بعد احتجاجات أزمة التلوث المتصاعدة في قابس.. لماذا استنجدت تونس بالصين؟

منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تتجه أنظار الحكومة التونسية شرقا نحو الصين بحثا عن حلول للأزمة البيئية في مدينة قابس جنوبي تونس، التي نشأت بسبب الانبعاثات الغازية الصادرة عن وحدات المجمع الكيميائي (CGT).

ولم يعد هذا التوجه مجرد خطوة تقنية لمعالجة ملف بيئي معقد، بل أصبح أيضا إشارة سياسية واقتصادية إلى تحول في ميزان الشراكات الدولية لتونس التي باتت تنظر إلى بكين كحليف تنموي بديل عن المظلة الغربية التقليدية، وفق ما ترى مجلة جون أفريك الفرنسية.

فعبر استثمارات تمتد من القيروان إلى بنزرت، ومن مشاريع طاقة متجددة إلى البنية التحتية الصحية، ترسخ الصين حضورها كقوة صاعدة في شمال إفريقيا، مستفيدة من انفتاح تونس على نموذج التعاون القائم على "التمويل مقابل التنمية". 

طلب تونسي 

وقالت المجلة: إن "الحكومة التونسية توجهت تلقائيا نحو الصين بحثا عن حل بعد أن واجهت ضغوطا متزايدة من الحركة الاحتجاجية لسكان قابس".

ويطالب السكان بحل نهائي لمشكلة الانبعاثات الغازية الملوِّثة الصادرة عن وحدات المجمع الكيميائي التونسي المختصة في معالجة وتحويل الفوسفات.

ومنذ 3 أسابيع، تشهد مدينة قابس التي يقطنها 400 ألف نسمة تحركات احتجاجية تطالب بإغلاق المجمع الكيميائي المتهالك الذي يتهمه السكان بالتسبب في أكثر من 200 حالة اختناق وتسمم لا سيما في صفوف الأطفال.

ولطالما عُرفت قابس بأنها جوهرة بيئية نادرة، حيث تعانق الواحات الخضراء البحر المتوسط في مشهد فريد.

لكن ما يطلق عليها “جنة الدنيا” تحولت إلى أرض سامة بسبب الملوثات الصادرة عن المجمع الكيميائي. وفق ما يقول السكان.

وهذا المجمع يحول الفوسفات، أهم ثروات تونس الطبيعية إلى أسمدة ومنتجات كيمياوية.

وقد أُنشئ عام 1972 بصفته ركيزة للنمو الاقتصادي ومحركا رئيسا لصادرات البلاد، لكنه أصبح اليوم كابوسا حقيقيا للسكان.

وكشف تقرير تدقيق بيئي واجتماعي رسمي في يوليو/تموز 2025، عن "مخالفات خطيرة" للمعايير المحلية والدولية". 

وأظهر التقرير أن المصنع الكيميائي يفرغ ما بين 14 و15 ألف طن من مادة الفوسفوجيبس، الناتجة عن معالجة الفوسفات، يوميا في البحر إلى جانب انبعاثات مرتفعة من الأمونيا وأكاسيد النيتروجين والكبريتات.

وفي وقت سابق من أكتوبر/تشرين الأول 2025، ومع تكرر حالات اختناق بين عشرات التلاميذ في المدارس القريبة من المجمع، انفجر غضب السكان واقتحموا المكان مطالبين بتفكيكه، فيما أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.

وسعيا لإخماد موجة الاحتجاجات المتصاعدة، قال رئيس النظام التونسي قيس سعيّد في نفس الشهر، إنه قد جرى "اغتيال البيئة في قابس"، لكنه ألقى باللوم على حكومات سابقة، داعيا الوزارات إلى معالجة التسربات الكيميائية بأسرع وقت ممكن.

وعن اللجوء إلى الصين، أوضحت المجلة أن هذه "ليست المرة الأولى التي يُطلب فيها من بكين التدخل بشكل عاجل في مشاريع بنية تحتية في تونس، ما يشير إلى علامة ثقة وصداقة بين البلدين، اللذين لا تزال علاقاتهما تتوطد عاما بعد عام".

وأضافت أن "التعاون بين الجانبين يبدو اليوم طبيعيا، غير أن الأمر لم يكن كذلك دائما؛ فتونس لم تعترف بجمهورية الصين الشعبية إلا في عام 1964، في وقت كانت فيه البلاد تعزز علاقاتها بالدرجة الأولى مع أوروبا والولايات المتحدة".

لكن منذ قرابة عقدين من الزمن، بدأت تونس تكتشف اهتماما متزايدا بالصين، انعكس في مجالات عديدة، أبرزها قطاع البنية التحتية.

مشاريع صينية

وفي هذا السياق، ذكّرت "جون أفريك" أن “من أوائل التدخلات الصينية في تونس كان المستشفى الجامعي بصفاقس، وقناة مجردة (المائية)، ومبنى الأرشيف الوطني”.

وهذا إلى جانب تجديد دار الشباب بالمنزه السادس (شمال العاصمة)، وبناء مركز ثقافي في بن عروس (شمال شرق)، وخمسة مستشفيات في شمال غرب البلاد، فضلا عن الأكاديمية الدبلوماسية.

