أم الجرائم.. كيف تحاول "الدعم السريع" السودانية طمس أدلة فض الاعتصام؟
عقارب الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، وما بين الخيط الأبيض والأسود من الفجر، كانت ضبابية الرؤية تحجب وضعا أكثر غموضا، إذ تسللت عناصر ببزة عسكرية، محملة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وسط أرتال حربية، إلى تخوم مقر اعتصام القيادة العامة للجيش بالخرطوم، لتنفذ واحدة من أكثر المجازر وحشية في السودان.
تلك العناصر ما انفكت حتى تركت المعتصمين المنكوبين، بين قتيل وجريح، إضافة إلى حالات اغتصاب وجثث ملقاة في نهر النيل.
كان ذلك يوم 3 يونيو/ حزيران 2019، وما زال الملف الدموي لم يغلق، وسط جدليات الفاعل، الذي يحاول طمس جريمته، على جميع الأصعدة.
لم تجف دماء ضحايا فض الاعتصام بعد، رغم مرور عامين على الفاجعة، التي تشير أصابع الاتهام فيها بشكل رئيس، إلى قوات الدعم السريع، المتهم الأول بارتكاب المجزرة.
ومع الوقت تأتي دلائل جديدة واكتشافات لجثث مجهولة، تؤكد فرضية تورط قوات قائد تلك القوات محمد حمدان دقول "حميدتي" في المذبحة، وأن كل محاولات طمس الحقيقة تبوء بالفشل، مع وجود مدنيين وحقوقيين وأطباء يبحثون في الواقعة، ويكتبون التقارير التي توثق المأساة.
فلماذا تسعى قوات الدعم السريع وأطراف مساعدة لها إلى محق الجريمة؟ وما هي التبعات المترتبة على إثباتها؟
جثث مكدسة
أصدر 5 من كبار اختصاصيي الطب الشرعي في السودان، بيانا صادما، في 19 أغسطس/ آب 2021، يتهم جهات أمنية (لم يسمها)، وصحية بمحاولة طمس الحقائق والأدلة المتعلقة بمئات الجثامين المكدسة في عدد من مشارح الخرطوم.
يعتقد بشكل جازم أن هذه الجثامين مجهولة الهوية، تضم مفقودين وضحايا من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو/ حزيران 2019، على يد قوات الدعم السريع، بحسب شهود عيان، ولائحة الاتهامات الموجهة.
أطباء السودان الخمسة رفضوا بشكل قاطع، ما أطلقوا عليه، "تحويلهم إلى أداة لطمس وتضييع حقوق مجهولي الهوية داخل المشارح"، وأشاروا إلى "تجاوزات خطيرة في طريقة التعامل مع الجثامين".
وقالوا عبر بيان رسمي أصدروه: إن "خلق العراقيل من إدارة الطب الشرعي، إضافة إلى التضارب في اختيار اللجان ما بين النيابة العامة وهيئة الطب العدلي ووزارة الصحة الولائية، أثر سلبا على سير العمل بالمشارح".
وأضافوا أن "وجود وكيل النيابة المكلف حاليا بمتابعة المشارح واحد من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الانسحاب".
كما أعلن كبير الأطباء الشرعيين في السودان، عقيل سوار الذهب في تصريحات متداولة لوسائل إعلام محلية، أن "هناك تدخلات تجعل من المستحيل أداء عملنا بالشكل المهني والأخلاقي المطلوب".
وأظهر سوار الذهب امتعاضه الشديد من الطريقة التي يتم بها التعامل مع الجثامين المكدسة، مما يؤكد وجود اتجاه لإخفاء الحقائق لمصلحة جهات ما.
198 جثة
تعود أزمة الجثث المكدسة إلى 9 فبراير/ شباط 2019، عندما كشف موقع "سودان تربيون" السوداني عن وجود 198 جثة مجهولة الهوية بمشرحة خارج العاصمة، وسط مطالب بتدخل لجان التحقيق في فض اعتصام الخرطوم سنة 2019 وعلاقة الواقعة بالجثامين، علما أن هذه الجثث وصلت المشرحة خلال عامي 2019 و2020.
وفي أبريل/ نيسان 2021، أعلنت النيابة العامة السودانية، أن أسباب انبعاث روائح كريهة من مشرحة مستشفى الأكاديمي في الخرطوم، يعود إلى هذه الجثث المكدسة.
