تاريخه أسود.. لماذا اختار السيسي شيرين فهمي لمحاكمة مرسي؟

في دراسة قديمة أعدها الأكاديمي الأمريكي "ريتشارد ميتشل" عام 1977، بعنوان "الإخوان المسلمون"، ذكر فيها فصول "محاكمة الشعب" التي أقامها نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ضد جماعة الإخوان المسلمين، وكانت المحاكمات بقيادة الصاغ "جمال سالم" أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، والضابط بسلاح "الطيران".
يقول ميتشل: "أما المحاكمات نفسها فكانت نموذجًا لا يُنسى لما تملكه الحكومة العسكرية، وما تضفيه على نفسها من حقوق تتعلق أصلا بحكم القانون، إذ اتضح منذ البداية أن آخر شيء ترمي إليه الحكومة هو إيضاح القضية، وتقدير مدى إدانة كل فرد فيها".
الأكاديمي الأمريكي أكد: "كان جمال سالم يقاطع دون تحرج إجابات الشهود إذا لم تعجبه الإجابة، وكان يضع الكلمات في أفواههم، فيتقوَّل عليهم ما لم يقولوا، وكان أحيانًا يستعمل التهديد ليفرض عليهم الإجابة التي يريدها، وكانت الأسئلة تصاغ بحيث تستبعد أي رد إلا ما تريده المحكمة، وكان يوقف كل محاول للتخفيف من توتر الموقف".
ويقول ريتشارد ميتشل: "جمال سالم كان يتبادل مع الشهود في بعض الأحيان الشتائم الوضيعة، وفي غالبية هذه الحالات كانت الشتائم تنهال من جانب المحكمة وحدها، وكانت تواجه شاهدًا بآخر، وزُيِّفت شهادة أحدهما لتثير الشاهد الآخر".
مضيفا: "سُمح للحضور أن يشاركوا في الضحك على الشهود والاستهزاء والسخرية منهم وسبِّهم، وكانت أكثر الأسئلة في مثل هذه المواقف غير متعلقة بالجريمة، وتضمنت فيما تضمنته أسئلةً تتعلق بإعراب القرآن وتفسيره بقصد إحراج الشهود وإرباكهم".
التاريخ لا يموت بل يتجدد، من جمال سالم الذي قضى أجله في مايو/ آيار 1968 إثر إصابته بمرض "السرطان"، إلى محمد شيرين فهمي القاضي المفضل من قبل نظام السيسي لمحاكمة الرئيس المنتخب (الراحل) محمد مرسي، وأيضا قادة ورموز جماعة الإخوان، ورافضي الانقلاب العسكري.
اشتهر شيرين فهمي، بمزاجه العصبي، وكلماته الحادة، في مواجهة المتهمين، لذلك كان على قائمة قضاة عبد الفتاح السيسي، الذين حكموا بالإعدام على خلفيات سياسية.
فهمي ومرسي
في 21 يونيو/ حزيران 2019، بعد أيام من وفاة الرئيس محمد مرسي، كتب عبد الله مرسي نجل الرئيس الراحل تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، مهاجما فيها القاضي "محمد شيرين فهمي" واختصه دون غيره من القضاة بسبب تعسفه، وسوء معاملته لرئيس مصر المنتخب.
عبد الله قال: "هذا قاضٍ من قضاة العار، أساء معاملة د. مرسي بما لا يليق بإنسان فضلا عن رئيس منتخب من شعب مصر، واسأل الله أن لا يجعل له بيتا يؤويه ولا ساترا يواريه وأن يجعل أيامه كلها كدرا وتعاسة، وأن يسلط عليه من يهتك ستره ويعجل بهلاكه".
هذا قاضي من قضاة العار، أساء معاملة د #مرسي بما لا يليق بإنسان فضلا عن رئيس منتخب من شعب مصر .
