دورات التنمية البشرية.. علمٌ حديث أم دجلٌ زائف؟
"التنمية البشرية".. بدأ الشباب العربي باكتشاف هذا العالم مع انتشار كتب بعناوين على شاكلة "كيف تنجح في الامتحان دون مجهود؟"، وغيرها من العناوين الجاذبة التي تركز على السرعة في بلوغ النتائج دون عناء.
باع كتاب "السر" لكاتبه روندا بايرن في عام 2006 عن التنمية البشرية 20 مليون نسخة، يتحدث عن "قانون الجذب الكوني وأسراره التي تفشّت في العالم".
يرى المهتمون أن التنمية البشرية تجارة لا ركود فيها، فبعد الكتب انتشرت ظاهرة الدورات التي يشرف عليها أشخاص غير مؤهلين في الكثير من الأحيان، يطلبون مبالغ باهظة، إلا أنها تلقى إقبالا كبيرا.
فسّر الدكتور المتخصص في علم النفس والفلسفة، عادل مصطفى، ذلك في كتابه "الحنين إلى الخرافة"، ويقول: "حين ينفق المرء الكثير من الوقت والمال والعمر مستثمرا في مشروع ما، فإنه من الصعب عليه جدا أن يعترف بزيفه إذا تبين له. وبدلا من الاعتراف فإنه يتمادى في تبرير باطله بالانخراط في انحياز التأييد، وفي التفسير الاستبعادي للأدلة المضادة، وفي غير ذلك من الإستراتيجيات المغالِطة".
وقال صاحب كتاب "50 خرافة في علم النفس" سكوت ليلينفيلد، إن العلوم الزائفة يغيب عنها مبدأ التصحيح الذاتي، وأننا جميعا عرضة لتصديق الادعاءات المشكوك فيها، وبأن العلم الذي بالكاد يعد ترياقا شافيا، هو في النهاية أفضل حصن ضد الميول الشخصية تجاه اللاعقلانية.
ويعتبر ديفيد غورسكي، المشارك في تأليف الكتاب، أن المفهوم المضلل للطب "التكاملي" سمح بتسلل الدجل إلى الأوساط الأكاديمية، بالاستفادة من النقطة العمياء في مجال الطب القائم على الأدلة، وهي المعقولية البيولوجية (سبب مفترض ونتيجة معينة) تتسق مع المعرفة البيولوجية والطبية الراهنة.
التنمية البشرية
ظهر مفهوم التنمية البشرية في عقود الحداثة الأخيرة ضمن مجموعة مفاهيم سوق العمل المعاصرة وزاد تردده فيما يتعلق بالتطوير والحاجة للتعامل مع مشكلات أمية الثقافة التكنولوجية، وثقافة الرأي والرأي الآخر، وثقافة التواصل الفعال، بحسب الأكاديمية العربية البريطانية للتعليم العالي.
ونُشر أول تقرير عن التنمية البشرية Human Development Report في عام 1990، وشدد على أن "الشعب هو الثروة الحقيقية لأي أمة". ودعمت هذه الرؤية بثروة معلوماتية مأخوذة من تجارب سابقة Empirical data، مع أساليب جديدة في طرق تناول القياس لمعدلات التنمية، من منظور تقدم حياة الإنسان المعاصر، وضرورة إثراء حياته معنويا فضلا عن إثرائها اقتصاديا.
وبمتابعة مؤشرات التنمية البشرية خلال العقود الأخيرة يتضح ارتفاع معدلات متوسط الأعمار والحالة الصحية، الثقافة والاتجاهات التعليمية، أنماط الاستهلاك وهذه المؤشرات ارتفعت حتى في الدول الأقل تقدما.
المصطلح الحقيقي هو تنمية ذاتية ويتم الخلط بينها وبين "الموارد البشرية"، توجد التنمية الذاتية منذ آلاف السنين في كل الحضارات منها الفرعونية والهندية والصينية وأيضا الإغريقية. الديانات السماوية أيضا حثت الناس على التعلم وتطوير النفس.
لكن في القرن العشرين تم التركيز على التنمية الذاتية بشكل كبير، عبر الربط بينها وبين علم النفس والخروج بمفهوم "نمط الحياة" الذي ركز في البداية على الموازنة بين الحياة والعمل، الذي يركز على كيفية القيادة وعيش الحياة.
أين الخلل؟
الإقبال على دورات التنمية البشرية جعلها مهنة من لا مهنة له، حتى أصبحت شهادات تؤخذ من دورات على الإنترنت تخول للكثيرين تلقين الناس كيف يمكنهم الوصول إلى النجاح والتحكم في حياتهم، حتى يصبحوا قادة.
الأسباب التي جعلت هذا المجال مليئا بالخرافات حتى أصبح ينظر له على أنه مجرد وهم، أول هذه الأسباب هي التوقعات الكبيرة والبعيدة عن الواقع التي جاء بها المتخصصون -أو المدعون- في هذا المجال، وهدفهم كان جذب أكبر عدد من الناس.
