بعد 10 سنوات من ثورة تونس.. أين "اختفى" بوليس زين العابدين بن علي؟
تحتفي تونس بمرور عقد من "ثورة الياسمين" التي كان سببها المباشر صفعة في وجه البائع "محمد البوعزيزي"، رد عليها بإضرام النار في جسده، فتحول إلى أيقونة أطاحت بأعتى الأنظمة البوليسية في العالم العربي، حيث تساقطت أنظمة، زين العابدين بن علي، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا.
وبعد 10 سنوات على هروب ابن علي، ما تزال تونس تعاني من "إرث" الرئيس الهارب في مجال الأمن، والذي استعان بـ"آليات الديمقراطية وحقوق الإنسان"؛ ليمارس حماية السلوكات المخالفة للقانون.
"بوليس" ابن علي
تجمع التقديرات على أن الرئيس الأسبق ابن علي (توفي عام 2019)، خلّف جهازا أمنيا يتراوح عدد عناصره ما بين 160 ألفا و200 ألف، موزعين على عدد من القطاعات، غير أن وزارة الداخلية أعلنت أن هذه الأرقام مبالغ فيها، بينما ذهبت تقديرات أخرى إلى أن حجم تلك القوات تتراوح بين 40 و80 ألف فرد.
ويشمل القطاع الأمني في تونس، الشرطة والحرس الوطني والشرطة القضائية (والتي تعمل في وزارة العدل والمحاكم، ولكنها تتبع وزارة الداخلية) وقوات التدخل وقوات الحرس الرئاسي.
وكانت تنقسم القوات الأمنية في عهد ابن علي إلى: الشرطة العادية، والبوليس السياسي (مديرية أمن الدولة)، وقد تم حل "البوليس السياسي" في مارس/آذار 2011، وتم دمجه في الشرطة العادية، مع احتفاظه بهيكلية إدارية موازية.
والحرس الوطني، ويعمل بصورة أساسية في المناطق الساحلية والريفية، وهو أقرب إلى منظمة شبه عسكرية أو قوات الدرك، ويقدر عدده بحوالي 12 ألف جندي.
وأيضا الشرطة القضائية: وهي جزء من وزارة الداخلية، ولكنها تعمل داخل السلطة القضائية، وهي المعنية بالتحقيقات داخل وزارة الداخلية، كما أنها المسؤولة عن جمع الأدلة وإجراء التحقيقات وكتابة تقارير التحقيق الرسمية للقضايا قبل رفعها أمام المحاكم.
غير أن الشرطة القضائية تفتقد للأدوات اللازمة التي تؤهلها للقيام بتحقيقات مهنية عالية الكفاءة.
بالإضافة إلى قوات الحرس الرئاسي، وكانت وظيفتها الأساسية حماية الرئيس والقصور الرئاسية، وكانت تعمل مستقلة تقريبا، وتخضع للإشراف المباشر لمؤسسة الرئاسة.
والاستخبارات العامة، وهي وكالة مستقلة كانت تتبع رئيس الجمهورية بالإضافة إلى وجود استخبارات داخل كل من وزارة الدفاع ووزارة الشؤون الخارجية.
ولا تتوفر تفاصيل معلنة حول حقيقة عمل أي منها، ومن الملاحظ أنه ليس هناك قانون يحكم جهاز الاستخبارات في تونس، ومن ثم، فإن وجود إطار قانوني يعد شرطا لازما من أجل وجود جهاز يمتاز بالكفاءة والفاعلية وخاضع للمساءلة.
فعلى مر العقود التي سبقت ثورات 2011، كان أداء المؤسسات الأمنية العربية، أقرب إلى أداء عصابات الجريمة المنظمة منه إلى الأجهزة الأمنية المهنية.
كما كانت مفاهيم، مثل حقوق الإنسان والأمن والرقابة الديمقراطية والإشراف المدني والمساءلة غائبة عن معاجم وزارتي الدفاع والداخلية، وتم قمع أية محاولات لإضافتها بوحشية تامة.