واتهم مسؤول في النيابة هيئة الطب العدلي بالتسبب في سوء الأحوال التي وصلت إليها الجثث المجهولة الهوية المحفوظة في المشرحة.
بعدها تظاهر المئات من سكان منطقة امتداد الدرجة الثالثة، جنوبي الخرطوم، احتجاجا على انبعاث روائح الـ 198 جثة المحفوظة في مشرحة المستشفى الأكاديمي، والتي بدأت في التحلل نتيجة الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. وقالت النيابة آنذاك: إن "بعض الجثث موجودة في هذه المشرحة منذ عام 2019".
وبقيت قصة الجثامين معلقة، حتى بدأت الأزمة في الصعود مع استقالات الأطباء، خاصة في ظل أنباء متواترة عن وجود تلاعب، وهو ما ذكره الصحفي السوداني إسماعيل محمد علي، في مقالته لصحيفة "إندبندنت" البريطانية، في 19 أغسطس/ آب 2021.
إذ أورد أن "اللجنة المكلفة من النيابة العامة، دفنت 23 جثمانا، من دون أن يتم استكمال عمل الاستعراف، رغم أن بعض تلك الجثامين ورد في تقاريرها الشرعية صراحة التوصية بعدم دفنها".
وقال: "يرجح أنهم من ضحايا مجزرة فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، فضلا عن وجود تجاوزات خطيرة وتلاعب في أرقام جثامين، ودفن جثث من دون استكمال عملية التعرف على هوية أصحابها".
وأضاف: "واضح من الحيثيات أن هناك تلاعبا وتزويرا وأياديا تدخلت عبثا لتغيير واستبدال أرقام الجثامين، ما أدى بالفعل إلى طمس الحقائق وإتلاف البينة".
وشدد أن "وراء هذا العمل جهات شاركت في عملية فض الاعتصام، حيث لديهم تواصل وتنسيق مع الجهات ذات الصلة بالمشارح، ما جعلهم يطمسون الحقائق ويغيرون الوقائع".
ودعا الحكومة الانتقالية إلى تحمل مسؤولياتها، ومن أهمها ملاحقة جرائم التستر الجنائي ممثلة في هذه الجريمة التي تستوجب أقصى العقوبات.
جنرال الرعب
الجثامين المكدسة، والروائح الكريهة المنبعثة من مشارح السودان، تزكم الأنوف، وتثير غضب المواطنين الذين يطالبون بمحاكمات عاجلة، وكشف الحقائق، ومعاقبة المتورطين الحقيقيين في المذبحة، مع إشارات صريحة إلى حميدتي، وقواته ذات الوضع الخاص في بنية القوات المسلحة السودانية.
حميدتي بدوره لم يصمت أمام الاتهامات والتهديدات التي تطاله، حيث تعقد الدولة السودانية لجنة تحقيق خاصة بفض الاعتصام، تسعى إلى إعلان المتهم الحقيقي ومحاكمة المتورطين.
وفي 4 يونيو/ حزيران 2021، اسشتاط "حميدتي" غضبا، ووقف مخاطبا الجموع، خلال تأبين القيادي في حركة جيش تحرير السودان مبارك نميري، وتحدث على نحو غير مسبوق، بكلمات شديدة وحاسمة.
قال: "أنا الوحيد الذي وقفت مع الشعب. جميعهم كانوا يخططون لفض الاعتصام"، ثم اتهم جهات بعينها "أنها عملت على شيطنته والتقليل من شأنه، والنيل من سودانيته، ورتبته العسكرية".
وأعلن بكلمات حاسمة، حملت مسحة غضب: "أنا الشخص الوحيد في اللجنة الأمنية، الذي اعترض على مخططات منسوبي النظام السابق"، وأضاف: "لولا أنا لكان (الرئيس السابق عمر) البشير حتى الآن حاكما، نحن من قمنا باعتقاله ووضعه في الإقامة الجبرية".
وكشف عن "تململ وسط الأجهزة الأمنية والعسكرية من تأدية واجباتهم خوفا من استهدافهم"، في إشارة منه إلى سجن بعض العسكريين، على خلفية اتهامهم بقتل المتظاهرين.
يحاول حميدتي في مناوراته، تجاوز يوم 3 يونيو/ حزيران 2019، المعروف بفض اعتصام القيادة العامة ويعرف أيضا باسم مجزرة القيادة العامة.
