نجيب محفوظ أحدث ضحايا السيسي.. لهذا أثارت كتبه ورواياته حفيظة النظام

12

طباعة

مشاركة

حالة من الهستيريا والتخبط تشهدها الهيئات الثقافية المصرية متمثلة في مصادرة كتب الأديب الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ، بدعوى "خطورتها على التوجه العام للدولة".

بعض هذه الكتب، مثل كتاب "أساتذتي" الذي يتناول خواطر وذكريات حول أبرز الشخصيات الفكرية والأدبية التي أثرت في مسيرة "محفوظ" على لسانه، وأسهمت في تكوينه الأدبي، وأخرى كتبها نقاد عن مؤلفاته وأفكاره، صودرت دون أسباب.

بينها كتب ليساريين، لا إسلاميين، وأخرى تتحدث عن فكر الرجل ونقد أدبي لقصصه مثل "هكذا تكلم نجيب محفوظ"، و"سينما نجيب محفوظ"، دون سبب منطقي لمصادرتها ومنع تداولها.

صحفي مصري نشر عبر حسابه على فيسبوك وثيقة حصل عليها بالكتب التي جرت مصادرتها لنجيب محفوظ وصدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

الصحفي محمد فخري، أوضح أن مصدرا ثقافيا أرسل له خطابا به قائمة بالكتب المصادرة وتخص نجيب محفوظ، من على أرفف مكتبات الهيئة العامة لقصور الثقافة.

أكد أن العاملين بمكتبات الهيئة العامة لقصور الثقافة وعددها 500 فوجئوا بتعليمات تقضي بسحب كتب نجيب محفوظ بموجب القائمة التي وصلتهم، وعددها 9، إضافة إلى 8 مقالات بمجلة الهيئة "الثقافية الجديدة".

ماذا يجري؟

مصدر بوزارة الثقافة أكد لـ"الاستقلال" أن عمليات منع ومصادرة تجري من حين لآخر عبر جهات أمنية لا تعرف عنها الوزارة شيئا.

لكن الوزارة وهيئة قصور الثقافة على العكس تجل أعمال نجيب محفوظ وتقيم لها ندوات مختلفة.

أضاف المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه: "لا علاقة للجهات الأخرى التي تصادر أو تمنع أو توقف طباعة كتب أو توزيعها بالثقافة، وغالبا ما يفعلون هذا بناء على بلاغ يصلهم أو شكوى أو تعليمات".

تابع: "للأسف نسمع عن مصادرة ومنع كتب لأدباء ومثقفين بناء على أسمائهم أو عنوان الكتاب دون أن يتكلف من فعل هذا من الضباط عناء قراءتها أو سؤالنا".

أشار ساخرا إلى منع كتب تنتقد جماعة الإخوان المسلمين أو السلفيين، لمجرد أن الرقيب الأمني منعها دون قراءتها، متصورا أنها تروج لهم، بينما هي تنتقدهم.

ولفت إلى أن أعمال محفوظ الروائية والقصصية لا تخلو من الإسقاط السياسي وربما يكون هذا سبب تفكير بعض الضباط الأمنيين بمنع كتاب ما في مكتبة ما بناء على شكوى أو فقرة أو عنوان قرأه، دون أن تكون هذه سياسة عامة لوزارة الثقافة.

كما أكد أن كتب نجيب محفوظ ورواياته لا تزال معروضة في مكتبات قصور الثقافة وتباع بشكل علني.

لكي ينفي علاقة الوزارة وهيئات قصور الثقافة بواقعة مصادرة مؤلفات تتعلق بفكر نجيب محفوظ، أوضح المصدر ذاته أن "تلك الهيئات تحتفي بأعماله في العديد من دورها وعقدت ندوات تمتدح أدبه القصصي، فكيف نمنع كتبه؟".

ذكر كمثال، أن فرع الهيئة العامة لقصور الثقافة في مرسى مطروح ناقش في 24 مارس/آذار 2021 أدب نجيب محفوظ وأهم إبداعاته وأعماله التي شكلت ملامح الأدب المصري وأثرت الساحة الأدبية وشكلت وجدان المصريين والعرب.

كما عقدت الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقليوبية (صالون بنها الثقافي) ندوة في 19 أغسطس/آب 2020 عن الأديب العالمي نجيب محفوظ، والسمات الأساسية لأعماله الأدبية.

وقبلها في يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2019 على التوالي عقدت ستة ندوات لمناقشة كتب أديب محفوظ في دور ثقافة محافظات الغربية والسويس وبورسعيد ودمياط والإسكندرية.