إصلاح شكلي
لقد وقفت وحشية القطاع الأمني في كل بلد حدثت فيه انتفاضة تقريبا وراء اندلاع الانتفاضات العربية بشكل أساسي. ففي تونس، تفجرت الثورة عندما أحرق البوعزيزي نفسه بعد تعرضه لعدد من الإهانات من قبل الشرطة في ديسمبر/كانون الأول 2010.
لقد حاولت دولة "الربيع" في تونس أن تصحح الوضع، فعمدت إلى إقرار عدد من الإصلاحات القانونية والإدارية والمؤسساتية، بحثا عن نجاح في ضبط مجال عمل الأجهزة الأمنية، وإخضاعها لرقابة القانون، وهو ما تجلى في عدد من القرارات التي دامت خلال السنوات العشر الماضية.
ومن أهمها هذه القرارات؛ قيام وزير الداخلية بعد الثورة، "فرحات رجحي"، بطرد 42 مسؤولا رفيع المستوى من الوزارة، كما أعلن عن حل "البوليس السياسي"، غير أن جهوده الإصلاحية توقفت عندما أجبر على الاستقالة بعد شهرين، نتيجة لوجود مقاومة لسياساته من وزارة الداخلية.
حلّ ما يسمى بـ "الشرطة السياسية" وعزل نحو 11 مدير أمن، كما وضع دليل حقوق إنسان بين وزارة الداخلية والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
كما أصدر وزير الداخلية، "الحبيب الصيد"، الكتاب الأبيض حول إصلاح الشرطة أو "الأمن والتنمية: نحو الأمن في خدمة الديمقراطية"، والذي كان بمثابة خريطة طريق لإصلاح الشرطة من أداة قمعية إلى مؤسسة لخدمة المواطنين.
وركز "الكتاب الأبيض" على جوانب مثل: تدريب قوات الشرطة، وإدخال مدونة لقواعد السلوك للشرطة، ومزيد من الشفافية في عمل الشرطة، والنص الصريح على الإجراءات التأديبية، ولا مركزية الشرطة، ومزيد من السيطرة والمساءلة لجهاز الاستخبارات التونسي.
واجه وزير الداخلية عن حزب النهضة، "علي العريض"، مقاومة شديدة من جانب وزارة الداخلية، خلال سعيه لعزل المسؤولين المقربين من النظام السابق، فعندما حاول في 2012. عزل رئيس قوات التدخل السريع، والمتهم بإصدار أوامر بإطلاق النار ضد المتظاهرين، فوجئ بالمئات من أنصاره يقومون بتنظيم اعتصام أمام الوزارة، الأمر الذي جعله يتراجع عن قراره.
ـ واجهت حكومة "الترويكا" (مكونة من أحزاب، المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي، وحركة النهضة) التي حكمت تونس بعد انتخابات المجلس التأسيسي، انتقادات شديدة حتى في صفوف أنصار الأحزاب المكونة لها بسبب "براغماتيتها المبالغ فيها"، حسب وصف كثيرين، في تعاملها مع ملف الإصلاح الأمني.
لقد تكرر المشهد في السنوات العشر الأخيرة بعد الثورة، وتوازى فيه مستويان من الأحداث والوقائع، سعيٌ حقوقي ومؤسساتي لضبط مجال عمل الأجهزة الأمنية، وفرض مزيد من الرقابة على أنشطتها، في مقابل تجاوزات حقوقية من قبل الأجهزة الأمنية والسعي للتغطية عليها، من خلال إنشاء نقابات رجال الأمن، من أجل "النضال" ضد المساس بحقوق هذه الفئة.
عِصِيُّ ابن علي!
تكشف الوقائع في تونس عن استمرار بعض انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل الشرطة في مرحلة ما بعد ابن علي، وقد وثقتها منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية.
