مالكوم إكس.. داعية إسلامي تحقق أمريكا في مقتله بعد 55 عاما
مالكوم ليتل أو مالكوم إكس أو الاسم الذي اختاره لنفسه قبل وفاته بعام ونصف "مالك شباز"، تجسد حياته صورا من العنصرية التي مورست ضد السود خلال القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت حياته مليئة بالتفاصيل المثيرة والتي لم تخل من المعاناة يوما، فمنذ ولادته كانت العنصرية تمارس ضد السود وكانوا ينعتون بالزنوج ويعاملون معاملة الحيوانات في تلك الفترة.
شب مالكوم إكس على التمرد وترك الدراسة بعد إتمامه الثانوية بتفوق لكن بعد أن شعر أساتذته بالخوف منه، حطموه نفسيا ومعنويا ليعيش حياة الانحراف والتسكع ويدخل السجن أكثر من مرة.
في آخر مرة دخل فيها السجن تحولت حياته ليخرج منها داعية شهيرا، لكن الدعوة التي كان يمثلها في ذلك الوقت كانت منحرفة كليا عن الإسلام. وبعد زيارته للسعودية وأداء فريضة الحج تعرف على الدين الصحيح ليعود ويؤسس منظمة للتعريف بالإسلام والدعوة له.
وكما كانت حياته مثيرة كانت وفاته كذلك، حيث قرر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إعادة التحقيق في مقتله بعد 55 عاما من اغتيال الداعية الإسلامي مالكوم إكس.
"نشأة صعبة"
لم تخل حياة مالكوم إكس يوما من الصعوبات، ففي الوقت الذي ولد فيه في ولاية نبراسكا الأمريكية وبالتحديد في 19 مايو / آيار 1925 كانت العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة مازالت على أشدها وبعد مرور ستة أعوام على ولادته تعرض والده للقتل على يد جماعة عنصرية من البيض وهشمت رأسه ووضعت في طريق حافلة دهسته حتى فارق الحياة.
تم الادعاء لاحقا أنه مات منتحرا الأمر الذي شكل صدمة كبيرة لأسرته وخاصة الأم التي أصبحت أرملة وهي ماتزال في الرابعة والثلاثين من عمرها وعليها إعالة ثمانية أولاد، كما فقد مالكوم أيضا أربعة من أعمامه على يد أولئك العنصريين.
ومع فقدان الوالد انقلبت أوضاع الأسرة التي لم تستطع أن تؤمن مصدر دخل لها في ظل تنامي العنصرية ضد السود، حيث كانت ترفض جميع طلبات الدعم التي كانت تقدمها والدة إكس واضطرت للعمل كخادمة بالمنازل لتطرد سريعا لأسباب عنصرية وينتهي الأمر بها في مستشفى الأمراض النفسية في عام 1939 وتوزيع الأولاد على منازل مختلفة.
دخوله السجن
مع تنامي عنصرية الشعب الأمريكي تجاه ذوي البشرة السمراء ومع الظروف القاسية التي عاشها مالكوم إكس والتصاق كلمة الزنجي أو الأسود باسمه حتى ظن أن هذه الصفة جزء من اسمه، ساءت أخلاقه وعاش حياة التسكع والتطفل والسرقة فتم طرده من المدرسة وهو في السادسة عشرة من عمره ودخل سجن الأحداث واستكمل دراسته الثانوية داخل السجن.
وكان الشاب اليافع متفوقا عن جميع أقرانه في مرحلة الثانوية وكان يحلم بأن يصبح في ذلك الوقت محاميا، لكن أساتذته كان لهم دور كبير في تحطيم أحلامه بسبب لون بشرته وجعلوا الشاب الذي تخرج من الثانوية بتفوق كبير أن يترك الدراسة نهائيا والتنقل بين الأعمال المختلفة.
انتقل مالكوم من ولاية ميتشيغان إلى بوسطن للعيش مع أخته غير الشقيقة وهناك تورط في أنشطة إجرامية واشتهر في سنوات المراهقة باسم "ديترويت ريد" وتطور الأمر ليصبح مالكوم محتال الشوارع وتاجر المخدرات وزعيم عصابة من اللصوص في نيويورك.
تم القبض عليه مرة أخرى وحكم عليه بالسجن 10 سنوات بعد إدانته بالسرقة وظل في السجن في الفترة من 1946 إلى 1952، حيث تم تخفيف العقوبة.