من نقلوا علم التنمية الذاتية في السنوات الأخيرة جاؤوا بكثير من الحماس عن الغنى العلاقات الاجتماعية والمهنية الناجحة، تم التركيز على النتائج دون السعي لتحقيقها، فتكون النتيجة، صفر.
السبب الثاني الذي جعل من الوهم تهمة لصيقة بهذا المجال هو التسويق غير الحقيقي، الذي يركز على الادعاءات، مثل قول إن أحد كتب التنمية البشرية جاء بجديد لم يرد في أي من الكتب السابقة، وهو ما يكتشف المستهلك فيما بعد أنه خطأ.
الميل إلى الخرافة
يستعين الكثيرون بمدرب لتحقيق أهدافهم الشخصية والمهنية، هذه الممارسة تهم أيضًا المسؤولين الذين يرون أنها وسيلة لتحفيز موظفيهم للحصول على مزيد من الأداء والكفاءة.
رغم أنها واعدة، إلا أن الممارسة لا تزال محاطة بفراغ قانوني، الأمر الذي جعل العديد من الدخلاء يصورون أنفسهم كمدربين، لكنهم في الواقع لا يقومون بالتدريب أو الاستشارات أو حتى علم النفس.
فقدت هذه المهنة المصداقية، وبدأ الزبون يستفيد من خدمة لا علاقة لها بالتدريب.
ويرسخ لدى الناس الاستثمار في العلم الزائف، ويترسخ الالتزام به أكثر فأكثر، من خلال اللقاءات والمؤتمرات، حيث يعرض الأشخاص خبراتهم الإيجابية مع عملهم المزعوم ويتقلبون في دفء الأمثلة المؤيدة، والنوادر والشهادات الفردية.
يفيد كتاب "الحنين إلى الخرافة" بأن البعض يفتتن بالخرافة لأنها تدغدغ العواطف وتبعث نشوات في النفس.
وبحسب كتاب عالم النفس المصري، للخرافة جاذبية هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافة تحتل أعز الأمكنة، ذلك أنها هي الأصل وهي العلم الأقدم، التي قدمت للإنسان الوعد.
تقتات هذه الدورات على الوهم بدلا من أن تغير الواقع، وتزين الشك بدلا من أن تقتلعه، وتعتمد بشكل كبير على افتتان بعض الناس بالخرافة لأنها مثيرة للدهشة وزاخرة بالغرابة.
ويستند العلماء الزائفون في إثبات فرضياتهم إلى النوادر الفردية، وهي أشياء لا تصلح بذاتها كدليل، وإن كانت ملهمة أحيانا في سياق الكشف، وذات فائدة أحيانا في توضيح ما قد ثبت بالدليل. ذلك أننا لا تصلنا في العادة إلا الشهادات الإيجابية، أما الشهادات السلبية فتُحجب تلقائيا.
العلم الزائف
العالم الحقيقي لا يلتزم إلا بالدليل ولا ينشد إلا الحقيقة، وهو على استعداد دائم للعدول عن فرضيته إذا لم تثبت بالاختبار.
ويذهب البروفيسور سكوت ليلينفلد إلى ضرورة تدريس خصائص العلم الزائف من أجل الفهم القويم للعلم، الذي لن يبلغ تمامه إلا بفهم نقيضه: العلم الزائف (وبضدها تتميز الأشياء)، ومن أجل غرس الفكر النقدي في عقول الطلاب، الذين يلتحقون بالجامعة وأذهانهم متخمة بالخرافات والأساطير الحديثة.
وأثبتت دراسات حديثة أن دراسة التمييز بين العلم والعلم الزائف تفضي إلى صرف الناس عن تبني الاعتقادات الخرافية، وإلى تحسن القدرة على تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها، وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.
وفي عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابل من الخرافات الجديدة والنظريات الزائفة والدجل، لم تعد مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم ترفا بل قضية ملحة، وضرورة تعلو على كل ضرورة. من حق الناس أن يتلقوا المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بيانات صادقة لا زيف فيها ولا خداع.
ومن حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي ومن حق المصوتين أن يدلوا بأصواتهم بناء على حقائق. وبحسب عادل مصطفى: "الأمية العلمية تقتل الفكر النقدي، وتخلف أجيالا تدمن الوهم وتراهن على الباطل، وتختار لأمتها المسار المهلك".
دحض الزيف
قال عالم الفلك الأمريكي، كارل ساجان في كتابه "عالم تسكنه الشياطين"، إن العلم يقترن دائما بتوتر جوهري بين موقفين متناقضين في الظاهر: انفتاح على الأفكار الجديدة مهما تكن غريبة أو مضادة للحدس، وتمحيص ارتيابي لجميع الأفكار. مشددا على أن هذا هو السبيل إلى غربلة الحقائق العميقة من الهراء.