ولفتت إلى أن "الإمبراطورية الوسطى" -في إشارة إلى الصين- باتت اليوم شريكا من الدرجة الأولى لتونس، التي تسعى حاليا إلى التحرر من النموذج الليبرالي الغربي وإقامة علاقات متينة مع بكين.

وأضافت أن "هذا المسار بدأ مع انضمام تونس عام 2018 إلى مبادرة طريق الحرير الجديد، وتُوّج لاحقا بإنشاء معهد كونفوشيوس في تونس، بما يمثله من رمز لتبادل ثقافي وتربوي متزايد بين الشعبين".

وأشارت المجلة أيضا إلى قطاع السياحة، موضحة أن "تونس حاولت أن تتموضع كوجهة جديدة للسياح الصينيين الشغوفين بالسفر، إلا أن جائحة كورونا عطلت تطور هذا المجال". 

فبعد أن استقبلت البلاد 25 ألف سائح صيني عام 2019، لم تتجاوز أعداد الزوار الصينيين 21 ألفا خلال 2025، مما يدل على صعوبة استعادة نشاط ما قبل الجائحة.

وتابعت أن "الزيارة الرسمية التي أجراها الرئيس قيس سعيد إلى بكين في مايو/أيار 2024، قد أسهمت في تعزيز التقارب بين البلدين وإطلاق عدد من المشاريع المشتركة". وأضافت أن "تونس تراهن أكثر فأكثر على التعاون الصيني معتمدة على التجربة الجزائرية". 

ولم يسبق أن أوكلت تونس هذا العدد الكبير من المشاريع الحيوية لشريك واحد، حتى بات بالإمكان وصف العلاقة بين البلدين بأنها شراكة إستراتيجية.

وأفادت المجلة بأن "بكين عينت المسؤول الرفيع، لي شولي، للإشراف على تقدّم مشاريع البنية التحتية في تونس، ومن بينها محطة الطاقة الكهروضوئية في القيروان (وسط البلاد)، وكذلك المرحلة الثانية من جسر بنزرت الجديد، الذي تتولاه شركة Sichuan Road and Bradge Group".

وأضافت أن الصين حققت اختراقا مهما في تونس من خلال إنجاز سد وادي ملاق على يد شركة "Power Construction Corporation of China"، وهي الآن تسعى إلى زيادة استثماراتها في البلاد.

وأوضحت أن "شركة هواوي حاولت في مايو 2025 الاستحواذ على شبكة الجيل الخامس التونسية (5G) التي تديرها إريكسون، بينما استحوذت شركة Sinoma Cement على إسمنت جبل الوسط (شمال شرق البلاد)".

كما لفتت إلى أن "شركة Asia Potash، التي كانت مرشحة لاستغلال منجم فوسفات السراورتان (شمال غرب البلاد)، فضلت في النهاية الاستثمار في الجزائر، بينما تدير شركة Shandong Haiwang وحدة لإنتاج البروم في شط الجريد (جنوب البلاد)".

ووفق المجلة الفرنسية، تدار هذه المشاريع الجديدة برؤية طويلة الأمد؛ لأنها تتطلب تمويلات خاصة وشروطا تقنية واقتصادية معقدة.

وأشارت إلى أن الرئاسة التونسية تتابع عددًا منها عن قرب، مثل: إنشاء مركز لعلاج الأورام في قابس، وتطوير موانئ جرجيس (جنوب شرق) وبنزرت (شمال)، وإقامة مدينة طبية في القيروان (شمال وسط)، وإعادة تأهيل الملعب الأولمبي بالمنزه.

وذكرت المجلة أن "الصين فازت أخيرا بمناقصة لتوريد 300 حافلة مخصصة للنقل العمومي في العاصمة وضواحيها". وفي الوقت ذاته، بدأت بعض الشركات الصينية العملاقة في قطاع السيارات بالاستقرار داخل تونس.

وأضافت أن "شركة صينية متخصصة في التكنولوجيا الحيوية استثمرت أخيرا في مشروع لإنتاج الأدوية البيولوجية، ووصفت ذلك بأنه بداية واعدة".

ونقلت عن أحد رجال الأعمال التونسيين قوله: إن "الاحتياجات في مجال البنية التحتية حيوية للغاية بالنسبة لتونس"، مبينا أن "هذه المشاريع تمثل فرصة نهوض اقتصادي ملموسة".

وقالت "جون أفريك" إنه "لم يكن مفاجئا أن تلجأ السلطات التونسية إلى الصين -عبر سفيرها وان لي- لمحاولة إيجاد حل لأزمة قابس البيئية".

وأضافت المجلة أن "الصين كانت قد استلهمت الكثير من الخبرة التونسية عندما أطلقت صناعتها الخاصة باستغلال الفوسفات، وفق ما أكده مهندس يعمل في شركة فسفاط قفصة". ولهذا، ترى أن "الشراكة الحالية تحمل في طياتها شيئا من رد الجميل من بكين إلى تونس".