كيف تحولت جيبوتي إلى ساحة معركة بين الإمارات وحق السيادة الوطنية؟

داود علي | منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

في منطقة القرن الإفريقي حيث تمر شرايين التجارة الدولية وتتشابك حسابات الجغرافيا بالسياسة، تدور منذ سنوات مواجهة صامتة لكنها شديدة الحساسية بين جيبوتي والإمارات. 

في قلب هذا الصراع يقف ميناء "دوراليه" الإستراتيجي، بوصفه أحد أهم موانئ إفريقيا المطلة على البحر الأحمر وباب المندب.

لكن المواجهة لم تعد مجرد نزاع تجاري على عقد إدارة ميناء، بل تحولت إلى معركة سيادة واستقلال سياسي واقتصادي، وفق ما كشفه الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي أخيرا في حوار نادر مع مجلة "ذا أفريكا ريبورت". 

في تصريحاته، وجه جيلي اتهامات صريحة إلى أبوظبي بمحاولة فرض وصايتها على مقدرات بلاده عبر النفوذ المالي والعقود الإستراتيجية، واصفا ذلك بـ"الاستعمار المقنع".

ولم يكن النزاع حول ميناء “دوراليه” إلا جزءا من مشروع أوسع، يقول جيلي: إنه يستهدف الهيمنة على الموانئ والممرات البحرية في شرق إفريقيا. 

في وقت تتوسع فيه الإمارات بثقل مالي وعسكري عبر القرن الإفريقي واليمن والبحر الأحمر، في سباق متزايد للسيطرة على أهم مفاصل التجارة الدولية.

فما الذي يكشفه هذا التصعيد؟ وكيف تحول ميناء صغير إلى بؤرة صراع إقليمي؟ وما حجم الأدوار الخفية التي تلعبها الإمارات منذ سنوات في قلب هذا النزاع المعقد؟

تصريحات جيلي 

وجاءت تصريحات الرئيس الجيبوتي في المقابلة الموسعة مع مجلة ذا أفريكا ريبورت، يوم 25 مايو/ أيار 2025؛ حيث تناول خلالها جملة من القضايا الإقليمية المتشابكة، من تطورات النزاع في غزة إلى التوترات المستمرة مع شركة "موانئ دبي العالمية" بشأن السيطرة على ميناء دوراليه الإستراتيجي في بلاده.

وأوضح جيلي أن الخلاف مع الإمارات تعود جذوره إلى رفض حكومته الانصياع لما وصفه بـ"الإملاءات" التي حاولت "موانئ دبي" فرضها خلال إدارتها للميناء، قائلا: "الإماراتيون يتبنون سلوكا عدائيا تجاهنا منذ أن رفضنا الرضوخ لشروطهم، ولن نخضع".

واتهم الإمارات بتوسيع تدخلها في شؤون بلاده الداخلية، مستخدمة في ذلك أدوات النفوذ المالي للسيطرة على البنى التحتية الحيوية، لا سيما الموانئ، التي تعد شريانا أساسيا للاقتصاد الجيبوتي ولحركة التجارة في منطقة القرن الإفريقي.

وأشار إلى أن حكومته أقدمت في عام 2012 على إلغاء امتياز إدارة الميناء الذي كانت تحتفظ به "موانئ دبي"، واصفا تلك الاتفاقيات القديمة بأنها كانت تمثل نوعا من "الاستعمار المغلف بغلاف تجاري".

وفي تلميح إلى أن طموحات الإمارات في السيطرة على الموانئ ليست محصورة ببلاده وحدها، قال جيلي: إن "جيبوتي ليست الدولة الوحيدة التي ترى في سياسات الإمارات تهديدا للاستقرار في المنطقة".

وكشف أن من بين أسباب اتخاذ قرار حل الصندوق السيادي لبلاده هو أن بعض الأطراف حاولت استخدامه كمدخل لتمكين "موانئ دبي" من الاستحواذ على أصول إستراتيجية إضافية داخل جيبوتي، وهو ما دفع السلطات للتحرك سريعا لغلق هذا الباب.

