مقالات "ندا" ومعارك "هيكل".. كيف كشفت صراع أذرع السيسي الإعلامية؟

12

طباعة

مشاركة

بعد رده بعنف على سب وقذف بعض إعلاميي نظام عبدالفتاح السيسي، لأنه انتقد أداءهم المهني، أحال النائب العام المصري هشام بدوي، الدكتور أيمن منصور ندا رئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، للتحقيق والمحاكمة بدعوى أنه "خرج عن حدود المباح"!

النائب العام فتح تحقيقا مع ندا رغم رفضه فتح تحقيق مماثل في بلاغات الأستاذ الجامعي ضد بعض الإعلاميين، الذين تطاولوا عليه بالسب والقذف على الهواء مباشرة.

أحمد موسى مذيع قناة "صدى البلد"، ونشأت الديهي مذيع "تن" وعضو الهيئة الوطنية للإعلام، وصفا ندا بـ"الكاذب" و"المرتزق" و"الإخواني"، وحين وصف إعلامهم بأنه "إعلام البغال"، أصبح هو المتهم.

وبعد يوم من قرار النيابة، قررت كلية الإعلام إيقافه عن العمل، بدعوى تعديه على وكيل الكلية الذي طالب بالتحقيق معه لهجومه على إعلاميي السلطة، ما اعتبره ناشطو مواقع التواصل، انتصارا لـ"إعلام الحمير والبغال"، كما وصف ندا إعلام السيسي.

أيضا وجد أستاذ الإعلام نفسه متهما بأنه مصاب بالجنون والاضطراب العقلي والهلوسة والوهم والفصام والبارانويا (جنون الارتياب أو العظمة) بحسب تقييم طبي نشره مؤيدون للسلطة.

وشارك نواب "تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين" الموالية للمخابرات العامة، في الحملة، بمطالبة المستشار حنفي الجبالي رئيس مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان) 28 مارس/ آذار 2021 دعوة وزارة التعليم العالي للتحقيق مع ندا لأنه "سب الإعلاميين".

واستنكر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام كتابات ندا ووصفها بالهدامة، وطالب النائب العام بالتحقيق معه وسجنه.

سبب الحملة على ندا هو انتقاله من مهاجمة إعلاميي النظام إلى مهاجمة ضابط المخابرات أحمد شعبان المسؤول عن توجيه الإعلاميين، ووصفه بأنه "رئيس تحرير مصر".

ندا قال إنه سيتوجه بحديثه إلي محرك "العرائس" الإعلامية بدلا من هذه "الدمى"، حسبما ذكر في مقاله السادس ضمن 9 مقالات كتبها على صفحته بفيسبوك خلال فبراير/ شباط، ومارس/ آذار 2021 ينتقد فيها إعلام السيسي.

ومع أن "ندا" حذف مقاله "رسالة مفتوحة إلى رئيس تحرير مصر"، واعتذر عنها بعد جدل واسع أثاره، وأكد أن ما طرحه "رؤية شخصية وموقف ذاتي" لا يعبر عن جهة بعينها، فقد نصبت له المشانق وأحيل للمحاكمة وأوقف عن عمله.

وعقب طلبه للتحقيق لدى النائب العام أغلقت صفحة ندا على فيسبوك، فيما يبدو أنه ضمن عمليات مساومته أو لأسباب قانونية.

"رئيس تحرير مصر"

بعد الانقلاب وحينما كان وزيرا للدفاع كشف السيسي في أكتوبر/ تشرين أول 2013، خلال لقاء خاص عقده مع مجموعة من ضباط القوات المسلحة لأول مرة عن سعيه إلى "زرع أذرع إعلامية" في المؤسسات الصحفية.

السيسي ناقش معهم خطة للسيطرة على وسائل الإعلام وإعادة الخطوط الحمراء التي حطمتها ثورة 25 يناير 2011، وقال إن احتواء الإعلاميين يحتاج إلى "أذرع، وبناء الذراع يحتاج إلى وقت. 

وفي 25 فبراير/ شباط 2019، كشف موقع "المنصة"، لأول مرة "كيف تدير الدولة أذرعها الإعلامية بقوائم الواتساب والإيميل؟"، عبر تعميمات تصل من جهة سيادية إلى قنوات مجموعة إعلام المصريين، المملوكة لشركة "إيجل كابيتال" التابعة للمخابرات العامة.

نقل الموقع عن مصادر داخل القنوات كيف تصلهم قوائم (عبر واتساب وإيميلات) بمن يتحدث ومن يجري استبعاده من الحديث داخل القنوات.

ويوم 19 يونيو/ حزيران 2019 عرف المصريون لأول مرة قصة جهاز سامسونج الذي يرسل منه ضابط المخابرات المسؤول عن الإعلام رسائل "واتساب" للصحفيين ومذيعي الفضائيات.

في هذا اليوم ظهرت مذيعة فضائية إكسترا نيوز (خاصة مقربة من السلطات) تقرأ تصريحات معممة نقلا عن "مصدر طبي مسؤول"، لتبرير وفاة الرئيس مرسي.