أكد المصدر أن مجلة "مصر المحروسة" التابعة لوزارة الثقافة احتفت بالذكرى الـ 110 لميلاد صاحب نوبل في الآداب عام 1988، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2021 بمعرض فني بعنوان: "نجيب محفوظ بخط اليد.. إهداءات كبار المثقفين ورجال السياسة".

بحسب الصحفي محمد فخري، وصله عبر "مصدر" لم يحدده، تعليمات للعاملين بقصور الثقافة تقضي بسحب "الكتب التي تتناول أدب نجيب محفوظ" الموجودة بالقائمة التي نشرها.

أوضح لـ"الاستقلال" أن المصدر أكد له أن هذا الطلب جاء تحت مبرر "تنظيف المكتبات من أي كتب تشكل خطورة على التوجه العام للدولة"، وهي حملات متكررة صودرت بموجبها في مرات سابقة مؤلفات تراثية وإسلامية عديدة.

ووصف ذلك بأنه "كارثة ثقافية وسياسية" تبين إلى أي حد يجري التضييق على الثقافة، بعد الإعلام والدراما.

وكان تقرير لوكالة رويترز البريطانية ذكر في 12 ديسمبر 2019 أن رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي وسع حملة التضييق، بعد السيطرة على الصحف والفضائيات عبر أجهزة المخابرات، لتشمل خصما جديدا هو الدراما أو المسلسلات التلفزيونية.

وأكدت رويترز أن السيسي "قائد الجيش السابق أحكم الرقابة على صناعتي الترفيه والأخبار، وأصبح المحتوى الإعلامي يخضع لرقابته"، والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي أسستها المخابرات، تسيطر على المسلسلات والأفلام.

"فخري" تساءل: هل أعمال نجيب محفوظ العظيمة درة الأدب والثقافة في مصر والعالم العربي والتي حازت على جائزة نوبل أصبحت خطرا على التوجه العام للدولة؟

أضاف: "هل استشهاد بعض المعارضين والرافضين للنظام بجمل وعبارات وردت في رواياته سبب لدفع الضابط المسؤول نحو اتخاذ مثل هذا القرار الأحمق".

أشار إلى أن أوامر صدرت منذ عدة سنوات بسحب آلاف الكتب من مكتبات الهيئة العامة، أعلن وقتها على غير الحقيقة أنها تتضمن أفكارا وآراء تمثل خطورة ما على التوجه العام للدولة.

سخر قائلا: "بلغ جهل الجهة التي أصدرت الأوامر إلى الحد الذي صادرت فيه كتب أبي حامد الغزالي ظنا منها أنه الشيخ محمد الغزالي، كما لم تميز تلك الجهة بين كتب عبد الرحمن بن الجوزي وشمس الدين محمد بن قيم الجوزية".

أضاف: "وصل الجهل إلى درجة سحب كتب جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وأخرى تهاجم الإخوان مثل كتاب "حسن البنا" لليساري رفعت السعيد، لمجرد أن الكتاب يحمل اسم مؤسس الجماعة.

كما أوردت كتب القيادي بجماعة الإخوان سيد قطب الأدبية والنقدية التي كتبها قبل انضمامه إليها مثل كتاب "النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه".

وشملت المصادرة كتب الأمين العام لاتحاد العلماء المسلمين سابقا يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي و"السيد سابق" الدينية ومنها كتاب: الفقه على المذاهب الأربعة! وغيرها.

كما صودرت كتب الشيخ محمد أبو زهرة والدكتور محمد عمارة حتى تلك التي كتبها حين كان ينتمي إلى تيار اليسار، مثل: "العرب والتحدي" و"هل إسرائيل سامية"؟

ناقد أدبي أوضح لـ "الاستقلال" أن نبأ مصادرة كتب تتحدث عن فكر نجيب، لا مؤلفات محفوظ نفسها، ربما وراءها منتجي أفلام ومسلسلات أو أصحاب مكتبات منافسة للحصول على تراخيص بديلة لطباعتها.

الناقد القريب من عائلة الكاتب الراحل محفوظ، وفضل عدم ذكر اسمه، أوضح أنه ربما منعت الكتب بعد شائعات نشرت على مواقع التواصل أن ابنته "إخوان وتتبرأ من مؤلفات أبيها"!.

وأنها، ضمن الشائعات غير الصحيحة، ترفض تحويل قصصه لأعمال تلفزيونية ومسلسلات جديدة، وترفض تجديد تراخيص طباعتها.