في ذلك اليوم اقتحمت قوات مسلحة تنتمي إلى الدعم السريع السودانية مقر الاعتصام مستعملة الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين السلميين، مخلفة أكثر من 128 قتيلا، بحسب قوى إعلان الحرية والتغيير.
ورصدت وسائل إعلام محلية، مقاطع مسربة لعسكريين يرمون الجثث في النيل، قدر عددها لاحقا بـ 40 على الأقل، بغرض إخفاء معالم الجريمة.
وفي 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، أن الهجمات القاتلة التي نفذت على المتظاهرين في اعتصام القيادة العامة كانت مبرمجة، وترقى إلى تصنيف جرائم ضد الإنسانية، واعتبرتها جريمة حرب.
وذكرت في تقريرها أن "قوات الدعم السريع قادت تفريق الاعتصام وفتحت النار على متظاهرين عزل، فقتلت الكثير منهم، وضربت المتظاهرين، وأذلت الكثيرين، وقصت شعرهم، وأجبرتهم على الزحف في مياه الصرف الصحي، وتبولت عليهم، وأهانتهم، كما أحرقت القوات ونهبت الخيام وغيرها من الممتلكات في المنطقة".
جريمة مليشيات
الصحفي السوداني محمد نصر، قال في حديثه لـ"الاستقلال": "إن اكتشاف قرابة مئتي جثة، قابعين في مشارح الخرطوم، كان بمثابة الصدمة للشعب السوداني".
وبين أن "قائد مليشيا الجنجويد (الدعم السريع) حميدتي، يسعى إلى إخراج نفسه وقواته من واقعة مذبحة اعتصام القيادة العامة، ويحاول أن يلصقها بالدولة ككل".
وهو ما عبر عنه أكثر من مرة، متغافلا أن سلوك القتل الممنهج وفض الاعتصامات، وارتكاب المذابح في المدن، إنما هو سلوك أصيل لمليشياته النظامية، التي فعلتها في دارفور مرارا، وفي بورتسودان، وفي الخرطوم، كما قال.
واستطرد: "حميدتي لا يسعى إلى طمس جرائم قواته، وإخفاء كل دليل يقود إلى إثبات ارتكاب الدعم السريع لمجزرة فض الاعتصام، من أجل الهروب من العدالة، أو عدم المحاكمة، بل لأنها حطمت طموحه الأكبر في حكم السودان".
وهو ما كان يسعى إليه عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، واصطدم بإرادة جيش وشعب السودان في آن واحد، إذ لا يقبل أن يقود الدولة قائد مليشيات متورط في جرائم وانتهاكات ضد حقوق الإنسان، بحسب محمد نصر.
وأورد الصحفي السوداني: "علينا أن نشير بإصبع الريبة والشك في محاولات طمس الأدلة إلى حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وهو الذي دأب على محاربة ومطاردة الإسلاميين ووصمهم وعزلهم من كل المناصب والوظائف الحكومية، وهو الذي يحاول إقصاءهم بشتى الطرق".
وتابع: "نراه (حمدوك) يصمت ولا يتكلم عن حميدتي، وعن قواته وجرائمهم، ولا يصطدم بهم أو يطلب محاسبتهم بشكل واضح، الأمر الذي كان سببا رئيسا في الانشقاقات التي وقعت بين فصائل الثورة، تحديدا تجمع المهنيين".
واعترض هذا التجمع على سياسات حمدوك، وأسلوب تعامله في قضية محاسبة قتلة الثوار والمعتصمين.
أيضا اتهم الحزب الشيوعي السوداني حمدوك بخيانة دماء الثورة، نتيجة تقاعسه عن مواجهة المتهمين الحقيقيين في قتل المدنيين، بحسب الصحفي.
المصادر
- السودان.. انسحاب أطباء شرعيين يفاقم أزمة "الجثامين المكدسة"
- جثامين مكدسة في السودان.. أزمة دفن وغضب كبير يشتعل
- سوار الذهب: التعامل مع الجثامين المكدسة يؤكّد وجود اتّجاه لإخفاء الحقائق التفاصيل
- التلاعب بالجثامين في إحدى المشارح يدفع أطباء سودانيين إلى الاستقالة
- هيومان رايتس ووتش: الدعم السريع قاد فض الاعتصام وأطلق النار
- "هيومن رايتس ووتش" تعتبر فض اعتصام الخرطوم جريمة حرب
- السودان.. رئيس لجنة فض اعتصام القيادة العامة يؤكد حاجتهم لدعم فني لفحص الجثامين