الحكومة صامتة.. "جثث مجهولة" تنكأ جراح الطائفية في العراق مجددا

يوسف العلي | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

بعد غموض وتستّر أحاط بمصير آلاف المغيبين العراقيين لسنوات عدة، عُثر في الأيام الأخيرة على مئات الجثث "مجهولة الهوية" ملقاة في شوارع مدينة عراقية طالما دارت الشكوك أن مليشيات مسلحة كانت تحتجزهم فيها، بعد اختطافهم من المدن ذات الغالبية السنية.

وتعود قصة اختطاف نحو 12 ألف عراقي من المكّون السني، إلى قبل خمسة أعوام، وتحديدا في أعوام 2014 و2015 و2016، وذلك خلال المعارك التي خاضتها القوات العراقية ضد تنظيم الدولة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، ومناطق شمال محافظة بابل.

القاتل يدفنهم

الجثث التي ظهرت فجأة في محافظة بابل، شكلت صدمة للشارع العراقي، بعدما كشفت عن الطرق الوحشية التي جرى التخلص فيها من مئات المعتقلين، ورميهم في شوارع المدينة، لتبقى جثثهم في ثلاجات الطب العدلي لسنوات، ومن ثم دفنهم بمقابر عدة في محافظة كربلاء دون معرفة هوياتهم.

إلا أن موضوع دفنهم كان القضية الأكبر، إذ ظهر على وسائل الإعلام شخص يدعي أنه صاحب مؤسسة مجتمع مدني، تكفّل بدفن الجثث بعدما بقيت سنوات عدة في الطب العدلي، ليتبين بعد ذلك أن الرجل يدعى رعد الشوك، وهو قيادي في مليشيات "لواء الطفوف" الشيعية، وشارك في المعارك التي دارت آنذاك ضد تنظيم الدولة.

الأمر الذي دفع الأطراف السياسية السنية إلى مطالبة الحكومة العراقية، بالكشف عن مصير آلاف المغيبين، الذين قالوا إن مليشيات مسلحة تتعالى على الدولة هي من تحتجزهم، وتسيطر على مناطق خارج سيطرة الدولة العراقية، ومعروفة لدى الحكومة.

وبعد اجتماع عقده ممثلو المحافظات السنية، شددوا على أن الجهد الحكومي وفي ظل المسؤولية القانونية لم يكن على قدر أهمية وخطورة هذا الملف، فلا تزال الحقائق المرتبطة به غائبة، ولا يزال المغيبون والمختطفون في الرزازة وبزيبز والصقلاوية وسامراء وجرف الصخر وديالى وصلاح الدين ونينوى وكركوك ومناطق حزام بغداد وغيرِها، يشكّلون سؤالا جوهريا عن مصيرهم المجهول.

وحمّلوا الحكومة المسؤولية عن معالجةِ هذا الملف وطي صفحته بما يعيد الحق والكرامة إلى أي مظلوم، وضمن سقف زمني محدد دون تسويف أو تشكيل لجان لا نعرفُ نتائج أعمالها، وبأسلوب شفاف معلن للمواطنين جميعا.

وهددت القوى السنية، بتدويل قضية المختطفين المغيّبين في المحاكم الدولية، باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، إذا ما استمر هذا الوضعُ ولم تتخذْ الحكومة الإجراءات اللازمة.

وشددت على أنه "لا يمكن أن نكون إلا مع شعبنا وجمهورِنا للوصول إلى الحقائق الكاملة واتخاذ كل ما يلزم لإنصاف المظلومين والقصاص من المجرمين، تلك هي إرادةُ الشعب، وعلى الحكومة احترامها عبر تطبيق الإجراءات التي تقودُ إلى ذلك، ولا يحق لأحد تأجيل وتسويف مظالم الشعب وإخضاعها إلى تقلبات العملية السياسية".

تهديد من يفضحهم

وفي السياق ذاته، كشف النائب السابق في البرلمان العراقي مشعان الجبوري، أن مليشيات شيعية (لم يسمها) كانت تقاتل ضمن صفوف الحشد الشعبي ضد تنظيم الدولة بمحافظة صلاح الدين، هي من اختطفت المدنيين وغيّبتهم.

وأوضح الجبوري خلال مقابلة تلفزيونية، أن هذه المليشيات نصبت أمام عينيه نقطة أمنية قرب مدينة بيجي بمحافظة صلاح الدين، ونصبوا خيما على أنها للتدقيق الأمني، ومن يدخل إليها لا يخرج بعدها، بدعوى أنهم مطلوبين.