رجح أن هذا من فعل منتجين منافسين، كي يتعاقدوا مع أصحاب المطابع التي لديها حق الطبع بدل "هدى" ابنة محفوظ لأسباب مالية، لكن هذه البلبلة، ومجرد ذكر الإخوان، ربما دفعت جهة أمنية لمنع الكتب التي جرى الحديث عنها.

وقبل ذلك قالت قناة اكسترا نيوز التابعة للمخابرات يناير/كانون الثاني 2017 إن جيش اللواء الانقلابي خليفة حفتر، الموالي لمصر في شرق ليبيا صادر عشرات الكتب لكتاب عرب وغربيين بحجة ترويجها لنمط الحياة العلماني، بينها روايات نجيب محفوظ.

طرائف المصادرات

الحملة التي بدأت منذ عام 2015 ولا تزال مستمرة، صودرت خلالها كتب لحسن البنا وكافة شخصيات الإخوان، بل صادرت السلطات مؤلفات لشيوخ التيار الوهابي السعودي متصورة أنهم سلفيين إسلاميين يعارضون السلطة.

أدت مصادرة كتب: محمد بن عبد الوهاب، وابن باز، وابن عثيمين، وابن تيمية، عام 2015 إلى حدوث بلبلة.

فأصدر الشيخ محمد عبد الرازق عمر رئيس القطاع الديني بوزارة الأوقاف المصرية نفيا لذلك مؤكدا مصادرة "كتب التكفير والتشيع والبهائية" فقط.

ضمن الطرائف مصادرة كتاب توفي مؤلفه قبل 22 عاما بعنوان "فضائح السيسي بيه"، لأن الأمن تصور أنه عن عبد الفتاح السيسي بينما هو اسم كتاب ساخر للمؤلف يوسف عوف، تناول بطرافة فساد شخصية خيالية ترأس مؤسسة حكومية.

حين عثر عمال دار روزا اليوسف الحكومية للطباعة عن طريق الصدفة، في أبريل/نيسان 2019 على بعض نسخ الكتاب في المخازن أبلغوا الأمن الوطني، فتمت مصادرته مع أنه يدور حول موظف (السيسي بيه) وصل لمكانة مرموقة بالمكر والخداع.

جرت مصادرة الكتاب، مثلما غيروا لافتة "السيسي" التي تشير لصغير الحمار بحديقة حيوانات الجيزة، واستبدالها بعبارة "السياسي".

وكذا استعمال وزراء مصر عبارة "التمور" بدل "بلح" التي يصف بها المعارضون السيسي، في إشارة لجنونه، حسبما فعل رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال زيارة مجمع لإنتاج البلح المصري 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 مشيدا بـ "التمور المصرية".

أيضا صودرت 46 كرتونة تضم 400 كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان "جدران الحرية" بقرار من نيابة ميناء الإسكندرية والقبض على أصحاب شركة النشر التي استوردتها، بتهمة "التحريض ضد الجيش والشرطة" في 19 فبراير/شباط 2015.

وبعد اتهامهم بالتحريض على "الشغب والدعوة إلى الثورة"، كشف أمير عزيز المستشار القانوني لدار "التنوير" للنشر، أن الكتاب عبارة عن صور لفناني جرافيتي على جدران شوارع مصر، خلال ثورة يناير 2011، رغم اعتراف الدستور بالثورة.

أوامر أمنية

برغم أن لجنة الخمسين التي شكلها السيسي لوضع دستور 2014 أقرت نوفمبر 2013 مادة تمنع مصادرة الكتب إلا بإذن قضائي، ونص الدستور على ذلك، فقد شنت حملة مسعورة ضد تلك المؤلفات عقب الانقلاب بدعوى استئصال الإخوان.

المصادرة سرعان ما طالت كتب المفكرين من كافة الاتجاهات، وامتدت إلى مؤلفات التراث بدعوى أنها تؤسس لنشر فكر متطرف جامد، ولم يسلم منها مفكرون علمانيون أو أدباء ومشاهير، آخرهم كتاب تحدثوا عن نجيب محفوظ خصوصا.

سبب أغلب المصادرات التي تجري بلا منطق يرجع إلى هوى ورغبات المكون الأمني في السلطة الذي يتولى إصدار الأوامر وفق عقلية أمنية لا تقرأ وتكتفي بالمنع بموجب اسم المؤلف أو عنوان الكتاب، بحسب نقاد.

وبعدما كانت المصادرة قبل انقلاب السيسي، تقتصر على روايات إباحية أو جنسية، ويطالب بها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، أصبحت كتب علماء الأزهر نفسه في مهب الريح الأمنية منذ انقلاب يوليو/تموز 2013.

