأداء الاقتصادي الذي يعاني تدهورا ملحوظا ويحتاج إلى إصلاحات عاجلة.
وهنا كشف البنك الدولي أن الاستمرار في هذا الواقع قد يؤدي إلى أزمة اجتماعية، مؤكدا في 14 مارس/آذار 2022، أن تونس لن تتمكن من تحقيق مستوى حجم ناتجها الداخلي الخام المسجل عام 2019 سوى في 2024.
ويفترض تقدير البنك أن يعود الاقتصاد التونسي إلى إمكاناته المتواضعة السابقة للأزمة بعد أن تجري السيطرة على جائحة كورونا.
وأشار إلى أن الحكومة التونسية مطالبة بتنفيذ إصلاحات هيكلية بشكل حازم ودون تأخير للحفاظ على ثقة المستثمرين وضمان استقرار الاقتصاد الكلي.
وفي ظل استحالة الحصول على تمويلات خارجية من الأسواق الدولية، والانخفاض المحتمل للمدخرات بسبب العجز الكلي الجاري وخدمة الدين الخارجي، يرى البنك الدولي أنه يجب الإسراع في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لعدم الوقوع في أزمة اقتصادية واجتماعية.
وتحتاج تونس تمويلا إجماليا يبلغ 18.67 مليار دينار (6.47 مليارات دولار)، واقتراضا داخليا يبلغ 7.6 مليارات دينار (2.63 مليار دولار) في عام 2022.
ووفق توقعات موازنة تونس لعام 2022، فإن حجم الدين العام للدولة سيرتفع مع نهاية العام إلى 114.1 مليار دينار (38.6 مليار دولار) مقابل 107.8 مليارات دينار (36.5 مليار دولار) في 2021.
وهو أمر يشكل زيادة تفوق ستة مليارات دينار، وسط توقعات بارتفاع نسبة ديون البلاد إلى الناتج الاقتصادي لنحو 84 بالمئة.
أزمة مركبة
وخفضت وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني، في 18 مارس 2022، تصنيف تونس السيادي من مرتبة (B-) إلى (CCC)، ما يعكس مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي.
ويشترط الصندوق إجراء إصلاحات ترتكز أساسا على خفض كتلة الأجور ورفع الدعم وإيجاد حل للمؤسسات العمومية المفلسة، إلا أن الاتحاد العام التونسي للشغل أعرب عن رفضه "أي خطط لخفض الدعم".
كما أن صندوق النقد الدولي تتضمن شروطه وفقا للبنك المركزي التونسي إشراك جميع الأطراف الوطنية في إجراء هذه الإصلاحات، في إشارة إلى الاتحاد العام للشغل ومنظمة الأعراف والأحزاب الفاعلة في البلاد، مما يؤزم المشهد الاقتصادي في البلاد.
وحذر بنك مورغان ستانلي الأميركي، في 21 مارس 2022، من أن تونس تتجه نحو تخلف عن سداد ديونها إذا استمر التدهور الحالي في ماليتها العامة.
يعاصر الاقتصاد التونسي تلك الأزمات لتنضم إليه تداعيات التضخم العالمي وتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وهروب رؤوس الأموال بحثا عن الملاذات الآمنة.
وهو أمر ينذر بانخفاض النمو العالمي وارتفاع البطالة وتزايد معدلات الفقر مما ينعكس سلبا على الاقتصاد التونسي خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم في البلاد خلال يناير/ كانون الثاني 2022، إلى 6.7 بالمئة مقارنة بـ 6.6 بالمئة في ديسمبر/ كانون الأول، الذي سبقه، أي قبل وقوع الحرب الروسية الأوكرانية.
وهذا بمجمله يعني تزايد تداعيات الأزمة لتنعكس على توريد المحروقات والحبوب والمواد الأولية والنشاط السياحي.
ويأتي النفط في صدارة تلك التداعيات حيث جرى إعداد ميزانية الدولة لسنة 2022 على أساس فرضية سعر برميل النفط في حدود 75 دولارا، في وقت بلغ هذا السعر مستوى 119 دولارا حاليا.
وتكلف كل زيادة في سعر البرميل، بدولار واحد، صندوق الدعم وميزانية الدولة ما يوازي 120 مليون دينار (41.3 مليون دولار) إضافية.
فضلا عن أن تونس تستورد أكثر من 50 بالمئة من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، والذي شهد ارتفاعا عالميا بأكثر من 50 بالمئة في بورصة شيكاغو (المعيار الدولي) منذ هجوم روسيا على أوكرانيا ليصل سعر القمح 13.40 دولارا للبوشل (27 كيلوغراما).