وحين سئل جيلي عن فرص التوصل إلى أي تسوية أو وساطة مع الجانب الإماراتي، أكد بوضوح أنه لا يرى أي مؤشرات أو نوايا حقيقية من جانب أبوظبي للسير في هذا الاتجاه، معتبرا أن السياسات الإماراتية حتى الآن لا تعكس رغبة في التهدئة أو إيجاد حلول وسط.

وامتد انتقاد جيلي للسياسة الإماراتية ليشمل أيضا تحركات أبوظبي في الملف اليمني، خاصة في مدينة عدن؛ حيث ترى جيبوتي أن الأنشطة الإماراتية هناك تشكل تهديدا مباشرا لمصالحها الإستراتيجية في باب المندب والقرن الإفريقي بشكل عام.

خلفية النزاع

ويمثل هذا التصعيد الإعلامي والسياسي بين جيبوتي والإمارات حلقة جديدة في مسلسل التوتر بين الجانبين، في ظل تصاعد التنافس على النفوذ في الموانئ والممرات البحرية الحيوية في منطقة شرق إفريقيا، والتي باتت مسرحا لصراع إقليمي ودولي معقد تتداخل فيه المصالح الاقتصادية والإستراتيجية والأمنية.

وتعود بدايات الخلاف بين جيبوتي والإمارات إلى 23 فبراير/ شباط 2018، عندما قررت حكومة جيبوتي إلغاء الامتياز الممنوح لشركة "موانئ دبي العالمية" الذي منحها حق إدارة وتشغيل محطة الحاويات في ميناء "دوراليه" الإستراتيجي، لمدة 50 عاما.

وبينما رأت جيبوتي أن القرار جاء دفاعا عن سيادتها الاقتصادية ورفضا لما وصفته بـ"شروط مجحفة وغير متوازنة" تضمنتها ملاحق عقد الامتياز الأصلي. 

لجأت شركة "موانئ دبي" إلى التحكيم الدولي؛ حيث أصدرت محكمة لندن للتحكيم الدولي لاحقا أحكاما لصالح الشركة الإماراتية، وترى أن الامتياز كان قانونيا وملزما، ومطالبة جيبوتي بإعادة الحقوق للشركة الإماراتية.

لكن جيبوتي تمسكت برفضها الامتثال لتلك الأحكام، مؤكدة أن العقود التي أُبرمت في ظروف غامضة أعطت "موانئ دبي" سيطرة مفرطة على بوابة تجارية حيوية تمس الأمن القومي الجيبوتي، وتكبل سياسات الدولة الاقتصادية لعقود مقبلة.

وفي 20 يوليو/ تموز 2018، شن وزير الخارجية الجيبوتي حينها، محمود علي يوسف، هجوما حادا ضد سياسات أبو ظبي في منطقة القرن الإفريقي، متهما إياها بأنها "الجناح المسلح والمصرفي" المنفذ لإستراتيجية الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب في المنطقة (خلال ولاية ترامب الأولى). 

وجاءت تصريحات يوسف في مذكرة رسمية بعث بها آنذاك إلى سفراء بلاده بالخارج، وحصلت نشرة "أخبار المحيط الهندي" على نسخة منها؛ حيث عكست الوثيقة تصاعد القلق في دوائر صنع القرار الجيبوتية من تحركات الإمارات وتحالفاتها الجديدة في الإقليم.

وأفاد الوزير في مذكرته بأن الإمارات كانت تستخدم قوتها المالية والعسكرية لإعادة تشكيل خارطة التحالفات في القرن الإفريقي بما يخدم مصالح واشنطن.

وكشف أن ولي عهد أبوظبي (آنذاك) محمد بن زايد (الرئيس الحالي) تعهد بضخّ مليارات الدولارات كودائع واستثمارات في إثيوبيا، مقابل تسريع خطوات التقارب بين أديس أبابا وأسمرا، وهو ما كانت جيبوتي تعده تهديدا مباشرا لموقعها الجغرافي كممر رئيس للتجارة الإثيوبية عبر البحر الأحمر.