وعن ردة فعله، إذ كان نائبا في البرلمان ساعتها، قال: "اعترضت وتشاجرت معهم، وبعدها طوقتني مجموعة من هذا الفصيل، وهددوني بالقتل إذا لم أغادر المكان، وأبلغت الجهات الرسمية حينما بالأمر، ولأني لم أستجب زرعوا لي الألغام الأرضية، وأطلقوا عليّ النيران من بعيد على أن تنظيم الدولة هم من يستهدفونني".

وأكد الجبوري، أن المئات من أبناء محافظة صلاح الدين أخذوا من أمام النقطة الأمنية هذه، و"نعرف من أخذهم". وفي منفذ آخر يدعى سايلو الحجاج، كانت القوات الأمنية والاستخبارات مع أمن الحشد الشعبي، "أيضا أخذوا عددا من المواطنين وغيّبوهم، وعندما اعترضت أطلقوا النار عليّ، واشتبكوا معي".

ولفت إلى أن من فعل ذلك معه هم فصيل في الحشد الشعبي بقيادة أبو محمود الشمري، الذي جرى تعيينه الآن مديرا للأمن الوطني في محافظة صلاح الدين، "أطلقوا النار على سيارتي لكي أغادر المكان، حتى لا أكون شاهدا على اعتقالهم للناس، ولم أعلن كلمة واحدة للإعلام حتى لا أشوش على (معارك التحرير)".

خذلان رئيس البرلمان

على غير المتوقع، ظهر رئيس البرلمان العراقي أحد القيادات السياسية السنية بالبلد محمد الحبوسي، بصحبة وزير الداخلية وعدد من القيادات الأمنية، ليعلن أن حادثة العثور على الجثث ليست طائفية، ولا يمت لها بصلة، وهي عبارة عن حوادث عرضية متفرقة سجّلت بمحافظة بابل، وهي من كل المناطق، وعددها 31 جثة فقط، والبعض منها جنائي وأخرى جاءت عبر النهر.

وأشار إلى أن زمن الطائفية قد ولى بتضحيات ودماء العراقيين، قائلا: "لا عودة إلى الوراء، وأنا أتحمل المسؤولية من موقعي الوظيفي عن هذا الموضوع، وعلينا أن نخرس الأفواه النتنة التي تريد العودة إلى المربع الأول من الاقتتال الطائفي".

تصريحات الحلبوسي هذه، فجّرت موجة غضب سياسي وشعبي كبيرة، فقد رد محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي عليها بالقول: "قضية آلاف المخطوفين والمغيبين أثناء معارك تنظيم الدولة لن تغلق بالتبريرات السخيفة لبعض المسؤولين، فدماء الضحايا ستبقى تصيح بصوت جهور تسمعه الإنسانية ولن تستقر إلا بالحق والقصاص. وهي قضية إنسانية لدى من يمتلكون الشعور الإنساني وطائفية عند الطائفيين".

 

وعلى الوتيرة ذاتها، طالب النائب عن محافظة نينوى، أحمد الجبوري، مجلس القضاء الأعلى بجرد الإخبارات والدعاوى المقامة في محاكم استئناف المحافظات المحررة، عازيا ذلك إلى تبيان "الحقائق وإنهاء معاناة ذوي المفقودين".

وعلّق الجبوري في تغريدة له على موقع "تويتر" قائلا: "نطالب رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان بجرد الإخبارات والدعاوى المقامة في محاكم استئناف المحافظات المحررة من ذوي المفقودين والمختطفين منذ يونيو/حزيران 2014 ولغاية الآن". وأضاف أن "ذلك يأتي لتبيان الحقائق وإلزام الحكومة بأخذ دورها القانوني لإنهاء معاناة ذوي المفقودين الذين طال انتظارهم".

أما النائب طلال الزوبعي، فقد هاجم بدوره الحلبوسي ضمنيا متهما إياه بعدم النضج السياسي على خلفية موقفه الأخير "المستعجل"، قائلا: "من واقعنا السياسي، لا بد للإنسان أن يمر بالمراحل الأولى حتى يصل إلى الأخرى، ولا بد له من بدايات حتى يتدرج إلى النهايات، وإذا ما أراد القفز فوق المراحل وتخطى البدايات فيقال له: (أصبح زبيبا قبل أن يحصرم) والحليم تكفيه الإشارة".

وعزز موقفه بتغريدة أخرى قال فيها: "إذا كنت غير قادر على الحفاظ على مستحقات ومكتسبات أهلك تنحّ جانبا؛ إذا كنت تعتبر السياسة مجاملة وفهلوة حتى على حساب زهق الأرواح فسوف تلعنك الأجيال القادمة، لا تجامل على حساب أرواح الناس".

