بالتخلص من الفرنسية.. هل تملك الجزائر إرادة حقيقية لتمكين اللغة العربية؟

12

طباعة

مشاركة

عاد الحديث في الأوساط الجزائرية عن تمكين اللغة العربية، تزامنا مع يومها العالمي، الذي صادف الـ18 من ديسمبر/كانون الأول 2020.

تحتل اللغة الفرنسية المرتبة الأولى في الجزائر، ويمتد تأثيرها بشكل كبير إلى العامية، أكثر من باقي دول المستعمرات الفرنسية القديمة في المغرب العربي.

ويعود انتشارها، إلى فرضها خلال الحقبة الاستعمارية بين عامي 1830 و1962. ومحاربة الاحتلال الفرنسي للغة العربية، فضلا عن تأخر تطبيق قوانين لتعريب الإدارة والتعليم بعد الاستقلال.

تكررت الدعوات إلى إلغاء الفرنسية من المناهج الدراسية وتعويضها بالإنجليزية باعتبارها اللغة العالمية الأولى، ووصلت هذه الدعوات إلى حد المطالبة بتجريم استخدام الفرنسية بالمؤسسات والوثائق الرسمية.

لم ترافق هذه الدعوات إرادة رسمية بتمكين اللغة العربية في الجزائر، وجعل الإنجليزية اللغة الثانية، وظلت بذلك أصابع الاتهام تتوجه إلى التيار الفرانكفوني داخل مؤسسات الدولة.  

خطوة أولى

في مايو/أيار 2020، اقترح حزب حركة "مجتمع السلم"، تجريم استخدام الفرنسية بالمؤسسات والوثائق الرسمية، وتضمينه في التعديل الدستوري، واعتبر مؤيدوه أن المقترح خلاص نهائي من التبعية الثقافية والسياسية لفرنسا بصفتها المستعمر القديم.

بينما رأى آخرون في الدعوة استهدافا للنخبة الفرانكفونية (الناطقة بالفرنسية) في البلاد، منتقدين طرح رئيس الحركة "عبد الرزاق مقري" الذي درس الطب باللغة الفرنسية ويحمل "أفكارا مستوردة".

تنص النسخة المعدلة من الدستور، على أن العربية هي اللغة الوطنية والرسمية الأولى، كما أن الأمازيغية لغة رسمية ثانية.

الكثير من المعلقين على مقترح حركة "مجتمع السلم" اعتبروا أنه تصويب للنقاش المفتعل بين اللغتين الرسميتين العربية والأمازيغية، لأن "حقيقة الصراع هي الدفاع عن الفرنسية"، على حد قولهم.

وقال الأستاذ الجامعي "سعيد يحياوي"، في تعليق على المقترح، عبر صفحته على "فيسبوك": إن "تصريحات مقري بشأن تجريم الفرنسية أعادت نقاش الهوية إلى حقيقته".

وأضاف: أن "لغة بلد مستقل في مواجهة أذناب مستعمر يفرضون سيطرة لغته ويحمون مصالحه.. تمازيغت (الأمازيغية) ليست ضرة العربية".

ورأى الإعلامي الجزائري، "أبو طالب شبوب"، أن الجزائر تعيش وضعا غير طبيعي لأنها "بلاد فيها لغتان رسميتان (العربية والأمازيغية) ولكن وثائقها الأساسية وكثير من مراسلاتها الرسمية تمت كتابتها بغير اللغتين الرسميتين"، في إشارة إلى الفرنسية.

وقبل أيام من طرح المقترح، أعلنت الحكومة الجزائرية، دعمها للانفتاح على اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية والصينية.

وتعمل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، منذ قرابة العام على إرساء تعميم التدريس باللغة الإنجليزية، وإدراجها في ملخصات الدراسات العلمية كمرحلة أولى.

في ديسمبر/كانون الأول 2019، أشار وزير التعليم العالي والبحث العلمي "طيب بوزيد"، إلى وجود توصيات خرجت بها الوزارة من سلسلة من النقاشات على المستوى الوطني، وعممتها على مستوى 26 مؤسسة جامعية.

أفادت التوصيات بتعميم اللغة الإنجليزية على المدى القصير على مستوى الدكتوراة بداية من سنة 2020/2019، وعلى المدى البعيد، على مستوى شهادة الإجازة.

وفي يناير/كانون الثاني 2020، طمأنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بأنها ماضية في تعزيز اللغة الإنجليزية بالجامعات الجزائرية، باستبدال الفرنسية. 