وبحسب الباحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، محمد النوري، فإن تونس تعيش أزمة مركبة سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية، مشيرا إلى أن الأبعاد الثلاثة الأولى تصب في خانة الاجتماعي لتزيد من منسوب الاحتقان الذي بدأت وتيرته تتصاعد بشكل ملفت في الأسابيع القليلة الماضية.
وأضاف النوري لـ"الاستقلال"، أن أسباب هذه الأزمة وهذا الاحتقان متعددة، أولها تفاقم الفجوة المالية وانسداد الآفاق داخليا وخارجيا لسدها بعد أن أبانت عنها ميزانية الحكومة لهذا العام وهي لا تقل عن 20 مليار دينار (8 مليارات دولار).
وتراهن الحكومة على تغطية ثلث الميزانية عبر التمويل الداخلي من خلال الاستمرار في إصدار السندات وتحويل السيولة البنكية لتمويل هذا العجز.
وثلث آخر عبر الاقتراض الخارجي الذي يرتبط بفك الحصار عبر البحث عن حل ما مع صندوق النقد الدولي مهما كان الثمن.
بينما السبب الثاني هو أزمة سلاسل التوريد وعجز الحكومة على تسديد فواتير المواد الاستهلاكية الأساسية من الحبوب وما شابهها، وفق الباحث.
وقال إن البواخر المحملة بهذه المواد تبقى لمدة طويلة بالموانئ التونسية تنتظر الإفراج عن تفريغها، وهذا لن يتحقق إلا بالإفراج عن المقابل المالي المفقود.
وهذه ليست سوى عينة من حالة التردي والانهيار التي أدت إليها الأوضاع في الفترة الأخيرة.
وأردف: السبب الثالث يتمثل في الانعكاسات المباشرة التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية على العديد من البلدان وخاصة تلك التي تظل رهينة استيراد القمح والمواد الغذائية من كلا البلدي.
ومن ضمن هذه البلدان تونس التي تعاني من معضلة مضاعفة العجز عن إيجاد مصدر بديل والعجز عن تسديد الفاتورة في حال العثور عن ذلك البديل.
إلى جانب كل ذلك أرجع النوري، السبب الرابع والذي اعتبره لا يقل أهمية عن الأسباب السابقة إلى استشراء الفساد الداخلي على مستوى منظومتي الإنتاج والتوزيع والذي يتمثل في تنامي ظاهرة الاحتكار والتلاعب بالأسعار فيما يتعلق بما هو متوفر من مخزون احتياطي غير كاف لتغطية حاجيات البلاد.
وكشف تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2021 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أن تونس جاءت في المرتبة 70 عالميا.
خيارات محدودة
في خضم هذا الواقع المأزوم، يبقى أمام تونس خيارات ضيقة للهروب من تداعيات الحرب الروسية، واستيراد التضخم من الخارج فضلا عن وجوده بالداخل، وإيجاد مقرضين لتمويل احتياجات البلاد في ظل عدم التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
إذ يمثل صندوق النقد المنقذ لها، ويتوقع بنك "مورغان ستانلي" أنه في حال عدم التوصل لاتفاق مع المؤسسة الدولية فإنها تتجه نحو التخلف عن سداد ديونها.
وفي حال التوصل لاتفاق مع الصندوق فإن تونس ستحصل على قرض بقيمة أربعة مليارات دولار، مع حصول البلاد على ثقة أكبر لدى المقرضين الدوليين.
ويرى النوري، أنه ليس أمام الحكومة التونسية خيارات واسعة للتصدي لهذه الأزمة المضاعفة خاصة في ظل الاضطرابات الإقليمية والدولية التي سببتها الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها المؤلمة.
وأشار إلى أنه ليس أمام تونس سوى البحث عن مصادر بديلة وبأسعار مكلفة وقبل ذلك توفير الاعتمادات المالية اللازمة لتغطية هذه الحاجيات.
وتابع: "لن تتمكن من تحقيق ذلك إلا بحل معضلة الاستدانة عبر التفاوض بل الإذعان لشروط صندوق النقد الدولي".
وهذا أيضا ليس يسيرا في ظل احتدام الأزمة السياسية وإلغاء المسار الديمقراطي وتجميد الدستور والمؤسسات الدستورية والاستحواذ على كل السلطات التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية من خلال تنصيب مجلس قضائي على المقاس.
ومنذ 26 يوليو/ تموز 2021 احتكر الرئيس التونسي قيس سعيد السلطتين التنفيذية والتشريعية عبر انقلاب جمد فيه عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وأعفى رئيس الوزراء هشام المشيشي وتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيسة وزراء جديدة هي نجلاء بودن.
