"لا حياة بعدها".. لهذا تحذر صحيفة تركية من اندلاع حرب أخرى في البلقان
سلطت صحيفة تركية الضوء على قلق وخشية البوسنيين من عودة أعمال عنف شبيهة بما وقع في التسعينيات بمنطقة البلقان، جراء تحذيرات أممية من خطر اندلاع حرب أهلية في البلاد.
ونشرت صحيفة "يني شفق" مقالا لرئيس قسم العلاقات الدولية في جامعة غازي عنتاب، حسين شيهانلي أوغلو، قال فيه: يعتقد بعض العلماء أن أصل كلمة البلقان يأتي من جمع كلمتي "بُل" و "كان" اللذين يعنيان معا في التركية "الدم الكثير".
فيما يرى آخرون أنها تعني "الأرض ذات الشجر الكثيف"، إذ عاشت البلقان أكثر أيامها هدوءا وسلاما تحت أشجار الجميز خلال الأربعة قرون التي كانت فيها تحت السيادة العثمانية.
وأردف: "وما يؤكد ذلك، ما نراه اليوم من قدرة الصرب والكرواتيين وشعب الجبل الأسود والبلغاريين واليونانيين والألبانيين على الحفاظ على وجودهم وبناء دول مستقلة حتى بعدما انهارت الإمبراطورية العثمانية".
واستدرك: "غير أن البلغاريين والبوسنيين والألبانيين والأتراك الذي أسلموا بإرادتهم بعد حروب البلقان، تعرضوا لمجازر وعمليات إبادة جماعية كبيرة".
وبحسب المتخصص في مجال تاريخ البلقان، جوسين ماك كارتي، فقد تم تهجير وقتل واضطهاد ما لا يقل عن خمسة ملايين مسلم في البلقان بين عامي 1821 و1921، وهذا يعادل نصف سكان المنطقة آنذاك على أقل تقدير.
ظلم عظيم
وتابع شيهانلي أوغلو: "ومن بين هؤلاء المسلمين، كان البوسنيون أكثر من عانى الظلم والاضطهاد، ورغم أنهم كانوا في الأصل من العرق السلافي، إلا أنهم تعرضوا لاضطهاد كبير من قبل الصرب الأرثوذكس والكرواتيين الكاثوليك لوقت طويل؛ وذلك لانتمائهم إلى طائفة البوغوميل قبل إسلامهم".
وأوضح أن "المسيحيين كانوا يعتبرون هذه الطائفة التي تعتبر قريبة مما تطرحه العقيدة الإسلامية، مهرطقين".
أما بعد الحرب الروسية العثمانية، فقد فقدت الإمبراطورية العثمانية قوتها في منطقة البلقان، لتحتل مكانها دول مثل النمسا والمجر وروسيا، وهكذا ليدخل البوسنيون تحت السيطرة النمساوية والمجرية في تلك الفترة.
ثم لما اندلعت الحرب العالمية الثانية، عانى البوسنيون مرة أخرى مصاعب جمة وخسائر كبيرة، وخلت المدن التي كان البوسنيون يعيشون فيها بالأغلبية، من جميع البوسنيين حتى لم يبق في بعضها أي واحد منهم، وفق الكاتب التركي.
وأعقب: "ولقد كان الديكتاتور الكرواتي جوزيف بروز تيتو، قد جعل للبوسنيين جمهورية خاصة عندما تولى زمام الحكم في يوغوسلافيا".
ونظرا لأن المنطقة التي تم تخصيصها للبوسنيين تقع بين كرواتيا وصربيا، فقد كان المسلمون البوسنيون عنصرا مهما للوجود اليوغوسلافي ولموازنة صربيا، بيد أن وفاة تيتو وانتهاء الحرب الباردة كسر هذا التوازن بعد عام 1990 وحدثت "مأساة أخرى".
وتعرض البوسنيون لمجازر بدأت عام 1992 واستمرت حتى عام 1995، قتل فيها ما لا يقل عن 200 ألف بوسني على يد الصرب والكرواتيين الذين تبنوا سياسات توسعية وفعلوا ما فعلوا بدعم من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تطهير عرقي
وقد تحدث الزعيم الأسطوري للبوسنيين، علي عزت بيغوفيتش عن هذه المجازر في مقابلة أجراها قائلا: "لقد مرت البوسنة والهرسك بأحداث لم تمر بها المجتمعات أخرى من قبل، ربما مرة واحدة كل ألف عام، فقد قامت القيامة وانتشرت الفوضى في هذا البلد، حتى لم يبق فيها حجر على حجر".