رأى عدد من المتابعين، أن القرار كان أحد مكتسبات الحراك، الذي نادى المشاركون فيه بإنهاء التبعية لفرنسا، ومحاسبة كل من يخدم أجندتها من داخل مؤسسات الدولة على حساب مصلحة الجزائريين. 

فساد حكومي

ارتبط مشروع تمكين اللغة العربية لسنوات باسم الوزيرة السابقة للتربية الوطنية، "نورية بن غبريط رمعون"، التي تلاحقها تهم فساد، وجّهتها إليها الوزارة في يونيو/حزيران 2020، بعد أن تنحت عن المنصب في مارس/آذار 2019، منذ مايو/أيار 2014.

وقالت صحيفة "الشروق": إن مصالح وزارة التربية تلقت تعليمات للشروع في التحقيق في ملف الفساد الذي طال مشروع "مروات"، الذي استحدثته الوزيرة السابقة في ديسمبر/كانون الأول 2018، والذي "تسبب في استنزاف الملايين من الخزينة العمومية، بعد استقدام خبراء من فرنسا أغلبهم من فئة المتقاعدين، لتنفيذ المشروع، الذي لم ير النور، بالرغم من تقاضي الخبراء مستحقاتهم المالية باليورو".

توصف "بنت غبريط" من طرف خصومها، بأنها ذات توجه فرانكفوني، أي أنها تنتمي إلى التيار الذي يعمل على تكريس اللغة الفرنسية على حساب العربية في الجزائر، وقد تعرضت بسبب هذا التوجه إلى انتقادات حادة منذ توليها منصب وزارة التربية الوطنية.

وأصبحت "بنت غبريط" -التي توصف بالوزيرة التكنوقراطية- أكثر الشخصيات الجزائرية إثارة للجدل على مستوى قطاع التربية والتعليم، وعلى مستوى الساحة السياسية.

وكانت أكثر الانتقادات التي وجهت لها قد جاءت على خلفية اقتراح وزارتها في ندوة حول "تقييم الإصلاح التربوي"، إدراج اللهجة العامية الجزائرية في المراحل الابتدائية من التعليم بدل اللغة العربية الفصحى، إضافة إلى ما تداولته وسائل الإعلام المحلية بشأن لجوء دائرتها الوزارية إلى الخبراء الفرنسيين من أجل الإصلاحات المطروحة.

ودعت أصوات كثيرة من الساحة السياسية الجزائرية إلى استقالة الوزيرة -آنذاك- إثر المقترح، الذي دافعت عنه "بنت غبريط" بالقول: إنه مبني على "دوافع بيداغوجية (عبودية سلطوية) بحتة".

ويعتقد البعض، أن استعمال اللغة العامية في بيئة التدريس، هو مؤامرة ضد اللغة العربية الفصحى، التي تعاني بالفعل من التضييق والتهميش مقارنة باستعمال الفرنسية.

 ويرون في التعليم باللغة الفرنسية استمرارا لمسلسل تبعية الجزائر لدولة المستعمر، لكن في الوقت نفسه، يجدون في التعليم بالعامية "تهديدا لثوابت الأمة الجزائرية ووحدتها".

ويلوم الإسلاميون والتيار القومي العروبي، "اللوبي الفرنسي" على الصعوبات التي تواجهها اللغة العربية الفصحى.

ويعتقد بحث أصدره "معهد واشنطن" لتحليل السياسات، أن هذا اللوبي ينتشر بشدة في جميع أنحاء الإدارة الجزائرية، وأنه أحبط جميع محاولات تعريب الإدارات والمؤسسات الجزائرية الرسمية، كون هذه المؤسسات تتعامل باللغة الفرنسية في المقام الأول، على الرغم من أن إقرار الدستور يدرج العربية الفصحى كلغة رسمية في الجزائر.

وبالنظر إلى هذا الاستقطاب الأيديولوجي بين مؤيدي الفرانكوفونية من جهة والعربية الفصحى من جهة أخرى، خلص البحث، إلى أن مشكلة اللغة في الجزائر هي قضية سياسية وأيديولوجية بالدرجة الأولى، وليست مشكلة تربوية.

كما بين أن التيار الفرانكفوني، الذي حمّل العربية وأنصارها أسباب الخيبات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعاني منها المجتمع الجزائري، عجز عن خلق مشروع حداثي يحرر المجتمع الجزائري من آثار الأصولية التي هددت البلاد خلال عشرتين كاملتين، رغم مواقف أنصارها كأكبر قوة لصناعة القرار في جميع المؤسسات الجزائرية.