دخل مالكوم سجن تشارلز تاون العتيق وحبس حبسا انفراديا أكثر من مرة وتعلم من الحبس الانفرادي أن يكون ذا إرادة قوية يستطيع من خلالها التخلي عن كثير من عاداته.
التحول الأول
مثلت مرحلة السجن الأخيرة نقطة تحول فارقة في حياة مالكوم بعد أن انتقل في عام 1948 إلى سجن كونكورد وهناك كتب له شقيقه فيلبيرت أنه اعتنق الإسلام وأنه هو الدين الطبيعي للرجل الأسود ولاحقا علم أن جميع إخوته في ديترويت وشيكاغو أيضا اعتنقوه على يد إليجا محمد وأنهم يتمنون أن يدخل هو أيضا في الإسلام.
كان لإخوة مالكوم دور كبير في إسلامه من خلال إصرارهم على إرسال خطابات له داخل السجن تحثه على التعرف على الدين الإسلامي. وفي إحدى الرسائل كتب له إخوته إن "في الإسلام ليس للرجل الأبيض أن يستعبد الأسود فكلهم خلقوا سواسية" فتأثر بالرسالة وأعلن إسلامه.
انتقل مالكوم بعد ذلك إلى سجن ينورفولك الذي يقع في الريف ويحاضر فيه بعض أساتذة الجامعة من هارفارد وبوسطن ويضم مكتبة ضخمة تحتوي على أكثر من 10 آلاف مجلد قديم ونادر.
وقضى باقي مدته داخل السجن بين القراءة المتعمقة في شتى المجالات حتى أنه كان يقرأ في اليوم نحو 15 ساعة وعندما تطفأ أنوار السجن في العاشرة مساء كان يقرأ على ضوء المصباح الموجود في الممر حتى الصباح.
تأثر مالكوم داخل سجن ينورفولك بسجين يدعى بيمبي كان حديثه دائما عن الدين الإسلامي والعدل. ويقول للسجناء: "إن من هم خارج السجن ليسوا بأفضل منكم وأن الفارق بينكم وبينهم أنهم لم يقعوا في يد العدالة بعد".
وحفظ المعجم وتحسنت ثقافته، وتعلم مالكوم اللغة اللاتينية بعد أن نصحه بيمبي بالتعلم، حتى أنه بدأ يحاكي صديقه المثقف، وبدا السجن له كمرحلة اعتكاف علمي.
ودخل في السجن في مناظرات أكسبته خبرة في مخاطبة الجماهير والقدرة على الجدل، وبدأ يدعو غيره من السجناء السود إلى حركة أمة الإسلام فاشتهر أمره بين السجناء، فأكسبته هذه المناظرات العديدة قوة الحجة وفصاحة اللسان.
واستطاع أخيرا جذب الكثيرين للانضمام إلى هذه الحركة داخل السجن، فصدر بحقه عفو بعد أن قضى 7 سنوات داخل السجن وأطلق سراحه قبل انقضاء محكوميته بـ 3 سنوات.
إسلام مالكوم
اعتنق مالكوم الإسلام وهو داخل السجن على أفكار حركة "أمة الإسلام" وظل على تواصل دائم من خلال المراسلات مع رئيس الحركة إليجا محمد إلى أن خرج من السجن في عام 1952.
لم يكن ما اعتنقه مالكوم سوى أجزاء مبعثرة من الدين الإسلامي، كما أن أفكار الحركة قامت على انحرافات وشذوذ وعنصرية واضحة فقد كانت تتعصب للعرق الأسود وتجعل الإسلام حكرا عليه فقط دون بقية الأجناس، وكانت أفكار الحركة تعتبر أن البيض ليسوا إلا شياطين تحكم الأرض وأن الله هو إله للسود وحسب.
ورغم ذلك، كان المنتسبون لهذه الحركة يتحلون بأخلاق الإسلام وقيمه، وكانوا يأخذون من الدين مظهره ويتركون جوهره، ورغم تلك الانحرافات البعيدة عن الدين الإسلامي إلا أن مالكوم اعتبر أن هذه الدعوة جاءت لإنقاذ السود وهو أحدهم بعد أن عانى في حياته من فقد والده وأربعة من أعمامه وضياع إخوته وبني جنسه بسبب العنصرية.