وأوضح سارجان أن اجتماع التفكير الإبداعي والتفكير الارتيابي في آن معا هو ما يحفظ العلم في مضماره.
ليست هناك معايير حاسمة تجزم بأننا إزاء علم زائف، غير أن هناك دلائل تهيب بنا أن ننتبه ونرتاب. ليس بين هذه الإشارات ما هو ضروري ولا ما هو كاف للحكم بزيف الممارسة غير أن اجتماع عدد وافر منها قد يدنو بنا إلى مشارف اليقين، وكأنه ضرب من تحوّل الكم إلى كيف.
يسرف العلم الزائف في استخدام الفرضيات الاحتيالية (الغرضية)، وهي أشبه برقعة مفصلة على مقاس الثغرة، الغرض منها حماية الدعوى من الدحض. ثمة فرضيات احتيالية أدت إلى كشوف علمية حقيقية: عامل Rh في الدم كان فرضية احتيالية، ووجود كوكب نبتون كان فرضية احتيالية.
غير أن الفرضية الاحتيالية في العلم الحقيقي هي ذاتها قابلة للاختبار، أما في العلم الزائف فالأغلب أن تكون تمحكا صرفا ولجاجة مجانية لا سبيل إلى اختبارها ولا غرض منها إلا التملص والتخلص، والتحصن من التكذيب والتشفع للخطأ.
استمرار مدربي التنمية البشرية أو الذاتية في بيع الوهم للناس رغم كل الانتقادات، يفسره كتاب "الحنين إلى الخرافة" بأن كلفة التصويب الذاتي باهظة ثقيلة، ولكن العالم الحقيقي على استعداد دائما لدفعها عن طيب خاطر. ذلك أن من الصعب على النفس أن تلقي في اليم بما أنفقت فيه جهدا ومالا، واستثمرت فيه أملا وضيعت عمرا.
يقال لهذه الظاهرة النفسية "أثر الكلفة الغاطسة". ويتهرب العلماء الزائفون من النشر في المجلات العلمية المحكّمة ومن "مراجعة النظراء". بزعم أن المجتمع العلمي ومحرري المجلات متحيزون ضدهم ولن يقبلوا إسهاماتم. ومن دأب العلماء الزائفين أن يطلبوا من منتقديهم أن يبرهنوا على خطأ نظريتهم، بدلا من أن يبرهنوا على صوابها.
دعم الأكاذيب
في المجال العلاجي يرتع الدجل في نطاق الأمراض المستعصية الغامضة التي لا يزال البحث الطبي يقاربها بحذر. يريد الدجل أن يتلقف أناسا مذهولين بالمرض بعيدين عن المنطق. وفي صدد نظرية التطور يحلو للفكر الخرافي الإشارة إلى الفجوات غير المفسّرة في سجل الحفريات. يظن عامة الناس أن الحس المشترك مرشد وثيق لفهم الظواهر وتقييم العالم الطبيعي.
يركز العلم الزائف على الأمثلة المؤيدة ويضرب صفحا عن الأمثلة المضادة، بينما العالم الحق ينتحي بغريزته نحو الأمثلة المفندة، وينحني للخلف (على حد تعبير ريتشارد فيمان) عسى أن يبرهن على أنه مخطئ. إنه يأخذ مسافة من عمله، ومن عزته بأي شيء عدا الحقيقة. يتضمن ذلك أن عليه أن يصمم تجارب صارمة تختبر فرضيته اختبار النار، وتثبت كذبها إن أمكن.
يقدم العلماء الزائفون أطروحات مقطوعة الصلة بكل المعارف القائمة، ويزعمون دائما أن أعمالهم قائمة على نماذج إرشادية جديدة تماما، وهم من ثم يطلقون مزاعم يقتضي قبولها الإطاحة بكل ما نعلمه عن العالم، ويدعون أنها اختراقات، أو "تحولات في النموذج".
إن تحولات النموذج لتحدث في تاريخ العلم، ولكن على فترة وندرة، وتتطلب دليلا قويا وتجارب فاصلة جيدة التصميم قابلة للتكرار، عملا بالقاعدة القائلة: إن "الدعاوى الهائلة يلزمها دليل هائل".
ليس الإدراك البشري بالدقة التي نظنها وتنبئنا الدراسات بأن الذاكرة البشرية خادعة مرجفة ولا يعوّل عليها وتنبهنا ظاهرة الباريدوليا بأن العقل البشري مرتهن للأنماط المخزونة فيه على نحو لا فكاك منه.
إن الذهن البشري معطوب بطبيعته وليست إجراءات البحث العلمي سوى تدابير تعويضية لتدارك هذا العطب الصميم. إنما نشأت الطرائق العلمية لكي تتلافى هذه العيوب وتعوّض هذا القصور.