لقاء الـ6 دقائق يثير أزمة في تونس.. ماذا حدث بين سعيد والمشيشي؟
تعيين رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي مستشارين له، اشتغلوا سابقا مع نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولا زال بعضهم ملاحقا في قضايا فساد أمام المحاكم، أثار جدلا واسعا في تونس على المستويين السياسي والشعبي.
توالت الانتقادات لهذا الإجراء، كان أبرزها وأهمها موقف الرئيس قيس سعيد الذي استدعى المشيشي لقصر قرطاج لإبلاغه عن رفضه لهذه الإجراءات.
ونشرت رئاسة الجمهورية على صفحتها الرسمية مقطعا مصورا، ظهر فيه سعيد وهو يوجه خطابا شديد اللهجة للمشيشي فيما يتعلق بالتعيينات الأخيرة.
ورغم أن سعيد استمال بخطابه شريحة واسعة من الشعب لخطابه الثوري، فإن البعض رأى أن المقطع المصور من شأنه أن يعمق الأزمة مع رئيس الحكومة الذي ظهر في "ثوب التلميذ الفاشل والمسؤول المتحالف مع الفساد".
6 دقائق
بلهجة أقرب للتوبيخ، في أكثر من 6 دقائق، قال سعيد خلال لقائه بالمشيشي: إنه لا مجال لتعيين هؤلاء الأشخاص "الذين أجرموا في حق الشعب التونسي وما تزال قضاياهم أمام أنظار المحاكم"، ولفت إلى أن الشعب ثار على تلك المنظومة القديمة وضحى بدمائه من أجل إزاحتها.
وأكمل الرئيس توبيخه لرئيس الحكومة بقوله: "ليسوا خبراء إلا في السرقة والسطو. المحاكم تصدر أحكامها باسم الشعب وإذا كان صاحب السیادة أدان منظومة كاملة بمؤسساتها وأشخاصها وثار عليها وسقط الشهداء والجرحی من أجل إزاحته، فلا مجال لأن يعودوا الیوم بعد أن كانوا قد تواروا عن الأنظار وما زالت قضایاهم منشورة أمام القضاء".
وفيما بدا المشيشي صامتا مصغيا، أكد سعيد علم رئيس الحكومة بفساد الشخصيات التي تم تعيينها في فريقه، عندما قال للمشيشي ''أنت كنت في لجنة المرحوم عبد الفتاح عمر، اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، جانب من الذين تم تعيينهم في المدة الأخيرة مطلوبون للعدالة، وأجرموا في حق الشعب وليس لهم مكان اليوم في الدولة، ولا يمكن أن يتحملوا مسؤولية".
وتابع: ''نملك وثائق بالأسماء والمحاضر وقطع الأرض التي استولوا عليها، ومع ذلك يتم تعيينهم!''. رئيس الحكومة مطالب بالنظر في تواريخ هؤلاء، بعض التعيينات أثارت استياء عميقا لدى التونسيين''.
وأردف: ''عليهم أن يحاسبوا أمام القضاء.. لم تصدر أحكام نتيجة المؤامرات التي قاموا بها في السنوات الفارطة.. كان يجب أن تصدر الأحكام من سنوات، هم يحاولون اليوم العودة الى الدولة. هؤلاء لن يفلتوا من العقاب، الشعب الذي أخرجهم من الحكم لن يسمح لهم بالعودة إليه''.
رئيس الجمهورية أشار إلى أن هناك ''من صدرت ضدهم أحكام باتة وتمت ترقيتهم''، ووجه كلامه للمشيشي: ''تعلم عن هؤلاء الكثير في الفترة التي قضيتها في لجنة تقصي الحقائق، أعتقد أن لك من الوعي ومن الحكمة لإبعادهم عن أجهزة الدولة".
أسلوب الرئيس
سليم التيساوي مستشار رئيس الحكومة والمكلف بوزارة الشؤون الاجتماعية اعتبر أن رئيس الجمهورية لم يحرج رئيس الحكومة معتبرا أن ذلك "هو أسلوب الرئيس".