— Abdullah Morsi (@AbdulahMorsi) June 20, 2019
القاضي #محمد_شيرين
أسأل الله أن لا يجعل له بيتا يؤويه ولا ساترا يواريه وأن يجعل أيامه كلها كدرا و تعاسة وأن يسلط عليه من يهتك ستره ويعجل بهلاكه
pic.twitter.com/7OV5wZ0lCJ
بداية السجالات بين مرسي وشيرين حدثت يوم 19 مايو/ آيار 2015، عندما احتد شيرين على مرسي أثناء المرافعات في قضية التخابر مع قطر، بما لا يليق بالحديث مع رئيس شرعي منتخب.
وهو الأمر الذي أحدث غضبا عارما داخل الأوساط الشعبية والسياسية، لتجاوز القاضي معايير "الأدب" والالتزام في مخاطبة شخصية رمزية، خاصة وأن شيرين فهمي من المحسوبين على نظام مبارك، ولعائلته تاريخ قديم في السياسة المصرية.
طاهر عبد المحسن عضو اللجنة التشريعية السابق في مجلس الشورى المصري قال "محمد شيرين فهمي قاضي سيئ السمعة، من أنصار نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وله باع طويل في المحاكمات الجائرة التي عقدت في أعقاب الانقلاب العسكري".
وأضاف عبد المحسن لـ "الاستقلال": "ذلك القاضي يمثل نموذجا لم تشهده المؤسسة القضائية في مصر من صراعات نشطة ومتباينة في هيئاتها، وأقسامها لا تكاد تهدأ، فما بين الإطاحة بأعداد كبيرة من القضاة وأعضاء النيابة بعد صعود عبد الفتاح السيسي للحكم، إلى تشكيل مكاتب خاصة داخل وزارة العدل تراقب القضاة، إلى ملفات فساد لا حصر لها".
وأكد عضو اللجنة التشريعية بمجلس الشورى في عهد مرسي: "هناك مهازل تتعلق بإصدار الأحكام بحق المعارضين السياسيين، حتى أدانت العديد من الهيئات الدولية، والحقوقية القضاء المصري، وشككوا في نزاهته بشكل واضح وطبقا للمعلومات والأرقام".
وتابع عبد المحسن "بالعودة إلى محمد شيرين فهمي، ننظر إلى مفارقة تعامله مع الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، والطريقة الفجة المتسلطة التي التزمها، وإلى تعامله مع المخلوع حسني مبارك، بسلوك هين وباحترام فائق غير معهود عليه".
جذور عسكرية
كما سلف فشيرين فهمي من عائلة ارستقراطية ذو جذور عسكرية، فجده عبد الحميد باشا خيري مدير سلاح الفرسان الملكي، ووالده اللواء فهمي خيري لواء سابق بالجيش المصري، وزوجته "رشا" هي ابنة اللواء "مصطفى عبد القادر" رئيس جهاز مباحث "أمن الدولة" السابق.
ومنذ العام 2006 إلى 2015 شغل منصب رئيس محكمة جنايات القاهرة، ويعتبر محمد شيرين فهمي العدو اللدود لحركة "قضاة من أجل مصر" المستقلة والتي كان لها دور كبير في التمهيد لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ومن قبلها تيار استقلال القضاء والذي يضم كوكبة من القضاة المشهود لهم بالنزاهة.
موقفه من قضاة الاستقلال دفع رئيس محكمة استئناف القاهرة المستشار نبيل صليب لتعيين شيرين للتحقيق معهم، ومن أبرزهم المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات والمستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية الأسبق وشقيقه المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق والمستشار أحمد سليمان وزير العدل الشرعي والمستشار محمود الخضيري رئيس اللجنة التشريعية والقانونية السابق بمجلس الشعب.
كما أن شيرين أحال 59 قاضيا من تيار استقلال القضاء للتأديب والصلاحية، بعد بيان رفضهم لفض اعتصام رابعة العدوية، وترأس محاكمة الرئيس محمد مرسي، وبعض كوادر جماعة الإخوان المسلمين في قضية التخابر مع قطر.