وفي المقابل، يستخدم أنصار العربية الفصحى هذه اللغة إلى جانب غيرها من مقومات الهوية التي يفضلونها، كوسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية التي تتعلق أساسا بتوسع وانتشار أفكارهم الخاصة في المجتمع الجزائري بدلا من ترقية اللغة نفسها، وفق المعهد. 

إرادة الدولة

ورأت أستاذة الأدب العربي بجامعة "تمنراست" في الجزائر، "لواتي وردة"، أن البلاد منذ الاستقلال تعمل جاهدة لتمكين اللغة العربية من خلال ترسيمها، وجعلها اللغة الوطنية الرسمية الأولى للبلاد، وقد نص الدستور الجزائري على ذلك صراحة.

وأفادت "لواتي" في حديث مع "الاستقلال"، بأن قانون التعريب، أيضا، دعا إلى استخدام اللغة العربية في المعاملات والمراسلات الإدارية. 

والأهم من ذلك، بحسب المتخصصة، إنشاء المجلس الأعلى للغة العربية، والذي يعد مؤسسة فاعلة في خدمة اللغة العربية، وقد تم تنصيبها بموجب الأمر رقم (96/30) المؤرخ في 21 ديسمبر/كانون الأول 1996، المعدل والمتمم للقانون (91_05) المؤرخ في 16 يناير/كانون الثاني 1991.

وأوضحت أستاذة الأدب العربي، أن المجلس سعى إلى ترقية اللغة العربية والنهوض بها، ولم يقتصر ذلك على مجال المدرسة فحسب، بل في شتى مجالات الحياة، كما أشرف المجلس على عملية التعريب المرتبطة بالوثائق الإدارية في كل القطاعات، ولأهميته وفاعليته، فإن توصياته ونتائج بحوثه المرتبطة باللغة العربية تقدم مباشرة لرئاسة الجمهورية.

قالت لواتي: إن "النية مبيّتة لتمكين اللغة العربية في الجزائر، وجعلها لغة وطنية قوية بين أبنائها الناطقين بها، بدليل ما اتخذه مجلس بريد الجزائر من قرارات صارمة بإلغاء اللغة الفرنسية من جميع الوثائق الرسمية المتعامل بها في القطاع، وتعويضها بأخرى محررة باللغة العربية الوطنية".

لكن، وبالرغم من هذه الجهود المبذولة، تضيف المتحدثة: إلا أن ذلك "يبقى غير كاف، ويحتاج إلى متابعة ميدانية دقيقة، ولهذا نجد أن مشروع تمكين اللغة العربية والنهوض بها في الجزائر، لاقى صعوبات جمة وعراقيل حالت دون المضي قدما في تجسيده بالشكل المسطر له".

ولخصت المتخصصة، هذه العراقيل في "تجميد المشروع عدة مرات"، إضافة إلى المقاومة الشرسة التي برزت من طرف الفرانكفونيين _الناطقين باللغة الفرنسية_ الذين هاجموا المشروع وحاولوا إجهاضه، حتى ظهر صراع خفي بين طرفين مختلفين ثقافيا.

أما في ميدان التعليم، توضح "لواتي"، فقد واجه المشروع نوعا من التشويش من خلال ازدواجية لغة التدريس في المرحلة الابتدائية، حيث لم يكتمل نضجه اللغوي بعد، ما يؤثر على نموه اللغوي والفكري، وهذا التأثير يمتد لمراحل متقدمة من التعليم.

واعتبرت الأستاذة الجامعية، أن محاولات نشر العامية والمناداة بتفعيلها كلغة مساعدة في التدريس، من الأسباب التي أدت إلى تثبيط مشروع التعريب وتمكين اللغة العربية في الجزائر.

مع ذلك، تشكك "لواتي" في إرادة الدولة الجزائرية الرامية إلى تمكين اللغة العربية والرقي بها، مضيفة: أن "خيار التعريب لا مناص منه كونه نابعا من إرادة شعبية تعتز بقيمها وعروبتها وحضارتها، والدليل على ذلك سعي الجامعة الجزائرية إلى إقحام اللغة العربية في الإنتاج العلمي والتكنولوجي الصادر عن الباحثين الجامعيين من أساتذة وطلبة".