كابوس الإبادة

رغم أن "الجثث المجهولة" وصل عددها إلى نحو 250 جثة، وأخذ صداها مساحة واسعة في وسائل الإعلام المحلية والعربية، إلا أن الحكومة العراقية التزمت الصمت ولم تخرج بأي تصريح، أو تشكّل لجنة لكشف هويات الجثث التي دفنت في محافظة كربلاء.

لكن المرصد العراقي لحقوق الإنسان، قال في بيان له، إن الجثث التي نقلت من محافظة بابل مؤخرا ليست مجهولة الهوية، وفيما كشف أن عدد الجثث التي نقلت يبلغ 250 جثة، أشار إلى تورط جهات مسلحة قريبة من الحكومة بقتلهم وتصفيتهم.

وطالب المرصد، رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي بتشكيل لجنة تحقيقية سريعة بشأن الجثث وعدم تسويف القضية، لافتا إلى أن "هذه الجثث تثير الشكوك حول جرائم حرب أو عمليات إبادة جماعية في مناطق جنوب بغداد".

وأضاف أن "صمت الحكومة العراقية يُغيّب الحقيقة ويُدلل على وجود معلومات لدى السلطات التنفيذية حول هذه الجثث لكنها لا تُريد الكشف عنها".

أما مركز "جنيف الدولي للعدالة"، فقد طالب الأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية مستقلة إلى العراق للتحقيق بما كُشف عنه مؤخرا من عمليات دفن غير قانونية لما يقرب من 300 جثة وصفتها جهات على صلة بالسلطات العراقية على أنها مجهولة الهوية وجرى تسليمها لمنظمة إنسانية غير حكومية لكي تتولى دفنهم.

وأوضح المركز في بيان أنه "تسلم معلومات من جهات عراقية مطلعة ونداءات من ناشطين تؤكد أن السلطات العراقية بدأت تتخلص من مئات الجثث التي يرجح أنها جثث الأشخاص المختفين قسريا منذ سنوات في معتقلات المليشيات السرية وخاصة لدى ميليشيا الحشد الشعبي".

كما أكد على أن ذلك يمثل انتهاكا خطيرا للقانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني، وهو ما يتطلب التدخل العاجل والفوري من قبل الأجهزة المعنية في الأمم المتحدة وبصورة خاصة الأمين العام والمفوضة السامية لحقوق الإنسان وإرسال لجنة تحقيق دولية مستقلة للتحقيق بهذه الانتهاكات.

من قتلهم؟

ويرتبط مكان العثور على الجثث، وتلميحات السياسيين السنة بأن من يسيطرون على مدينة جرف الصخر في شمال محافظة بابل-التي لا تستطيع أجهزة الدولة الأمنية الوصول إليها- هم من يقفون وراء التصفيات الجسدية للمغيّبين.

ومن أبرز تلك المليشيات التي تسيطر على تلك المنطقة حاليا، كتائب "حزب الله" و"النجباء" و"العصائب" و"الخراساني"، وفصائل أخرى كلها مرتبطة بإيران، وباتت أخيرا تعرّف عن نفسها بعبارة "المقاومة الإسلامية"، ومحليا يطلق عليها اسم "الولائية"، في إشارة إلى إيمانهم بمشروع الولي الفقيه الإيراني.

وفي مايو/أيار 2017، قال نائب الرئيس العراقي السابق إياد علاوي، إن قائدين في الحشد الشعبي توجها إلى إيران، لمناقشة موضوع نازحي جرف الصخر في شمال بابل التي استعيدت من تنظيم الدولة في تشرين الأول/ أكتوبر 2014.

وأوضح علاوي في مؤتمر صحفي بمحافظة بابل، أنه تكلم مع قيادات الحشد الشعبي، هادي العامري وأبو مهدي المهندس، وقال لهم: "فلنعتبر جرف الصخر نموذجا وتجربة ميدانية نحقق بها مصالحة وطنية من خلال إعادة النازحين".

وأضاف: "أخبرت العامري والمهندس بأنه إذا كان هناك إرهابي أو إرهابيان اثنان فهذا لا يعني أن الكل إرهابيون، إذ ينتشر الإرهاب ببغداد وفي كل مكان. وتبين أنهم لا يستطيعون فعل شيء".

وتابع علاوي مبينا: "قال لي أحد القادة الاثنين (لم يسمه) إن إيران أرسلت دعوة له فذهب إلى طهران بخصوص النازحين، والأخيرة حوّلتهم إلى شخص يعيش في لبنان"، متسائلا: "ما علاقة إيران ولبنان؟".