وأكدت هذه المنظمات، أن المواطن التونسي لا يزال يجد نفسه في مواجهة نقابات شرطية، ما زالت تُستخدم أداة لحماية مصالح المنظومة الأمنية المتجسدة في وزارة الداخلية، وتقويض سيادة القانون.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020، نظمت العشرات من منظمات المجتمع المدني أمام البرلمان التونسي، وقفة احتجاجية اعتراضا على عودة مشروع قانون "حماية قوات الأمن" للنقاش بين أعضائه، وهو مشروع قانون عرف في السنوات الماضية باسم "زجر الاعتداء على القوات المسلحة".
ورغم أن الحكومة ونقابات الشرطة تقول: إن "الغرض منه هو حماية رجال الأمن الداخليين من المسلحين والاستهداف أثناء أداء العمل"، غير أن المحتجين والبيانات المنددة قالت: إنه يهدف إلى "تمكين النظام القديم من العودة تحت ذريعة توسيع الحماية القانونية لقوات الأمن، وإعطائهم قدرة واسعة على ممارسة انتهاكات مستقبلية بلا عقاب".
وبعد 10 سنوات من عمر الثورة التونسية، بقيت حواجز التغيير داخل أروقة الشرطة، قائمة بحكم بقاء مجموعتين من النصوص القانونية عززتا وظيفة النمط الاستبدادي لقوات الأمن، وهما "قانون الإرهاب وقانون العقوبات".
وساهم "قانون العقوبات" في تمكين السلوك القمعي للأجهزة الأمنية، عبر حظره "إهانة" الموظفين العموميين مثلا، وهو لفظ مطاط يمكن إدراج تعاملات كثيرة في شرحه. ويظل "قانون الإرهاب" الذي صدر عام 2003. ورغم تنقيحه أكثر إساءة في الاستخدام على نطاق واسع بسبب التعريفات الفضفاضة للغاية للإرهاب أيضا.
وتعاني تونس من تخمة في النقابات الأمنية، فبين عامي 2011-2012، تم إنشاء أكثر من 100 نقابة في القطاع الأمني، تحت دعاوى المطالبة بتحسين الأجور وتغيير شروط الترقية والتوظيف.
وسمح المرسوم رقم "42" والموقّع في 25 مايو/أيار 2011، والصادر إبان حكومة "الباجي قايد السبسي"، بإنشاء نقابات أمنية، ونص فيه الفصل 11 على "حق قوات الأمن الداخلي في ممارسة العمل النقابي، ويمكن لهم تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها".
وتُقدم نقابة "الاتحاد الوطني لنقابات قوات الداخلية"، نموذجا للنقابات التي تقاوم سلطة القانون، ففي قضية الفتاة أحلام الدلهومي البالغة من العمر 21 عاما، والتي قتلت هي وابن عمها، في أغسطس/آب 2014، على يد ضابط شرطة.
وبعد أن أصدرت المحكمة في محافظة القصرين الجنوبية حكما بسجن ضابط الشرطة بتهمة "القتل الخطأ"، تظاهرت النقابات أمام البرلمان رافعين شعار "ضابط أمن في السجن = دعم الإرهاب".
مثال آخر قدمته نقابات شرطة (نقابة مسؤولي المديرية العامة لوحدات التدخل، والاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن) أواخر 2017، حيث هددت بالتوقف عن حماية أعضاء البرلمان إذا لم يعرض مشروع القانون على جلسة عامة في غضون 15 يوما.
التحول الكبير
هذه التشريعات والممارسات أبقت على مخاوف المجتمع المدني والحقوقي من أن يغطي ذلك على المطالبات المستمرة لإصلاح جهاز الشرطة، وفق متابعين.
ويعتبر المجتمع المدني والحقوقي هذه النقابات الأمنية "ترسيخا للسلطة الاستبدادية، وغطاء للإفلات من العقاب القانوني، وطريقا ممهدا لعدم محاسبة الأمنيين المتورطين في أي انتهاكات، فسرعان ما حادت هذه النقابات عن أهدافها في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأعضائها لتصبح جزءا من التجاذبات السياسية"، حسب خبراء.