وفي 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أصدر حكما بالإعدام شنقا بحق 35 متهما في القضية المعروفة إعلاميا بمذبحة رفح الثانية.
تورط محمد شيرين فهمي في وفاة مرشد جماعة الإخوان السابق محمد مهدي عاكف عندما رفض نقله للمستشفى لتلقي العلاج بعد تدهور حالته الصحية، وهو ما تسبب في وفاة المرشد السابق للجماعة في 22 سبتمبر/ أيلول 2017.
عاقب فهمي عصام سلطان عضو مجلس الشعب السابق ونائب رئيس حزب الوسط، بالحبس لمدة عام واحد مع الشغل، بدعوى إهانة الأخير لهيئة المحكمة، رغم أن سلطان لم يفعل شيئا أكثر من إلقائه السلام على المحكمة والحاضرين.
فهمي رد على تحية سلطان بالقول "المحكمة لا تحيا"، فقال سلطان "سلام عليكم للحاضرين جميعا، عدا المحكمة"، وهو ما استفز فهمي واعتبره تحقيرا وإهانة لهيئة المحكمة، فقضى بمعاقبته بالحبس.
وفي 16 أبريل/ نيسان 2014 حكم فهمي بالحبس 7 سنوات على الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، مؤسس حزب الراية السلفي، بدعوى تزوير جنسية والدته، بغرض عدم تمكينه من خوض انتخابات الرئاسة عام 2012، مع إلزامه بالمصروفات الجنائية، كما حُكم عليه بالحبس عامين في اتهامه بإهانة القضاء.
الجلسة الأخيرة
في 17 يونيو/ حزيران 2019، ترأس محمد شيرين فهمي الجلسة الأخيرة، للرئيس محمد مرسي، والتي شهد على أحداثها عبد المنعم عبد المقصود، محامي الدفاع عن الرئيس المنتخب، وروى وقائعها.
عبد المقصود قال: "الدكتور مرسي، طلب الحديث إلى رئيس المحكمة المستشار محمد شيرين فهمي، وتحدث إليه لمدة ما بين 6 و7 دقائق، طلب خلالها من المحكمة عقد جلسة سرية للحديث حول تفاصيل لا يريد أن يطلع عليها أحد غير هيئة المحكمة، وأفاد بأن هذه التفاصيل سرية وتعتبر أمناً قومياً، ولا يريد أن يدلي بها أمام العامة".
لكن المحكمة رفضت طلبه، وقال مرسي بعدها بحسب محاميه، إن لديه حقيبة أسرار لن يفصح عنها إلى أن يموت وإن تم فتح هذه الملفات فسيتضرر الأمن القومي المصري وهو لن يضر بالأمن القومي للبلاد، وهذا قرار المحكمة الذي يحترمه، واختتم حديثه ببيت الشعر "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام".
وأضاف عبد المنعم، أن مرسي خلال وقوفه أمام رئيس المحكمة للحديث، قال "أنا أعمى، أنا لا أرى المحكمة، ولا الدفاع ولا أحداً من داخل القفص".
وأردف المحامي: "أنه عقب انتهاء مرسي من الحديث رفعت المحكمة الجلسة وجلس مرسي في قفصه. لم نكن نراه أو نسمعه لأنه محاط بقفص زجاجي عازل، وبعد دقائق سمعنا أصواتا داخل القفص ولكننا لم نرَ ما الذي حصل، وكل الذي سمعناه أن الدكتور مرسي سقط أرضا وأغمي عليه".
وفي 18 يونيو/ حزيران 2019، قالت سارة ليا واتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "إن وفاة مرسي جاءت بعد سنوات من سوء المعاملة الحكومية، والحبس الانفرادي لفترات طويلة، وعدم كفاية الرعاية الطبية، والحرمان من الزيارات العائلية والوصول إلى محامين".
وأضافت: "ارتكبت الحكومة المصرية انتهاكات جسيمة ضد مرسي من خلال حرمانه من حقوق السجناء التي تفي بالمعايير الدنيا".