وظهرت حركة "أمة الإسلام في أوائل القرن العشرين بين السود في الولايات المتحدة على يد رجل أسود غامض الأصل يدعى "والاس فارد" ظهر فجأة في ولاية ديترويت داعيا إلى مذهبه بين السود واختفى بعدها بأربع سنوات فجأة بصورة غامضة أيضا واستكمل مسيرته إليجا محمد الذي صار فيما بعد رئيسا للحركة.
وكانت عقيدة إليجا محمد فاسدة وكان يدعي النبوة وأنه رسول من الله وأن الإله ليس شيئا غيبيا بل يجب أن يكون متجسدا في شخص وهذا الشخص هو "فارد" وهو جدير بالدعاء والعبادة ولذلك كانت الصلاة عندهم قراءة الفاتحة مع دعاء مأثور والتوجه نحو مكة واستحضار صورة "فارد" في الأذهان.
وكان إليجا محمد لا يعتقد إلا بما يخضع للحس ولا يؤمن بالملائكة والغيبيات، وكان يؤمن بأن البعث للسود الأمريكيين فقط، والصوم عندهم في شهر ديسمبر من كل عام.
علاقته بالإسلام
خرج مالكوم من السجن في عام 1952 وبعدها بدأ في مراسلة أصدقائه الذين كانوا معه في السجن ودعاهم إلى الإسلام، وذهب مالكوم بعد ذلك إلى أخيه في ديترويت وعمل معه في محل لبيع الأثاث وبعد عدة أشهر حضر أحد الأنشطة الخاصة بحركة أمة الإسلام وانضم بعدها رسميا إلى الحركة.
مع انضمامه للحركة، غير مالكوم اسمه الأصلي من مالكوم ليتل إلى مالكوم إكس، وكان ذلك إجراء اعتاد عليه كل من ينضم إلى الحركة.
وإكس هنا يرمز إلى الاسم الأخير الذي سلب منهم جراء استعبادهم على يد البيض بعد جلبهم من بلدانهم الأصلية، وقال مالكوم عن اسمه الجديد: "إن إكس ترمز لما كنت عليه وما قد أصبحت، كما يعني ـ في الرياضيات ـ المجهول وغير معلوم الأصل".
لم يكتف مالكوم بالذهاب إلى المسجد فخرج يدعو الشباب السود في كل مكان وذهب إلى البارات فتأثر كثيرون لخطابه المفوه، وسرعان ما ذاع صيته فأصبح في فترة وجيزة إماما في مسجد ولاية ديترويت بعد أن كان مساعدا للإمام، وتفرغ من ذلك الحين للدعوة وسخر وقته كاملا لها.
وسريعا ظهرت على مالكوم قدراته القيادية والتنظيمية فتدرج داخل حركة "أمة الإسلام" إلى أن أصبح الداعية الأول خلف رئيسها، كما تقلد العديد من المناصب حتى أصبح المتحدث الرسمي للحركة، واستطاع جذب الكثيرين للانضمام إلى الحركة ليزداد عدد أتباعها من 500 شخص في عام 1952 إلى 30 ألف شخص في عام 1963.
وفي عام 1959 سافر إلى عدد من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط بينها مصر والسعودية وإيران وسوريا بالإضافة إلى دولة غانا. ومع نهاية هذا العام بدأ مالكوم بالظهور في وسائل الإعلام الأمريكية كمتحدث باسم حركة "أمة الإسلام" وأصبح نجما إعلاميا وكتبت عنه الصحافة وشارك في العديد من المناظرات التلفزيونية والإذاعية والصحفية.
مع سطوع نجمه وفي بداية عام 1961 بدأت السلطات الأمنية في مراقبته وقامت المباحث الفيدرالية بالتنصت على مكالماته التليفونية بالإضافة إلى زرع جواسيس لها في داخل الحركة.
كان اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي في عام 1963 نقطة تحول في مسار علاقته مع الحركة بعد أن خالف أوامر إليجا محمد بعدم التعليق على الحادث.
وقال مالكوم معلقا على مقتله: "إن سلاح كينيدي قد ارتد إلى نحره وحصد ما زرعه وبأسرع مما توقع هو نفسه"، فعمد إليجا محمد إلى تجميد عضوية مالكوم في الحركة وكانت الخلافات قد نشبت بينهما بسبب ما أثير في تلك الفترة عن ممارسة رئيس الحركة علاقات جنسية غير مشروعة خلفت أطفالا، وازداد الخلاف بينهما بعد اتهام مالكوم إليجا بالزنى.