في نهاية الخبر قرأت: "تم الإرسال من جهاز سامسونج"، لتكشف سهوا أن التعميم وصل من ضابط مخابرات عبر هاتف محمول سامسونج، كما تبين لاحقا، وتوقفت المذيعة للحظات مندهشة محاولة تدارك الموقف ثم استكملت النشرة الإخبارية!.

بعد ذلك بأربعة أيام، كتب الصحفي والمذيع "مفيد فوزي"، بجريدة المصري اليوم 23 نوفمبر/ تشرين ثان 2019، تحت عنوان "شيء من الخوف"، ينتقد سيطرة الأجهزة الاستخباراتية على الإعلام في زمن أكثر شمولية وقمعية من عهد عبد الناصر.

"فوزي" كشف سيطرة المخابرات على الإعلام بقوله: "دور الأجهزة السيادية هو حماية الوطن داخليا وخارجيا، وليس تولي ملف مثل الإعلام.

وأضاف معلقا بسخرية على واقعة مذيعة قناة إكسترا نيوز، و"تم الإرسال من جهاز سامسونج": إن "إرسال الأخبار والبيانات من المصادر كان يجري بواسطة الفاكس، والآن عبر تطبيق واتساب".

وكانت الفضيحة التالية هي نشر جريدة الدستور يوم 19 يوليو/ تموز 2020 خبرا يقول: "كل التمنيات بالشفاء العاجل لأمير الكويت الشيخ كذا وشوف اسمه يا حبيبي"!؟.

ففضحت بذلك تعليمات جهاز سامسونج والجهة السيادية التي تملي الأخبار على الصحفيين والمذيعين للمرة الثانية، في خبر مرض أمير الكويت الراحل صباح الأحمد.

وبعدما أصبح دور ضابط المخابرات معروفا، كشفت الناشطتان في حركة تمرد سابقا، غادة نجيب، ودعاء خليفة، اسمه وأكدتا أنه العقيد أحمد شعبان بالمخابرات العامة المقرب من رئيس الجهاز اللواء عباس كامل.

"غادة" و"دعاء" تحدثا في مقاطع مصورة عن أدوار "شعبان" في تحريك الصحف والإعلاميين، ووصفوه بأنه "المدير التنفيذي لمصر".

كان من الممكن ألا تقلق الوقائع السابقة عن دور ونفوذ الضابط شعبان والمخابرات في تسيير الإعلام، الجهات الرسمية، باعتبارها صادرة من معارضين في الخارج، لكن جاء توثيق أستاذ كلية الإعلام لها وحديثه عن "إله الإعلام" ليكشف الغطاء بالكامل.

"في المجال الإعلامي.. أحمد شعبان لا شريك له.. أحد أحد .. يعز من يشاء، ويذل من يشاء.. يهب الملك والنفوذ لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء.. وهو على كل شيء قدير!.. بأوامره تدار المنظومة الإعلامية".

هكذا وصفه د. أيمن ندا في مقاله المحذوف 17 مارس/ آذار 2021: " رسالة مفتوحة إلى رئيس تحرير مصر "، وتحدث عن سطوته على الإعلام وكيف أن "كل العاملين في المجال ينفذون حرفيا تعليماته.. لا أحد يخرج عن سلطانه ونفوذه".

وقال ندا: "رسائل كثيرة وردت لي تحذرني من الكتابة عن المقدم أحمد شعبان .. قرصته والقبر"، لكنه لم يخف، بل وزج باسم نجل السيسي (محمود) مع شعبان وعباس كامل، في مقاله.

ووصفه بأنه "يمسك بكل الخيوط ويحرك كل العرائس"، وكرر قول المعارضين في الخارج بأنه "الرئيس التنفيذي لمصر" في المجال الإعلامي، و"أقوى رجل في المنظومة الإعلامية والسياسية في مصر".

لكن ندا اضطر لحذف ما كتبه، والاعتذار لشعبان والجيش في مقاله السابع، ليعود مجددا ليهاجم بضراوة أكبر في مقاله الثامن ويصف إعلام السلطة بأنه "إعلام البغال" فماذا جرى؟.

بحسب مصادر قريبة من الدكتور "ندا" اتصل به العقيد أحمد شعبان مباشرة وعاتبه بشدة وطلب منه مهددا بحذف مقال "رئيس تحرير مصر"، لكنه أيضا لم يقطع شعرة معاوية معه، ما جعل أستاذ الإعلام يمتدحه ضمنا في اعتذاره.

المصادر قالت لـ"الاستقلال" إن د. أيمن ندا اشتكى من تعرضه لكل أنواع الإرهاب من مؤسسات الدولة العميقة، وتصور أن الأمر انتهى، وأنه لا مانع من نقده للإعلاميين لكن دون الحديث عمن يقف وراءهم.

