"الدالاي لاما".. زعيم روحي أم عنصري متعصب؟

مهدي محمد | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

زعيم روحي لبعض أتباع ديانة غير سماوية يتخطى عدد مريديها أكثر من نصف مليار إنسان حول العالم، ورغم الهالة التي يتمتع بها ومواقفه التي يشهد لها كثيرون ومكانته الدولية الكبيرة، إلا أنه عاد لتصريحات مثيرة للجدل لا تستهدف دوما سوى المسلمين والعرب والأفارقة.

"الدالاي لاما" لقب زعيم البوذيين التبتيين، الذي لا يخلو سجله الحافل بمواقف مساندة للأقليات، من تصريحات تكشف وجها آخر من العنصرية والتعصب، يتخفى وراء وجه يعتبره كثيرون رمزا للتسامح والتعايش بين أتباع الديانات المختلفة.

لاجئ يهاجم اللاجئين

وكرر الدالاي لاما مجددا مقولاته السابقة، حول كون "أوروبا مخصصة للأوروبيين"، وحذر من أن القارة العجوز قد تصبح "مسلمة أو أفريقية" إذا لم يتم إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية.

وقال الزعيم البوذي في مقابلة مع شبكة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" قبل أيام: إنه "يجب السماح لعدد محدود من المهاجرين بالبقاء في أوروبا، ويجب أن يحصلوا على مهارات قبل إعادتهم. أوروبا ملزمة باستقبال من يحتاجون إلى المساعدة فقط، لكن في النهاية يجب إعادتهم إلى أوطانهم".

يمثل "الدلاي لاما" الرابع عشر واسمه "تينزين غياتسو"، القيادة الدينية العليا للبوذيين التبتيين، وهو ينتمي إلى جماعة القبعات الصفر التي تسمى غيلوغبا، وكلمة "دلاي" تعني "المحيط" باللغة المغولية، أما "لاما" فتعني "السيد الروحاني".

في عام 1949 أثناء اجتياح القوات الصينية التبت، أقنع المستشارون الدلاي لاما بتولي رئاسة الحكومة، مع أن عمره لم يكن يتجاوز السادسة عشرة، واستمر في إدارة التبت فقط إلى سن التاسعة عشر.

ومع تولي الشيوعيين الحكم في الصين وسيطرتهم على مقدرات الأمور في التبت عام 1959، انتقل الدلاي لاما الرابع عشر لاجئا إلى الهند ليصل هناك ومن معه ومنهم أمه وشقيقته، واستقبله رئيس الوزراء الهندي حينذاك جواهر لال نهرو وضمن له ولمن معه الإقامة في بلاده.

 وباستقراره في الهند أسس الدلاي لاما في العام نفسه إدارة مركزية لحكومة التبت، ثم أتبعه عام 1960 ببرلمان في المنفى، وتوّج كل ذلك بصدور دستور التبت عام 1963.

وقدم الدلاي لاما عام 1987 خطة للسلام مكونة من خمس نقاط تهدف -بحسبه إلى "جعل التبت منطقة سلام وسط المنطقة المضطربة في الهمالايا، واحترام حقوق الإنسان الأساسية والحريات الديمقراطية من أجل التبتيين، وحماية البيئة والطبيعة في المنطقة".

وأطلق عام 1988 مبادرة سميت بـ"الطريق الوسط" تخلى بمقتضاها عن المطالبة بالاستقلال مقابل حكم ذاتي واسع ومن نوع خاص، الأمر الذي عزز من حضوره في الغرب حتى حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1989، كما حظي بتكريم واسع في كثير من الدول التي زارها وعلى رأسها الولايات المتحدة حيث منحه الكونجرس الميدالية الذهبية عام 2007، وهي أعلى وسام مدني أمريكي.

القديس العنصري

المثير، أن تلك التصريحات العنصرية التي أطلقها "الدالاي لاما" بحق المهاجرين لم تكن هي الأولى من نوعها، بل سبقتها مواقف أخرى، أماطت اللثام عن وجه يتناقض تماما مع الوجه الذي يصدره الزعيم البوذي وأتباعه عنه.

في سبتمبر/ أيلول 2018، قال الدالاي لاما خلال مؤتمر عقد في مدينة مالمو السويدية التي تضم عددا كبيرا من المهاجرين، إن "أوروبا للأوروبيين"، وإن على اللاجئين العودة إلى بلادهم لإعادة بنائها.

وأثارت كلمات الزعيم البوذي، ردود فعل واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، ودعاه نشطاء ولاجئون إلى أن يعطي مثالا عمليا على تصريحاته بالعودة إلى وطنه الذي فر منه لاجئا قبل 60 عاما.

ويكرر "الدالاي لاما" نفس الخطاب المناهض للاجئين والمهاجرين في أوروبا منذ سنوات، وفي يونيو/ حزيران 2016، قال في مقابلة مع صحيفة "فاز" الألمانية: إن "هناك الكثير من اللاجئين في أوروبا، وهذا صعب من الناحية العملية. العدد كبير جدا. أوروبا، وعلى سبيل المثال ألمانيا، لا يمكن أن تصبح دولة عربية".

"العصابة" هو الوصف الي تطلقه حكومة الصين الشيوعية ودوائرها الإعلامية على "الدالاي لاما" والمحيطين به، كما ترى مبادرة "الطريق الوسط" التي أطلقها مجرد "مؤامرة" لا تهدف إلا لتقسيم البلاد.

وقال تقرير نشره موقع "شبكة الصين" باللغة العربية: إن "مؤامرة عصابة الدالاي لاما الرابع عشر حول تأسيس منطقة التبت الكبرى، لا تخالف التاريخ فحسب، بل تتنافى مع الواقع، وتنحرف عن وضع الصين انحرافا تاما".

وتابع: "يتجاهل مفهوم منطقة التبت الكبرى حقيقة أن أبناء القوميات العديدة يوجدون ويتعايشون في هضبة تشينغهاي – التبت منذ آلاف السنين، ويشوه تاريخ قيام مختلف القوميات بالتنمية المشتركة لهضبة تشينغهاي – التبت، ليكون تاريخ قومية أحادية".

هذه الرؤية تصنع "تناقضات وخلافات بين مختلف القوميات الصينية، لمحاولة بناء منطقة التبت الكبرى الخالصة التي تقصي القوميات الأخرى، فيعتبر هذا المفهوم تجسيدا نموذجيا للقومية المتطرفة والعنصرية".

مثير للجدل

مواقف وتصريحات الدالاي لاما المثيرة للجدل لا تتوقف عند حدود مسألة اللاجئين، بل تمتد إلى مزيد من القضايا والشخصيات حول العالم، أحدثها اتهامه قبل أيام للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالافتقار إلى "المبادئ الأخلاقية".

وقال: "في يوم يقول (أي ترامب) شيئا وفي يوم آخر، يقول شيئا آخر. اعتقد أن (هناك) افتقارا إلى مبدأ أخلاقي"، مضيفا: "حين صار رئيسا، قال إن أمريكا أولا. هذا خطأ. أمريكا يجب أن تتولى المسؤولية العالمية"، مشيرا إلى أن مشاعر ترامب "أيضا معقدة جدا إلى حد ما".

وفي تصريح آخر ربما يتعارض مع قيمته الروحية قال "الدالاي لاما"، إنه يرحب بأن تكون خليفته امرأة، بشرط أن تكون جذابة!، مضيفا أن الناس لا يحبون رؤية "وجه ميت"، مشددا على أن الجمال الداخلي والخارجي لدى المرأة مهم جدا لدى البوذيين.

وفي أغسطس/آب 2014، أثار الزعيم البوذي حالة واسعة من الجدل في الأوساط العربية والإسلامية، بعد انتشار صورة تجمعه بمجموعة من الطالبات السعوديات المبتعثات للدراسة في الخارج، داخل معبد بوذي.

الصورة التي التقطت خلال تلقي الطالبات دورات تدريبية للطب التبتي في الهند، ظهر فيها "الدالاي لاما" وهو يرفع طرف ثيابه لتغطية جزء من وجهه، في تصرف فُسر على أنه تهكم على الطالبات المنتقبات.

الداعية المعتقل حاليا محمد صالح المنجد ناشر الصورة، التي تحولت إلى واحدة من أكثر القضايا المثيرة للاهتمام والمتابعة، علق حينها بقوله: "نهاية الدورات المزعومة.. كفر وشرك واختلاط برعاية الراهب وصورة بوذا، شر وفتنة وبلاء دخلت مجتمعنا".

ورأى مختصون، أن هذا النوع من الطب يتطلب حالة "روحية" يتم التحكم بها في "الإرادات"، بما لا يمكن فصلها عن العقيدة البوذية وتعاليمها وطقوسها العبادية، خصوصا أن رواده من الرهبان البوذيين.

وهو ما قد تبدى في النهاية بهذه الصورة التي جعلت من "الإله بوذا الحي"، بزعم البوذية، يتوسط الصورة، وتوضع صورة بوذا نفسه خلفهم.

الصورة النمطية

لكن مقابل هذه الصورة العنصرية والمثيرة للجدل، تبرز صورة أخرى وردية تبدو هي الطاغية والأكثر قبولا لدى الحكومات والشعوب، وهي تلخص الطبيعة المتسامحة المتعايشة لرجل يقول إنه تجسيد الإله بوذا.

وربما لا يستطيع أحد، رغم ما قد يؤخذ على "الدالاي لاما" من سلبيات ومواقف عنصرية متعصبة، أن ينكر ما له من مواقف وتصريحات إيجابية بحق بعض الأقليات والعرقيات المضطهدة.

وفي أحد تصريحاته التي تعود لعام 2017، أعرب الزعيم الروحي للبوذيين التبتيين عن حزنه بسبب المحنة التي يتعرض لها مسلمو الروهينجا في ميانمار، وقال: "هؤلاء الذين يعتدون على بعض المسلمين عليهم أن يتذكروا بوذا. أعتقد أنه في مثل هذه الظروف يمد بوذا يد المساعدة، يقينا يساعد أولئك المسلمين الفقراء. ما زلت أشعر بذلك. بالتالي فالأمر محزن جدا.. محزن للغاية".

وفي تصريح آخر يعود لعام 2010، أعلن "الدالاي لاما"، عن دعمه لأقلية الإيجور المسلمة بمقاطعة "شينجيانغ" شمال غرب الصين، متهما في الوقت نفسه بكين بمحاولة إبادة البوذية في إقليم التبت.

وقال: "لنتذكر شعب تركستان الشرقية الذي قاسى صعوبات كبيرة وقمعا متزايدا.. أود أن أعبر عن تضامني وأن أقف إلى جانبهم بثبات".

وفي سبتمبر/أيلول 2016، نقلت صحيفة "هافينجتون بوست" الأمريكية تصريحات لـ"الدلاي لاما"، قال فيها: إنه "لا يوجد مسلمين إرهابيين"، مشيرا إلى أن "استخدام الدين لتبرير العنف ليس من الدين على الإطلاق".

 وخلال زيارته للبرلمان الأوروبي، أشار إلى أنه بما أن كل الأديان تدعو للسلام، فإن وصف شخص ما بأنه مسلم إرهابي أو بوذي إرهابي هو مجرد تناقض، قائلا: "أي شخص يريد أن ينخرط في العنف لم يعد بوذيا حقيقيا أو مسلما حقيقيا لأن التعاليم الإسلامية هي التي تقول إن من يتورط في إراقة الدماء تعني أنك لم تعد ممارسا حقيقيا للإسلام".

"سقف العالم"

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1950، اجتاح الجيش الصيني إقليم التيبت وقام بالقضاء على الحكم الذاتي وحركات الانفصال. والتيبت: هي عبارة عن هضبة شاسعة (أكثر من مليون و200 ألف كم²) شاهقة الارتفاع، تصل إلى حدود 4900 م وتحدها الجبال من جميع الجهات.

وتمتد جبال الهملايا، أعلى جبال في العالم، من الناحية الجنوبية للهضبة، الذى يطلق على هذا الإقليم أحيانا "سقف العالم"، لأنها تعتبر أعلى منطقة مأهولة في العالم، وهي منطقة معروفة ببردها الشديد وصعوبة الحياة وتنوعها البيولوجي.

كانت التيبت تعتبر دولة دينية إقطاعية بامتياز، فالديانة البوذية وبالتحديد المذهب اللامي هو المسيطر على نسق حياة السكان، ويوجد في هذا المعتقد اثنان من اللامات الرفيعة (أي الرهبان البوذيون)، أحدهما الدالاي لاما (اللاما العالي)، ويعد حاكم التيبت الروحي الأعلى، والبانشن لاما، ويمثل السلطة الروحية القيادية.

ويعتقد السكان، أن هذين الراهبين يولدان من جديد، فعندما يموت "البانشن لاما" أو "الدالاي لاما" فإن روحه تحل في بدن غلام صغير، لذلك يبحث الرهبان عن الغلام الذي يولد في الوقت نفسه الذي يموت فيه اللاما، وعند العثور عليه يعد الحفيد الرسمي للراهب أو اللاما.

كانت التيبت مملكة مستقلة منذ القرن السابع، وقد وصلت إليها البوذية عن طريق الهند في الفترة ما بين عامي 742 و797، وهو ما يفسر تعاطف الهند ومساندتها المعلنة لصراع التيبت مع الصين، ومنذ سنة 1642 أصبح "الدلاي لاما" (قائد الرهبان البوذيين) هو الوصي على العرش والحكومة التيبيتية.

وتمكنت بريطانيا من احتلال بلاد التيبت والعاصمة لاسا عام 1904، وفرضت على حكام التيبت معاهدات تجارية ورسمت الحدود ما بين الصين والهند وهو ما يعرف بـ"خط مكماهون"، وهذا الخط ما زال مثار نزاع ما بين التيبت والهند من جهة والصين من جهة أخرى حتى اليوم.

لكن الصين استغلت عام 1908 رحيل القوات البريطانية من التيبت فاجتاحتها وأعادت السيطرة عليها، إلا أن التيبتيون قاموا بطرد الصينيين من بلادهم بعد سقوط الإمبراطورية وإعلان جمهورية الصين سنة 1911، ورفضوا أي وصاية صينية جديدة عليهم وكان هذا بمثابة إعلان استقلال بلادهم، وبالفعل فقد أعلن "الدالاي لاما" الثالث عشر استقلال التيبت العام 1913.

وفي عشرينيات القرن العشرين نشب خلاف كبير بين "الدالاي لاما" و"البانشن لاما" حول الشؤون السياسية، وهرب "البانشن" لاما إلى الصين مع أسرته وحاشيته، وتحول منذ ذلك الوقت "الدلاي لاما" رمزا لاستقلال التيبت بينما "الباشن لاما" رمزا للموالاة إلى الصين.

بعد وصول ماوتسي تونغ الى السلطة في الصين عام 1949، اجتاحت قواته في أكتوبر/تشرين الأول 1950 التيبت وأجبر "الدلاي لاما" الربع عشر (الحالي) على توقيع اتفاق يقضي بتبعية التيبت للحكومة الصينية مع التمتع بالحكم الذاتي.

وخلال عام 1956 حاول التيبتيون الثورة بدعم من الولايات المتحدة ضد الصين في عدد من مناطق البلاد، ولكن هذه الثورة قمعتها الصين بالقوة، ففر "الدالاي لاما" والتجأ الى الهند منذ ذلك العام ولحقه حوالى 100 ألف شخص، حيث أقام في مدينة درامسالا الهندية وأعلن من هناك حكومته في المنفى. وفي عام 1965 أعلنت الصين بلاد التيبت منطقة ذاتية الحكم تحت السلطة الصينية وضمن حدودها الإقليمية.