طالت المصادرة كذلك كتبا اقتصادية تطعن فيما يقوله السيسي عن أن "مصر فقيرة"، واعتقال صاحبها ومدير النشر.

في يناير 2017، أطل عبد الفتاح السيسي على المصريين بتصريحات غريبة ومثيرة للدهشة، ضمن مسلسل قال فيه "أيوه احنا بلد فقير... وفقير قوي كمان".

استفزت هذه الكلمات الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق، فأعد كتابا يكشف ثروات مصر المنهوبة وغير المستغلة، بالأرقام والأدلة، ومن واقع السجلات والأوراق الرسمية، ويهاجم الفشل الاقتصادي للسيسي.

"فاروق" بدأ كتابه بعبارة "هل مصر بلد فقير حقا؟ ورد عليه بقوله: "بقدر ما صدمت هذه الكلمات القصيرة والحادة، الرأي العام في مصر، بقدر ما كشفت أننا إزاء رئيس لا يمتلك أفقا ولا رؤية لإخراج البلد من مأزقها الاقتصادي والسياسي".

واتهم فاروق، السيسي و"أسلافه من جنرالات الجيش والمؤسسة العسكرية الذين حكموا مصر منذ عام 1952 حتى يومنا" بالتسبب في فقر مصر.

بعد مصادرة الكتاب في المطبعة 14 أكتوبر/تشرين الأول 2018، اعتقلت السلطات الأمنية فاروق، وصاحب دار النشر في 21 من ذات الشهر.

أما الطريف، فهو أن "فاروق كرمته الدولة ذاتها عدة مرات، ومنحته جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاقتصادية والقانونية عام 2003، وجائزة أفضل كتاب في العلوم الاجتماعية بمعرض القاهرة للكتاب 2015"، بحسب ما قال الحقوقي جمال عيد لموقع "مونيتور" الأميركي في الأول من نوفمبر 2018.

كما طالت المصادرة كتبا لمسيحيين يطعنون في العربية مثل كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للمفكر والناقد لويس عوض.

الكتاب، سبق أن اعترض عليه الأزهر قبل ثورة يناير 2011، حسبما قالت صحيفة الدستور 18 ديسمبر 2020، وربما صودر لاحقا لأن به عبارة "فقه".

المصادرة لا تقتصر على كتب الهيئات الثقافية ودور النشر، لكنها شملت التفاسير الدينية الموجودة في المساجد وبعضها مؤلفات لمحسوبين على جماعة الإخوان.

وزارة الأوقاف صادرت أكثر من 7 آلاف كتاب و"سي دي" و"شريط"، من مكتبات مساجد 3 محافظات مصرية فقط لعدد من مشايخ الإخوان والسلفية، في 22 يونيو/حزيران 2015 بحسب صحيفة "الوطن" الخاصة التابعة للمخابرات.

أبرزهم للدكتور يوسف القرضاوي، ووجدي غنيم، ومحمد عبد المقصود، وياسر برهامي، ومحمد حسين يعقوب، وأبو إسحاق الحويني، وصلاح سلطان وغيرهم، وذلك ضمن حملات قالت الوزارة إنها "لتطهير المساجد من كتب التطرف".

أيضا في مطار القاهرة، صادرت قوات الأمن من الكاتب حسن نافعة كتب المفكر المغربي محمد عابد الجابري التي كانت حول نقد العقل العربي، حسبما ذكر في صحيفة القدس العربي 7 أغسطس/آب 2019.

قال إنه عقب تفتيشه جرت مصادرة حوالي عشرين كتابا، جميعها من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية كانت معه، أغلبها كان من تأليف الجابري، ما أثار تساؤلات عما إذا كان قرارا رسميا صدر بمنع دخول مؤلفات الجابري مصر، فتحولت المسألة إلى فضيحة.

تساءل: "هل تعتقد الأجهزة الأمنية التي تدير مصر الآن أن مصادرة كتب يحملها مسافرون ستجعل منها بلدا أكثر أمنا وأمانا؟".

وكشف اتحاد الناشرين العرب أن استبيانا أشرف عليه في 20 يونيو/حزيران 2020، وشارك فيه 292 ناشرا من 16 دولة عربية، أظهر أن صناعة النشر في الوطن العربي "مهددة بالانهيار"، وأن العرب ينتجون 1.1 بالمئة من الكتب عالميا فقط.

بحسب الاستبيان، هناك انخفاض 74 بالمئة في مبيعات الكتب، و75 بالمئة من الناشرين أوقفوا نشاطهم، و34 بالمئة من العاملين بالنشر جرى الاستغناء عنهم.