غير أنه فوجئ باستمرار هجمات جوقة إعلاميي السلطة الذين يحركهم الضابط شعبان عليه، فعاد ليكتب مقاله الثامن غاضبا "إعلام البغال"، لينتهي الأمر بانتصار "البغال" عليه، وفصله ومحاكمته، وفق مراقبين.

النائب العام قال في قرار تحويل ندا للتحقيق إنه "خرج عن حدود المباح"، كأن هناك نقدا مباحا أصلا في مصر، حسبما سخر نشطاء على مواقع التواصل.

"الكراكيب" الإعلامية

خطورة مقالات ندا التي انتهت به للمحاكمة والفصل، أنها كشفت للرأي العام لأول مرة اسم ودور المسؤول عن تسيير إعلام السلطة في مصر، والسخرية منه بصفته "رئيس تحرير مصر"، ومطالبته بالاستقالة: "اسألك الرحيلا".

وصف "ندا" إعلام السلطة بأنه "إعلام مطية "يركبه" –مثل البغال –من يملك المال أو من يتولى الحكم أو هما معاً"، وسخر من "المخرج" –الضابط-الذي يوجه هؤلاء الإعلاميين "العرائس" على مسرح الإعلام، ما أغضب ضابط المخابرات.

ولأنه لم يجد صدى لنصائحه اللاذعة لـ"رئيس تحرير مصر"، وعلى العكس فصل من عمله ويحاكم، فقد وجه أستاذ الإعلام رسالته التاسعة والأخيرة، قبل غلق حسابه، للسيسي نفسه، شاكيا من "الكراكيب الإعلامية"، ومقدما رؤيته لحل أزمة إعلام السلطة.

ندا نصح السيسي بالتخلص من "الكراكيب الإعلامية" قبل الانتقال للعاصمة الجديدة، والجمهورية الثانية، ونبهه لخطورة غلق المجال العام أمام المصريين ما يجعلهم يلجؤون لـ قنوات معادية".

ندا قال للسيسي: "معظم هزائمنا الإعلامية تحدث بنيران صديقة"، وإعلاميونا "يتهمون أطرافا خارجية بالتسبب في هزائمهم الإعلامية"، وليس لهم "قائد إستراتيجي".

صراع الأجهزة 

لم تكن مقالات "ندا" التسعة، التي هاجم فيها رئيس المجلس الأعلى للإعلام كرم جبر وإعلاميي السلطة كاشفة لسيطرة المخابرات على الإعلام بقدر ما ألقت الضوء على صراع الأجهزة للسيطرة على الإعلام.

معارك إعلام "أحمد شعبان" لم تكن مع أستاذ الإعلام فقط، بل ومع وزير الدولة للإعلام نفسه أسامة هيكل، الذي خاض معركة مع نفس إعلام المخابرات، عكست أيضا هذا الصراع.

ظهر هذا في وقوف شخصيات عامة ومجلس الوزراء مع "هيكل"، وتضامن شخصيات سياسية مع د. ندا منهم الرئيس السابق للمحاكم العسكرية ثروت بدوي، والسفير السابق فوزي العشماوي، وعدد من الإعلاميين وأساتذة الإعلام.

كما ظهر صراع الأجهزة في المعركة التي دارت بين إعلاميي سامسونج وأسامة هيكل، في أكتوبر/ تشرين أول 2020، واستعملت فيها ألفاظا خادشة على الفضائيات.

تحدث حينها وزير الإعلام عن فشل إعلام المخابرات، مقابل إعلام الخارج وعدم قراءة 65 بالمئة من المصريين لصحفهم، وقال لهم: "أرقام توزيعكم عندي".

وقتها تحول الصراع لمعركة كلامية وإهانات وشتائم متبادلة على مواقع التواصل، واتهم صحفيو المخابرات الوزير بأنه فاشل وطالبوا باستقالته، واتهمهم هيكل بالفشل في إدارة الإعلام بدليل تدهور وانهيار توزيع صحف النظام.

صراع الأجهزة ظهر أيضا خلال أحاديث المصالحة التركية المصرية، حين رحب هيكل، بقرار أنقرة إلزام قنوات المعارضة في إسطنبول بمواثيق الشرف الإعلامية ووصفه بأنه "بادرة طيبة من الجانب التركي".

بالمقابل، شكك إعلام المخابرات في المصالحة وتجاهلها، بل وقام موقع رئاسة الوزراء على فيسبوك بحذف تصريحات وزير الإعلام بعد نشرها!.

تمثل هذا الصراع أيضا في قيام نواب لجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب 14 فبراير/ شباط 2021 برفض بيان هيكل وطالب بمساءلته عن ارتكاب مخالفات مالية وإدارية ونهب أموال مدينة الإنتاج الإعلامي.

المجلس قرر في 30 مارس/ آذار 2021 استجواب "هيكل" وسحب الثقة منه، تمهيدا لعزله، وسط حديث عن تعديل وزاري يستبعده، ما يعكس اشتداد الصراع بين الأجهزة بين أنصار "شعبان" في الإعلام والبرلمان، والوزير "هيكل".