ويرى مراقبون أن هذه النقابات، تمثل تحديا كبيرا للقانون وحقوق الإنسان في تونس، فهي من جهة تمارس أكثر أشكال الضغط على المجتمع والمؤسسات في آن واحد، ولعل تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، تؤكد أنها نجحت بالفعل في الانقلاب على الدولة، بما يضمن من استمرار ممارسات النظام السابق.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة تازة في المغرب "إسماعيل حمودي"، اعتبر أن "وجود نقابات أمنية في تونس، يشكل سابقة في العالم العربي، وهذه النقابات يغلب عليها الجانب الدفاعي للخوف الكبير الذي لمسته بعد الثورة، والغضب الشعبي العارم للثوار، وارتفاع الأصوات المطالبة بالانتقام من كل المؤسسة الأمنية، لكنها قد تتطور بما يخدم مصالح الثورة".
وأضاف "حمودي" في حديثه مع "الاستقلال": "وجود هذه النقابات واحد من إنجازات الثورة، فرغم هذا التعدد الكبير للنقابات، وضلوع بعضها في عرقلة القانون، فإنه من الواجب التنبيه إلى أنها انتقلت من عرقلة القانون بوسائل النظام القديم، من خلال استعمال الملفات، أو استغلال النفوذ، أو حتى سلطة استعمال العنف، إلى الاحتجاج في الشارع".
"حمودي" الذي أعد أطروحة حول السياسة الأمنية زاد بالقول: "لقد انتقلت هذه المؤسسة إلى ممارسة الاحتجاج والمعارضة، كباقي مكونات المجتمع التونسي، وهذه واحدة من الإيجابيات التي يجب النظر إليها بتمعن لأنها تعكس التحول الذي تعيشه هذه المؤسسة".
وأفاد أن الدولة في تونس "تعيش التحول إلى دولة المجتمع لا دولة النظام، وهذا التحول يتجلى في جميع المؤسسات، وطبعا سيكون الارتباك هو سيد الموقف، والمؤسسة الأمنية واحدة من المؤسسات، أو هي أهم مؤسسة مارس بها نظام ابن علي السلطة، فعندما تعيش التحول سينعكس عليها على شكل اضطراب أو ارتباك".
وأوضح حمودي "علينا أن نميز بين مرحلتين في تطور العمل النقابي الأمني في تونس، الأولى: تمثلت في ظهور نقابات تدافع عن الأمنيين من قوانين الثورة، والثانية: أنه مع الأيام بدأت تبرز نقابات ذات طبيعة إصلاحية، وتدعو إلى غرس قيم الثورة، داخل المؤسسة الأمنية".
وتابع: "المؤسسة الأمنية تعيش اليوم صعوبات، وهذا ما يدفع البعض إلى الحديث عن انتقادات، وعن تجاوزات أمنية لحقوق الإنسان، كما ترصدها تقارير المنظمات الحقوقية، التي تقرر في بعض الأحيان الخروج للشارع للاحتجاج".
وختم أستاذ العلوم السياسية حديثه بالقول: "علينا ألا ننسى أن المؤسسة الأمنية في تونس، تنتقل من جهاز تابع للنظام أو بدقة أكبر أداة بيد ابن علي، إلى مؤسسة تابعة وخاضعة لسلطة مؤسسات الدولة، وهذا التحول يحتاج زمنا مقدرا لتحقيق انتقال آمن وسليم إلى دولة المؤسسات".
المصادر
- إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في دول الثورات العربية
- إتمام المهمة: إصلاح قطاع الأمن بعد الربيع العربي
- الفرصة الضائعة: السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس
- شبح بن علي.. ما الذي يخفيه قانون حماية قوات الأمن في تونس؟
- المؤسسة الأمنية في تونس عصيّة على الإصلاح
- Restarting Police Reform in Tunisia: The Importance of Talking About Everyday Security