وتابع التيساوي في حوار على قناة "التاسعة" مساء يوم 23 أيلول /سبتمبر 2020 أن رأي رئيس الجمهورية في هذا الخصوص والمتعلق بالتعيينات أو تسريبات التعيينات الأخيرة في رئاسة الحكومة "رأي يحترم ورئيس الحكومة سيأخذ ذلك بعين الاعتبار".
وثمنت أحزاب سياسية على لسان قياداتها موقف رئيس الجمهورية الرافض لهذه التعيينات، معتبرة أن ما فعله سعيد هو عين الصواب وفي صميم صلاحياته الدستورية، وهو ما أعلنه "ائتلاف الكرامة"، الذي صوت جزء منه لصالح حكومة المشيشي، بالإضافة إلى "حركة الشعب"، و"التيار الديمقراطي".
إلا أن وسائل إعلام محلية أكدت أن "رئاسة الحكومة قد عبرت لرئاسة الجمهورية عن استيائها لأسلوب إخراج اللقاء الذي جمع سعيد والمشيشي".
إذاعة موزاييك قالت استنادا إلى مصادر خاصة: إن "مصالح الإعلام والاتصال برئاسة الجمهورية تم إبلاغها من طرف الحكومة استنكارها لطريقة إخراج لقاء رئيس الجمهورية برئيس الحكومة وما فيها من إساءة لصورة الدولة وتنافيها مع نواميس التعامل بين مؤسسات الحكم".
وأضافت الإذاعة: "رئيس الحكومة يرفض مستقبلا تصوير أي مقابلة يتم توظيفها بطريقة مسيئة للدولة ومؤسسات الحكم، حرصا منه على الحفاظ على علاقات وضوابط عمل طيبة بين مؤسستي الدولة وعلى الاستجابة لكل دعوات رئيس الجمهورية للخوض في الوضع العام ومعالجة المشاكل المتعلقة بالشعب التونسي".
إهانة المشيشي
متابعون اتفقوا مع ما ذهبت له رئاسة الحكومة من اعتبار ما حدث "إهانة للمشيشي"، واعتبرها آخرون أيضا تجاوزا لصلاحيات الرئيس التي منحها إياه الدستور.
الصحفي التونسي زياد الهاني دون على فيسبوك قائلا: "ألم يكن من الأفضل لمصلحة الدولة، أن يوجه رئيس الجمهورية ملاحظاته لرئيس الحكومة بعيدا عن الإثارة ودون حاجة إلى نشر محتواها للرأي العام".
مضيفا: "طالما أنه نشر موقفه رغم ما في ذلك من حط من المكانة الاعتبارية لرئيس الحكومة وتدخل في سلطته الدستورية، ألم يكن من العدل أن يعرف الرأي العام أيضا رد رئيس الحكومة على ملاحظات رئيس الجمهورية الموجهة له؟".
كما علق رئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان) وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي على خطاب رئيس الجمهورية بخصوص تعيينات المشيشي، واعتبر الغنوشي في تصريح إعلامي أن هذه التعيينات "نافذة ما دامت لا تخالف القانون و الدستور".
ودعا الغنوشي في نفس السياق إلى سياسة التوافق والتعاون بين مختلف السلطات، باعتبار أن هذه السلطات تمثل دولة واحدة وما يفرضه ذلك من انسجام، وفق تصريحه.
"الحزب الدستوري الحر" أيضا أعلن رفضه لما فعله رئيس الجمهورية مع المشيشي، وهو ما أعلنته عبير موسي رئيسة الكتلة البرلمانية للحزب في مقطع مصور نشرته على فيسبوك.
موسي اعتبرت أن تدخل سعيد في هذه المسألة خرق للدستور وأنه ليس من صلاحياته التدخل في التعيينات التي يقوم بها رئيس الحكومة، معتبرة أن تلك التصريحات فيها مس من صورة الدولة وأن رئيس الجمهورية قد أضعف من مكانة رئيس الحكومة ضمن السلطة التنفيذية، وفق تقديرها.