دوائر الإرهاب
بدت يد المؤسسة القضائية واضحة في الانقلاب على نظام الحكم المنتخب، وإدارة المرحلة الانتقالية التي عرفت بخارطة الطريق، وهو ما حدث حتى تسلم عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، وتأديته اليمين الدستورية رئيسا لمصر أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا في 8 يونيو/حزيران 2014.
بعد السيسي بدأت مرحلة جديدة في تسييس، وإعادة هيكلة المؤسسة القضائية لتناسب السلطة القائمة، وتوجهاتها الأحادية في إدارة شؤون البلاد، والتنكيل بالنظام السابق، والمناهضين لحكم السيسي، الذي أمسك بزمام السلطة التشريعية، والهيئات الرقابية في يده.
أقر برلمان السيسي تعديلات على قانون السلطة القضائية، قبلها رسم مع بطانته مسارا محددا للقضاء بداية من إنفاذ دوائر الإرهاب، والدوائر الخاصة، وتوسيع صلاحيات القضاء العسكري، وإحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية، بالإضافة إلى التدخل المباشر في أحكام القضاء.
في ديسمبر/كانون الأول 2013 قررت محكمة جنايات القاهرة تشكيل 6 دوائر متعلقة بالإرهاب، 4 دوائر منها في القاهرة، و2 في الجيزة، ومع الوقت تم استحداث دائرة جديدة وهي الدائرة (11 إرهاب) برئاسة المستشار محمد شيرين فهمي، ليصبح إجمالي عدد الدوائر 7.
كما أنشأت محكمة الاستئناف بعض دوائر الإرهاب من محاكم الجنح في القاهرة والمحافظات، وتعقد جميع جلسات دوائر الإرهاب في معهد أمناء الشرطة بسجن طرة، وفي أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس.
تلك الدوائر تحديدا هي التي تنظر معظم القضايا السياسية الكبرى، وكان أشهرها (اغتيال النائب العام – غرفة عمليات رابعة – اقتحام السجون – مذبحة كرداسة)، ومن خلالها صدرت أحكاما هائلة بالإعدام في حدث غير مسبوق في تاريخ مصر.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2014 أعلنت الحكومة المصرية أنها وافقت على تعديلات لقانون القضاء العسكري تضيف له اختصاصات بينها محاكمة المدنيين في قضايا الإرهاب.
وحسب الأحكام القانونية المنصوص عليها فإن القضاء العسكري تنعدم فيه الحيادية، حيث ينص القانون المصري على تبعيته بشكل مباشر إلى وزير الدفاع، وخلال السنوات الماضية أصدرت المحاكم المدنية والعسكرية أحكاما بالإعدام بحق مئات الأشخاص.
وبقي الإعدام على خلفيات سياسية في مصر يمثل حالة معقدة من حيث الإجراء والتنفيذ، بداية من الاعتقال إلى الإحالة على ذمة قضية ما، وصولا إلى حبل المشنقة، مسار متشابك يمر به المواطن يحمل أحيانا بين طياته الكثير من الثغرات، ولكنه في النهاية يقود إلى الموت إذا ما قرر نظام السيسي التنفيذ.
المصادر
- بروفايل| محمد شرين فهمي.. "قاضي الإرهاب والجلسات الصارمة"
- شيرين فهمي.. قاضي بدرجة عدو للاستقلال وابن دولة المخلوع
- المستشار«شيرين فهمي» حفيد قائد سلاح الفرسان.. ورجل القضايا الصعبة
- محمد شيرين فهمي.. الحكم "إعدام"
- الإخوان المسلمون "ريتشارد ميتشل".. دراسة أكاديمية
- محامي مرسي يروي لـTRT عربي أحداث محاكمة الرئيس الراحل قبل وفاته
- هيومن رايتس ووتش تطالب بالتحقيق مع السلطات المصرية في وفاة محمد مرسي