وأضاف "لا يسعني إلا أن أقول لكم شيئا واحدا، إن البوسنة ليست كما كانت في سابق عهدها، ولا أظن أنها ستتمكن من العودة إلى ما كانت عليه".
وتابع بيغوفيتش: "نحن لا نعرف عدد القتلى حتى الآن، وبحسب ما توصل إليه الخبراء، فقد استشهد حوالي 200 ألف بوسني، وأخرج مليون و200 ألف من ديارهم وأموالهم".
وفي الواقع، هذا ما يطلق عليه اسم "التطهير العرقي"، لكن هذا المسمى يقلل من حجم الأمر، إذ ما حدث كان إبادة جماعية كلاسيكية (مذبحة)، وعلاوة على ذلك، فقد دمروا نحو 1200 مسجد، يؤكد بيغوفيتش.
ويبدو أن هولبروك الذي طرح فكرة اتفاقية "دايتون" للسلام والتي تم توقيعها بضغط من الولايات المتحدة الأميركية، استدار إلى وزير الخارجية التركي حكمت تشتين، في الفترة من 1991 إلى 1994، وقال له: "كيف تمكنتم من حكم هذه الأراضي الملعونة لمدة 500 عام؟"
وفي إجابة لسؤاله قال الكاتب: "لذلك يمكننا أن نوضح لهولبروك الأمر بالشكل التالي: لقد منحنا الحرية الدينية والسياسية والاقتصادية لجميع الشعوب، متبنين العدالة أساسا ومنطلقا، فنحن لم نفتعل وقيعة بين دولها ثم جلسنا للتفرج كما فعلتم".
موج الحرب
وقال شيهانلي أوغلو: "وفيما وصلنا إليه، من الواضح اليوم أن اتفاقية دايتون التي أعدتها العقلية الغربية، فشلت فشلا ذريعا، فبينما أنشأ الصرب جيشا منفصلا وانتقلوا إلى صربيا التي دعمها الروس علانية، بدأ الكرواتيون ينحازون إلى جانب كرواتيا التي يدعمها الألمان دون إخفاء".
جدير بالذكر أن كريستيان شميدت، المندوب السامي المراقب لتطبيق اتفاق السلام لعام 1995 والممثل الأعلى للبوسنة والهرسك لدى الأمم المتحدة، أشار في التقرير الذي نشر في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى أن وجود البوسنة والهرسك يعد "أكبر تهديد واجهه حتى الآن في فترة ما بعد الحرب"، وحذر من خطر اندلاع حرب أهلية في البلاد، يلفت الكاتب.
وأضاف: "الجدير بالذكر أن الصرب في كوسوفو يسيرون على نفس المسار، كذلك هناك مشاكل مماثلة بين مقدونيا واليونان وألبانيا وبلغاريا، وبالنظر إلى الصورة من أعلى، يتضح سبب قيام الولايات المتحدة بسحب جنودها وأسلحتها من أفغانستان ونشرها بدلا من ذلك في جزر بحر إيجة وألكساندروبولي".
وتابع: "كذلك يتضح ما تعنيه المناورات العملاقة في اليونان أيضا، إذ إن الغرض من نشر 200 طائرة هليكوبتر وآلاف المركبات المدرعة يتمثل في قطع وصول تركيا إلى منطقة البلقان، وكذلك قطع طريق الحرير الصيني، أضف إلى ذلك الدخول في منطقة النفوذ الروسي رغما عنها في حال حدوث حرب جديدة".
وختم شيهانلي أوغلو مقاله محذرا: "غير أن اندلاع حرب أخرى هنا في منطقة البلقان، يعني حربا عالمية أخيرة لا حياة بعدها. بالطبع أرجو ألا يحدث ذلك، لكن يتعين علينا الاستعداد لإبادة جماعية جديدة محتملة ضد البوسنيين".
وتابع: "لا يجب أن ننسى مذبحة سربرنيتسا، فمن الواضح أنه لا يزال هناك من لم يتعلم درسه جيدا، فقط عليهم أن يعلموا أننا اليوم في حال أفضل بكثير مما كنا عليه عامي 1990 و1995".