عقد الامتياز

وكانت هذه التصريحات قد صدرت في ذروة الأزمة المتصاعدة بين جيبوتي والإمارات، بعد أن ألغت حكومة جيبوتي عقد الامتياز الممنوح لشركة "موانئ دبي العالمية".

وأشارت مذكرة الوزير أيضا إلى أن النفوذ الإماراتي امتد لزعزعة توازن القوى داخل منطقة القرن الإفريقي عبر دعم تقارب إثيوبيا وإريتريا على حساب التحالفات التقليدية مع جيبوتي. 

كما حذر يوسف في حينه من أن تحول جزء من التجارة الإثيوبية إلى ميناء "عصب" الإريتري بدلا من موانئ جيبوتي سيؤثر بشكل مباشر على المصالح الاقتصادية لبلاده، مؤكدا أن هذه الخطوات كانت تجرى بدفع إماراتي واضح.

وإلى جانب التحركات الاقتصادية، تناولت مذكرة وزير الخارجية العلاقات المتوترة مع إريتريا، مشيرا إلى استمرار الأخيرة في دعم جبهة "استعادة الوحدة والديمقراطية الجيبوتية" المعارضة (FRUD).

وهو ما عدته جيبوتي جزءا من محاولة الضغط السياسي عليها بالتوازي مع الضغوط الاقتصادية واللوجستية.

وفي ختام مذكرته، أوصى الوزير يوسف سفراء بلاده بنقل موقف جيبوتي الحاسم للقيادة الإثيوبية بشكل صريح، معبرا عن استياء بلاده من إعادة رسم خارطة التحالفات الإقليمية بطريقة تهمش دور جيبوتي الإستراتيجي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

وتكتسب المنطقة أهميتها الإستراتيجية من تحكمها في ممرات بحرية حيوية، وهي بذلك تتحول إلى ساحة مفتوحة للتنافس المحموم بين القوى الكبرى والإقليمية الساعية إلى تثبيت نفوذها، وعلى رأسها دولة الإمارات إضافة إلى قوى أخرى مثل تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية ومصر.

وترى جيبوتي أن التحركات الإماراتية تسهم في تغذية حالة التوترات المزمنة في الإقليم، عبر تعزيز استقطابات حادة بين دول المنطقة، خصوصا مع دعم أبوظبي مساعي أديس أبابا في البحث عن بدائل بحرية تقلل من اعتمادها التاريخي على موانئ جيبوتي، وهو ما تعده الأخيرة تهديدا وجوديا مباشرا، وهو السبب المباشر للقلق الأكبر لرئيس جيبوتي وهجومه على الإمارات.

وتعيش إثيوبيا، الدولة الأكبر سكانا وعسكريا في القرن الإفريقي، مأزق الدولة الحبيسة جغرافيا بلا منفذ بحري، وهو ما يجعلها في موقع الباحث المستمر عن تحالفات إستراتيجية لكسر طوق الجغرافيا المفروض عليها. 

وهنا لعبت الإمارات، وفق مراقبين، دور الوسيط المالي والسياسي المحوري في فتح قنوات جديدة لإثيوبيا مع كل من إريتريا عبر ميناء عصب، والصومال عبر موانئ بربرة، مقابل تعهدات استثمارية سخية، وهو ما أثار انزعاج جيبوتي بشكل بالغ.

تفاقم التوتر

وتفاقم التوتر الإقليمي عندما بدأت إثيوبيا في السنوات الأخيرة وضع خطط طموحة لتنويع طرق الإمداد والنقل البري والبحري، مستقطبة اهتماما متزايدا من دول الخليج، خاصة الإمارات التي لا تخفي سعيها لترسيخ حضورها عبر اتفاقيات إدارة وتشغيل الموانئ على سواحل القرن الإفريقي.

وفي ظل هذا التصعيد، شهد شهر مايو/أيار 2024 محطة جديدة من محاولات تهدئة العلاقات بين أديس أبابا وجيبوتي، من خلال اجتماع اللجنة الوزارية المشتركة بين الجانبين، كما نقلت مجلة أفريكا إنتيليجنس الفرنسية. 