واستمر سعيد في انتهاجه نهجا ديكتاتوريا عبر العديد من القرارات كان آخرها إصدار مرسوم رئاسي بتشكيل مجلس مؤقت للقضاء يسمح له بإعفاء القضاة ويمنع إضرابهم.
وأوضح الباحث الاقتصادي، أن الحل الوحيد يبدأ من استعادة الثقة بين التونسيين ومن يحكمهم والانطلاق في حوار وطني شامل وجاد يفضي إلى التراجع عن سلطة الغالب بالتدابير الاستثنائية.
وأيضا يكون الهدف منه تحقيق تضامن وطني حول حكومة إنقاذ يشارك فيها الجميع وتعمل على تعبئة المدخرات الوطنية واستنهاض الرأسمال الوطني لإنقاذ البلاد من أزمة غذائية حقيقية تهدد شرائح واسعة من المجتمع التونسي.
يأتي ذلك في وقت تشهد فيه البلاد اتساع رقعة الفقر وتآكل الطبقة المتوسطة، حيث كشفت دراسة محلية أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في 11 مارس 2022، أن قاعدة الفقر في البلاد اتسعت لتشمل أربعة ملايين مواطن، أي ثلث الشعب.
ومع الحديث بأن المفاوضات بين صندوق النقد والحكومة التونسية شهدت تقدما جيدا، يرى النوري، أن الأزمة لن تحل بين عشية وضحاها لأن الوصول إلى اتفاق مع الصندوق هو مسار وليس قرارا بيد شخص أو أشخاص بل نتيجة توافق دولي وسياسة مؤسسية تمر بخطوات وضمن منهجية وشروط لا مفر منها.
وأشار إلى أنه في كل الأحوال لن يطفئ الحريق الراهن لأن الحصول على تمويل من الصندوق أو المؤسسات المرتبطة به يحتاج إلى أشهر وليس أياما أو أسابيع، وبالتالي بداية نهاية الأزمة تبدأ بالجلوس وتواضع الجميع للحوار من أجل مصلحة البلاد.
ويبقى المواطن أسير تلك النزاعات السياسية التي تلقي بظلالها على قوت يومه لما لها من تداعيات سلبية على الاقتصاد المحلي من تضخم وبطالة وفقر فضلا عن أن البلاد أصبحت بيئة طاردة للاستثمار، ما يضرب النمو الاقتصادي في مقتل.
فوفق بيانات الوكالة التونسية للنهوض بالاستثمار الخارجي، فإن الاستثمارات الأجنبية تراجعت بنسبة 31.6 بالمئة خلال الربع الأول من عام 2021 لتسجل 344.6 مليار دينار (126 مليون دولار)، انخفاضا من 503.6 مليارات دينار في 2020.
وأكد النوري، أنه إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه ستدفع البلاد برمتها الثمن باهظا بدءا بالمواطن الذي يلهث وراء لقمة العيش ولا يكفي دخله لتأمين الضروريات من حاجياته، بالإضافة إلى أنه يواجه معضلة أكبر تتمثل في فقدان المواد الغذائية الأساسية من جراء تعطل سلاسل التوزيع ومنظومة التوريد.
وارتفعت أسعار المواد الغذائية بتونس، حيث زادت أسعار البيض بنسبة 24.2 بالمئة وأسعار الدواجن بنسبة 21.5 بالمئة وأسعار زيت الزيتون بنسبة 21.7 بالمئة.
كما زادت أسعار الغلال الطازجة بنسبة 17.9 بالمئة وأسعار الأسماك الطازجة بنسبة 9.2 بالمئة، وفق المعهد الوطني للإحصاء.
وسيتأثر الاقتصاد التونسي سلبا نتاج جميع تلك العوامل السالف ذكرها، بالإضافة إلى ارتباطه بالاقتصاد الأوروبي الذي يشهد ارتفاعا كبيرا في معدلات التضخم كما سيتباطأ نموه إلى 3.9 بالمئة خلال عام 2022، وفق توقعات صندوق النقد الدولي.
ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول والتقليدي للبلاد والذي يستحوذ على أكثر من 70 بالمئة من الصادرات التونسية، ويتركز أغلبها في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بحسب بيانات معهد الإحصاء الحكومي.
المصادر
- ارتفاع التضخم في تونس للشهر الرابع على التوالي
- ارتفاع أسعار السلع التموينية بتونس متأثرة بحرب أوكرانيا
- مورغان ستانلي: تونس تتجه نحو التخلف عن سداد الديون إذا استمر تدهور ماليتها
- من بينها تونس..البنك الدولي يحذّر من نقص في إمدادات القمح في عدة دول
- تقرير: الدين العمومي لتونس سيرتفع إلى 39 مليار دولار في 2022
- تونس بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية