قطار الفقر يتسارع في لبنان.. ما الحلول المتاحة لإيقافه قبل الكارثة؟

طارق الشال | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

حالة من التدهور الاقتصادي غير المسبوق يعيشها لبنان "الجريح"، وسط أزمة سياسية تلقي بظلالها على اقتصاد الدولة لتزيد أعماق الأزمة الاجتماعية التي يعاصرها المواطنون، من تدهور التعليم والصحة وغيرها من الخدمات العامة، لنجد الفقر قد طال نحو 82 بالمئة من الشعب.

دراسة أعدتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، كشفت عن تفاقم الفقر في لبنان "إلى حد هائل" في غضون عام واحد فقط، مشيرة إلى أن الفقر أصبح يطال 74 بالمئة تقريبا من مجموع سكان البلاد.

وأوضحت "الإسكوا"، في الدراسة التي نشرتها 3 سبتمبر/أيلول 2021، تحت عنوان "الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهمة"، أن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82 بالمئة من السكان، إذا تم أخذ أبعاد أوسع في الاعتبار، مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة.

وتأتي هذه الدراسة بعد عام من إصدار الإسكوا تقديرات حول ارتفاع معدلات الفقر في لبنان عام 2020، والتي أشارت إلى أن الفقر طال 55 بالمئة من السكان حينها، بينما كانت تقديراتها لمعدلات الفقر  خلال عام 2019 نحو 28 بالمئة.

الأمر الذي يشير إلى وجود تسارع كبير في اتساع رقعة الفقر داخل البلاد، ما يعكس مدى الاضمحلال والمستوى المتدني الذي تعيشه البلاد، ويدق ناقوس الخطر بشأن الانزلاق الوشيك نحو شعب فقير يعاني من مجاعات وأمراض.

مرآة الفقر

ويمتد هذا الفقر فتجده كالمرآة ينعكس على أغلب القطاعات الحيوية اللازمة لأي مواطن لبناني المنهارة، فقطاع الصحة على سبيل المثال تشهد المستشفيات فيه عجزا في توفير الأدوية والمستلزمات الطبية وارتفاعا حادا في تكاليف الاستشفاء.

يضاف إلى ذلك هجرة أعداد كبيرة من الأطباء، وخفض الدعم الحكومي الموجه للدواء إلى النصف تقريبا، في وقت أغلقت فيه بعض الصيدليات أبوابها بسبب نفاد الأدوية بشكل كامل من غالبية الصيدليات.

كما لعب شح الوقود في البلاد دورا سلبيا كبيرا على قطاع الكهرباء الذي يعمل بالمازوت مما أدى إلى عدم قدرة المستشفيات على العمل، حيث وصل الأمر إلى حصول الناس على ساعتين فقط من الكهرباء في اليوم.

كذلك أدى انقطاع الكهرباء إلى عدم القدرة على توفير المياه اللازمة للمواطن، ما دفع صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، لإصدار بيان في 21 أغسطس/آب 2021، حذرت فيه من أنه إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لاستعادة إمدادات الطاقة في لبنان بشكل عاجل، سيواجه أكثر من 4 ملايين شخص في جميع أنحاء لبنان معظمهم من الأطفال والعائلات الأكثر هشاشة. 

وأضاف البيان، أنه إذا أجبر 4 ملايين شخص على اللجوء إلى مصادر غير آمنة ومكلفة للحصول على المياه، "فذلك سيعرض الصحة والنظافة العامة للخطر، وقد يشهد لبنان زيادة في الأمراض المنقولة عبر المياه، بالإضافة إلى زيادة في عدد حالات كـوفيد-19".

وفي يوليو/تموز 2021، حذرت منظمة اليونيسف من أن أكثر من 71 بالمئة من سكان لبنان قد لا يحصلون المياه هذا الصيف.

كما أثر نقصان الوقود في البلاد إلى ارتفاع أسعار النقل والخبز واصطفاف الناس أمام محطات الوقود في طوابير طويلة.

ويعود سبب شح الوقود إلى تهريب التجار للمحروقات لخارج البلاد، بالإضافة إلى عدم وفرة النقد الأجنبي اللازم لاستيراد كميات كافية للسوق المحلية، وسط تدهور قيمة الليرة التي خسرت أكثر من 90 بالمئة من قيمتها ليتجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء 20 ألف ليرة الآن.

وتراجعت احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي من متوسط 38 مليار دولار بنهاية عام 2019، إلى متوسط 16 مليار دولار حاليا، في وقت يستخدم فيه دعم الوقود فقط نحو 3 مليارات دولار.

ومع ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، جاء الفقر أيضا ليدلي بدلوه على قطاع التعليم، حيث أصبح المواطن غير قادر على الإنفاق على تعليم أبنائه مما دفعه لنقلهم إلى المدارس الحكومية بدلا من الخاصة، الأمر الذي أدى لإغلاق نحو 14 مدرسة خاصة.

وبحسب إحصاءات وزارة التربية، انتقل أكثر من 90 ألف تلميذ منذ العام 2019 إلى المدارس الرسمية (الحكومية)، بينهم قرابة 55 ألفا العام الماضي وحده، وتتوقع الوزارة زيادة هذا العام بنسبة 14 بالمئة في المرحلة الابتدائية و9 بالمئة في المرحلة الثانوية.

الأمر الذي يزيد من أعباء الحكومة، بالإضافة إلى القلق الحاصل حول هجرة المعلمين خاصة مع تدني رواتبهم، ما يلقي بمزيد من العبثية على التعليم ويؤدي إلى عدم التوافق بين المهارات واحتياجات سوق العمل.