التحول الثاني
ورأى هناك أن المسلمين بيض وسود وبينهم المحبة والمساواة ولا يوجد بينهم أي تمييز. حينها أدرك ضلال المنهج العنصري الذي كان يعتنقه فعاد من مكة المكرمة بفكر وأسلوب مختلف في الدعوة ويعيد صياغة اسمه من جديد ويغيره إلى الحاج مالك شباز.
وقال مالكوم بعد عودته: "في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها".
عاد مالكوم من السعودية برسالة جديدة يدعو فيها جميع الأعراق والأجناس إلى التعايش بسلام، وتابع نضاله ضد التمييز العنصري في أمريكا ناشرا فهمه الصحيح للإسلام.
فالإسلام كما يذكر مالكوم: "الدين الوحيد الذي كان له القوة في جعله يقف في وجه عنصرية الرجل الأبيض ويحاربها"، وأعلن براءته من مبادئ حركة أمة الإسلام العنصرية وحاول إقناع زعيمها إليجا محمد بزيارة الكعبة وثنيه عن أخطائه إلا أن الأخير غضب بشدة واعتبر مالكوم منشقا عن الحركة وطرده منها.
بعدها، شكل مالكوم جماعة جديدة تحت اسم "جماعة أهل السنة" وعاد من خلالها إلى ممارسة دعوته، لكن هذه المرة جاء ليدعو إلى الإسلام الصحيح وبدأ يدعو السود والبيض على حد سواء وكثر أتباعه خاصة من السود.
العجيب أنه خلال هذه الفترة شنت الصحف الأمريكية هجوما شديدا على مالكوم إكس ووصفته بأنه يريد تدمير الولايات المتحدة ويعمل على إحداث ثورة بين السود، في حين أنها صنعت منه نجما ومجدته بعد أن فتحت له التلفاز والإذاعات والصحف.
اغتياله
الخطاب الإسلامي الجديد الذي قدمه مالكوم كان مصدر إزعاج لرئيس حركة "أمة الإسلام" العنصرية، فشن عليه حملة إعلامية شرسة في محاولة لصد الناس عن مالكوم لكن هذه الحملة زادت من إصراره على مواصلة دعوته فعاد إليجا ليهدده وأمر بقتله وأضرموا النيران في منزله في 14 فبراير/ شباط 1965 إلا أنه نجا هو وعائلته.
بعد أسبوع واحد وفي 21 من نفس الشهر، صعد مالكوم لإلقاء محاضرة يدعو فيها إلى الإسلام في قاعة مؤتمرات بمدينة نيويورك، ووقتها افتعل عدد من الأشخاص مشاجرة لصرف انتباه الحراس الشخصيين لمالكوم وهو ما حدث بالفعل.
في خضم ذلك، تقدم شخص باتجاه المنصة وأطلق النار عليه وأصابه في صدره وبعدها تقدم رجلان آخران إلى المنصة وأمطروه بالرصاص ليصاب بـ 16 رصاصة ليلقى مصرعه على الفور.
تم القبض على القتلة الذين تبين أنهم من رجال منظمة أمة الإسلام ولكنهم أنكروا أن يكونوا قد تلقوا أوامر من إليجا محمد بقتل مالكوم إكس، وقالوا إنهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم.
إعادة التحقيقات
عرضت شبكة نتفليكس في فبراير/شباط 2020، فيلما وثائقيا من 6 أجزاء تحت عنوان "من قتل مالكوم إكس؟" وافترض الفيلم أن اثنين من المدانين بقتله لم يكونا في الصالة التي كان يلقي الخطاب فيها أثناء قتله والتي سميت لاحقا باسمه الأخير "صالة مالك شباز". وأورد الفيلم عددا من الأدلة الجديدة على الرغم من مرور نحو 55 عاما على اغتياله.
وبعد عرضه طرح المعلقون عددا من النظريات حول مقتله بما في ذلك احتمال أن يكون مكتب التحقيقات الفيدرالية متورطا في اغتيال الداعية الإسلامي والناشط السياسي المثير للجدل، أو تآمرت منظمات عنصرية بيضاء لإسقاطه، أو كانت العملية بالفعل من تنفيذ رفاقه السابقين بحركة "أمة الإسلام".
وقال مكتب المحامي العام في مانهاتن بنيويورك: إنه سيراجع القضية بعد ظهور معلومات جديدة، ويعمل مع مشروع "البراءة" وهي مؤسسة غير ربحية تعمل على رد الاعتبار للمدانين خطأ.