الأحزاب السياسية الداعمة لحكومة المشيشي انتقدت بدورها خطاب سعيد، وعبر القيادي بحزب "قلب تونس"، عياض اللومي عن استغرابه الشديد من موقف الرئيس بخصوص التعيينات قائلا: "ما حدث هو موقف سياسي للرئيس بالمعنى السياسوي الشعبوي"، واصفا إياه بـ"الخاسر السيئ".
وأضاف اللومي في حوار إذاعي: "الرئيس لم يتقبل تحول حكومة المشيشي إلى حكومة سياسية، ليست حكومته لأن البرلمان إفتكها (سحبها) منه تقريبا وهو في كل مرة يريد أن يظهر لنا أنه الفاعل الأصلي وهذا غير جيد لمصلحة البلاد".
هذه المواقف والمواقف المقابلة تؤكد ما كان يتردد سابقا عن حالة التنافر ما بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي يعتبره رئيس الدولة قد ارتمى في أحضان الأحزاب التي لا يتوافق معها سعيد.
منظومة الفساد
توفيق بكار والمنجي صفرة، يعدان من أبرز الشخصيات الرئيسية المتورطة في منظومة الفساد والاستبداد قبل الثورة وفق تقرير هيئة الحقيقة والكرامة، إذ شغل الأول منصب محافظ البنك المركزي من 2004 إلى غاية إقالته يوم 17 يناير/كانون الثاني 2011 بعيد اندلاع الثورة.
أما الثاني فشغل منصب رئيس الدائرة الاقتصادية في رئاسة الجمهورية زمن المخلوع زين العابدين بن علي، وتلاحقهما منذ الثورة قضايا فساد، ومن بينها القضايا المحالة من هيئة الحقيقة والكرامة إلى الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية.
تقرير هيئة الحقيقة والكرامة أوضح أن المحافظ السابق للبنك المركزي توفيق بكار يعد من رموز منظومة الفساد، إذ يعد منسوبا إليه الانتهاك في 4 ملفات ومن بينها الفساد في المجال البنكي بما يشمل تقديم قروض دون ضمانات أو بضمانات وهمية، وعدم استرجاع القروض، وتمويل مشاريع وهمية وتبييض أموال عدا عن ثبوت العديد من الانتهاكات في حق شركات ورجال أعمال مثل تجميد أموال دون حق وإنشاء ديون وهمية والتعسف في استعمال السلطة.
يُذكر أن توفيق بكار هو المستشار الاقتصادي للحزب الدستوري الحر الذي ترأسه عبير موسي، وقد كان رئيس لجنة المستشارين للحزب لإعداد برنامجه الاقتصادي، وهو من قدمه للرأي العام في مؤتمر صحفي في سبتمبر/أيلول 2019 قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة.
كما ورد اسم المستشار الاقتصادي السابق للمخلوع بن علي، المنجي صفرة، في 10 مناسبات في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة وتحديدا في الجزء المتعلق بمنظومة الفساد، وورد الاسم إما ضمن قائمة المحالين للقضاء في ملفات أو في سياق عرض كيفية اشتغال منظومة الفساد قبل الثورة.
ويبين التقرير أنه في إطار توظيف آلية إنقاذ المؤسسات للقيام بعمليات فساد، كان المنجي صفرة يقدم غالبا مذكرات للرئيس المخلوع متضمنة اقتراحاته، ثم يتم استصدار قرار قضائي على المقاس لشطب الديون الراجعة للبنوك.
وفي علاقته بشطب القروض، يضيف التقرير أن صفرة كان يتدخل بشكل مباشر بتمريره تعليمات بن علي قصد تمكين الأشخاص الذين تربطهم علاقات عائلية وقرابة أو صداقة أو مصاهرة بالمخلوع من امتيازات غير معهودة سواء مباشرة لدى مسؤولي البنك أو عن طريق البنك المركزي.