الأمر الذي يعرض مستقبل الأجيال الصاعدة في لبنان للخطر ويكبح إسهاماتهم في تعافي الاقتصاد المحلي، وهذا ما أكد عليه البنك الدولي في تقريره الصادر في 21 يونيو/حزيران 2021.

زوال لبنان

وفي ظل هذا الواقع الأليم، يقف النظام السياسي في لبنان دون أي تحركات ساعية إلى إنهاء ما تعيشه البلاد من اضمحلال، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في 27 أغسطس/آب 2021، للتحذير من "زوال دولة لبنان"، مطالبا السلطات بسرعة التحرك لتشكيل حكومة جديدة (وهو ما تم في 10 سبتمبر/أيلول 2021).

ويرى الخبير الاقتصادي، جاسم عجاقة، أن الأزمة التي يعيشها لبنان "جزء كبير منها لن يحل إلا بحل المشكلات السياسية، وبالتالي بغياب حل سياسي، سيكون الاعتماد كله على الخارج لتقديم المساعدات الإنسانية من أجل توفير الاحتياجات الأساسية للمجتمع".

وأضاف عجاقة، لـ"الاستقلال"، أنه "إذا لم يواصل المجتمع الدولي في تقديم دعم مستمر لتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن اللبناني، فقد تصل بيروت إلى مرحلة من المجاعة التي تشبه بعض المجاعات بالدول الفقيرة الإفريقية والآسيوية".

وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، في 4 أغسطس/آب 2021، عن تقديم مساعدات إنسانية من الولايات المتحدة بقيمة 100 مليون دولار تضاف إلى قرابة 560 مليون دولار قدمتها واشنطن كمساعدات إنسانية خلال السنوات الماضية، وذلك خلال مؤتمر دعم لبنان الذي عقد بدعوة من فرنسا.

وفي نفس المؤتمر الذي تعهدت فيه الدول المشاركة بتقديم نحو 370 مليون دولار كمساعدات للبنان، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستقدم في الأشهر الـ12 المقبلة "التزامات جديدة لدعم مباشر للشعب اللبناني" بقيمة 100 مليون يورو مع إرسال نصف مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا اعتبارا من تاريخ عقد المؤتمر.

من جهته، قال رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني: إن الحكومة اللبنانية أمامها حلول عديدة للخروج من الأزمة مثل "التراجع عن سياسية الدعم على الوقود مما يقطع الطريق أمام المهربين الساعين للاستفادة من هذا الدعم عبر بيع المحروقات بالخارج بالأسعار العالمية والاتجاه لبيعها بالداخل".

وأوضح مارديني لـ"الاستقلال"، أن هذا الحل سيمكن الشركات والمصانع والمستشفيات من العودة للعمل مجددا حيث ستتوافر الكهرباء، مشيرا إلى أن الحل الثاني يتمثل في إنشاء مجلس نقدي يخلق حالة من التوازن بين المعروض من الدولار والليرة اللبنانية من أجل استقرار سعر صرف الليرة.

وتابع: "بالتالي عودة الثقة بالليرة ومنها تدفق العملات الأجنبية للبلاد وإنعاش الحركة الاقتصادية، ما يعني ارتفاع القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع المستوى المعيشي بشكل تدريجي".

واعتبر مارديني، أن طلب المساعدات من الخارج لـ"إهدارها داخل لبنان ليس له معنى"، مطالبا الخارج بتشجيع لبنان على القيام بإصلاحات اقتصادية حقيقية عبر تقديم تحفيزات مشروطة بهذه الإصلاحات، "حتى لا يظل لبنان أسير هذه المساعدات ويكون قادرا على التعافي مرة أخرى".

قطار الفقر

ويبقى مستقبل لبنان مليئا بالغموض وأسير تحكمات داخلية متعلقة بأيدلوجيات الأطراف السياسية الداخلية المتنازعة وأجنداتها التي لا تعبأ بالمواطن ولا الاقتصاد، ومساعي خارجية للسيطرة على لبنان للتدخل في شؤونه وتحديد مصيره وفق سياساتهم عبر تعميق أزماتها لتظل دائما في حاجة إليه، وفق مراقبين.

لكن وسط كل هذه الصراعات يعيش المواطن بين العديد من المشكلات التي تتزايد يوما بعد يوم، على أمل أن تقف عند هذا الحد، بعدما أصبحت له قناعة أنها ربما لن تنتهي أو تتقلص على الأقل، وذلك بعد أن زاد قطار الفقر من سرعته ليقود لبنان نحو الفقر المدقع.

فقطار الفقر يسير كـ"النار في الهشيم لا ينتظر أحدا مادام لم يحضر من يطفئه"، فوفق الخبير الاقتصادي عجاقة، فإن "هذه المعاناة مستمرة"، متوقعا تخطي معدل الفقر في لبنان مستوى الـ90 بالمئة من إجمالي السكان بنهاية العام 2021.

وفي 10 سبتمبر/أيلول 2021، تشكلت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي عقب 13 شهرا من التعثر عقب استقالة حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب في 10 أغسطس/ آب 2020 بعد 6 أيام من انفجار كارثي بمرفأ بيروت.

ويأمل اللبنانيون أن تضع الحكومة الجديدة حدا للأزمة الاقتصادية الحادة التي تضرب البلاد منذ أواخر 2019، والتي أدت الى انهيار مالي وارتفاع قياسي بمعدلات الفقر، فضلا عن شح في الوقود والأدوية وسلع أساسية أخرى.