إلا أن الاجتماع الذي ضم وزير النقل الإثيوبي أليمو سيمي ونظيره الجيبوتي حسن حامد إبراهيم، أخفق في تحقيق أي اختراق جوهري لإعادة ترميم العلاقات المتدهورة.

ويثير هذا المشهد الإقليمي قلقا عميقا داخل جيبوتي، التي تجد نفسها مهددة بخسارة دورها التقليدي كممر اقتصادي رئيس لإثيوبيا، في وقت يواصل فيه النفوذ الإماراتي إعادة رسم خرائط التحالفات والمصالح في الإقليم. 

بينما ترى بعض المؤسسات الدولية أن زيادة التكامل الاقتصادي في المنطقة قد يفتح آفاق استقرار محتمل، تشعر جيبوتي أن استمرار تغلغل الإمارات في صميم معادلة النفوذ، هو بالذات ما يهدد بانفجار مزيد من النزاعات المتراكمة في شرق إفريقيا.

وفي خضم هذا التصعيد المتزايد حول النفوذ في القرن الإفريقي، بدأت جيبوتي خلال عام 2024 اتخاذ خطوات حثيثة لتقليل اعتمادها التاريخي على الاقتصاد الإثيوبي، وذلك في إطار محاولة لصد التمدد الإماراتي الذي بات يشكل تهديدا مباشرا لدورها الجغرافي والاقتصادي.

وفي تقرير نشره موقع دويتشه فيله الألماني بتاريخ 29 فبراير/شباط 2024، أشار إلى أن طموح إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري يتقاطع مع مساعي جيبوتي لفك ارتباطها بالواردات الإثيوبية، التي طالما شكلت العمود الفقري لعائدات قطاع النقل والخدمات فيها.

ولتوسيع هامش استقلالها الاقتصادي، استثمرت جيبوتي أخيرا في تطوير بنيتها التحتية البحرية، عبر إدخال أربع رافعات جديدة متطورة تتيح لها استقبال سفن الحاويات العملاقة، وهو ما يمكنها من إعادة التمركز كمركز إقليمي لإعادة الشحن وتغذية الموانئ الأصغر في الإقليم، بعيدا عن الاعتماد الحصري على البضائع الإثيوبية العابرة.

لكن خلف هذه التحركات الاقتصادية، بدأت ترتسم خارطة تحالفات إقليمية جديدة معقدة ترتبط بشكل وثيق بالصراع مع الإمارات، حسب خبراء.

فبعد توقيع مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال بشأن إنشاء منفذ بحري جديد في بربرة بدعم مباشر من أبوظبي، تحولت هذه الصفقة إلى نقطة فاصلة في إعادة تشكيل الاصطفافات الجيوسياسية داخل المنطقة.

وبينما تعزز كتلة إثيوبيا وأرض الصومال تحت المظلة الإماراتية، تحركت جيبوتي سريعا لمحاولة كسر هذا المحور عبر بناء جبهة مقابلة شملت الصومال الفيدرالي (الخصم التاريخي لأرض الصومال) بالإضافة إلى السعودية التي بدأت تدخل بشكل أعمق في معادلة القرن الإفريقي مدفوعة بتنافسها الجيوسياسي مع الإمارات على النفوذ في المنطقة.

ويرى مراقبون أن القاهرة التي تتابع بدورها التطورات هناك عن كثب في ضوء تعقيدات نزاعها المزمن مع إثيوبيا حول مياه النيل، قد تجد في هذه الاصطفافات الوليدة فرصة لإعادة موازنة النفوذ الإقليمي الذي بات يشهد تسارعا محموما بين عدة أطراف.

وكما يرى خبراء، فإنه بالنسبة لصناع القرار في جيبوتي، لم تعد المعركة محصورة في عقد امتياز أو إدارة ميناء، بل باتت معركة وجود تتعلق بموقع الدولة الصغير في معادلة جغرافية سياسية معقدة يقف فيها النفوذ الإماراتي في صلب التهديدات، سواء عبر دعم بدائل بحرية لإثيوبيا أو عبر محاولة تطويق جيبوتي بتحالفات اقتصادية وأمنية جديدة تهمش دورها المركزي في البحر الأحمر.