السعودية ترتدي ثوب الترفيه.. كيف زادت الجرعة في رمضان؟

سياسة تغريب للمجتمع تشهدها المملكة العربية السعودية منذ تنصيب الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد في يونيو/حزيران 2017، فمنذ ذلك الحين والمملكة دخلت في تحولات جذرية تمس ثقافتها، وأيديولوجيتها، وتخلٍ تدريجي عن طابعها الديني المحافظ.
فالحديث أصبح معتادا في المملكة عن تحجيم دور الهيئات الدينية واستبدالها بأخرى ترفيهية، وتجميد نشاطات دعوية، وتغييب لمشايخ الفكر الوسطي في حملات اعتقال وإخفاء قسري متتابعة، واجتثاث لمظاهر الالتزام والحشمة ونشر للفواحش الخارجة عن قيم الدين وأعراف المجتمع السعودي.
تحولات تظهر بصورة جلية في شهر رمضان، من مظاهرها فرض قيود على المعتكفين وإلزامهم بتقديم بطاقات الهوية وتسجيل أسمائهم وبياناتهم، والحد من استخدام مكبرات الصوت الخارجية في المساجد أثناء صلاتي التروايح والتهجد، وتوثيق أسماء الأفراد والشركات والمؤسسات القائمة على الأعمال الخيرية.
بلد انفتاحي
كل ما سبقت الإشارة إليه وغيره يأتي، حسب مراقبين، في ظل انتهاج السلطات السعودية الحالية لسياسة تغريب يسوّق لها الأمير الجديد على أنها "سياسة تصحيحية أو إصلاحية"، في محاولة برهنة للغرب عامة وأمريكا خاصة أن السعودية بلد متحضر وانفتاحي وديمقراطي.
المملكة قد تكون فعليا بحاجة إلى إصلاحات حقيقية على كل المستويات، لكن هذه الإصلاحات يجب أن تتم باعتدال وتوازن لا تميل إلى التطرف ولا إلى الإفساد، ودون تغريب وانخلاع من المبادئ والمعتقدات، وبعيدا عن حملات التضليل وتدمير قيم المجتمع.
التغريب الذي يسعى وراءه ولي العهد السعودي وينفذه بخطوات متتابعة ويخاطر فيه بسمعة المملكة كدولة إسلامية رائدة، يأتي تنفيذا لأجندات خارجية بغيةَ تثبيت أركان ملكه، بمساندة وتوجيه ودعم قوي من الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، المثل الأعلى للأمير.
السعودية التي تضم بين جنباتها 98 ألف مسجد وجامع، أكثرها قدسية وأقدمها تاريخا المسجد الحرام، فرضت قيودا وإجراءات على الصلاة والاعتكاف في هذه المساجد خلال شهر رمضان.
فمنذ أيام أصدرت السلطات قرارات رسمية تقضي بضرورة توثيق وجمع معلومات عن المعتكفين أو المصلّين في مساجد المملكة خلال شهر رمضان، بدعوى الحرص على عدم وجود ما ينافي الاعتكاف، ومعرفة المعتكفين في المساجد وتحديد العمر من 18 عاما فما فوق، بحسب ما أوردته صحيفة "سبق" السعودية.
كما ألزمت السلطات المعتكفين في المساجد من الجاليات المسلمة والعربية وكذلك السعوديين، خلال شهر رمضان، تقديم صور من بطاقات الهوية الشخصية، وموافقة الكفيل (لغير السعوديين) على الاعتكاف.
وتضمنت الشروط أيضاً تسجيل السلطات الأمنية أسماء الأفراد والشركات والمؤسسات المتبرعة بالسُّفر والإفطارات الرمضانية والقائمين عليها، كما حذرت من الافتراش أو الجلوس في الممرات داخل المسجد الحرام وخارجه.
سياسة التضييقات في المساجد بدأتها السلطات منذ العام الماضي، حينما منعت استخدام مكبّرات الصوت في المساجد الصغيرة أثناء صلاة التراويح، وتذرّعت بالرغبة في منع التشويش على الجوامع الرئيسية المجاورة، والحفاظ على خشوع المصلين، والاكتفاء بالسماعات الداخلية للمساجد.
مسلسلات رمضان
ومع حلول شهر رمضان، بات الحديث عن الحفلات الغنائية المرتقبة والبرامج الترفيهية والمسلسلات التلفزيونية التي لم تخلُ من الهجوم على الإخوان المسلمين وتركيا وقطر ومحاربة كل ما هو إسلامي.
الجديد هذا العام هو دخول الدراما السعودية حالة تركيز كبيرة تختلف عما كانت عليه في السنوات الماضية، حيث تتنافس 4 قنوات فضائية على إنتاج 8 مسلسلات سعودية رئيسية تتمثل في قناة "MBC"، "روتانا خليجية" و"القناة السعودية" وقناة "SBC".
كما اشترى رئيس هيئة الترفيه السعودي تركي آل الشيخ، معظم إنتاجات الدراما الفنية المصرية هذا العام لاسيما المتعلقة بموسم رمضان، وتسويقها لصالح المملكة، كما عقد شراكات أيضا مع شركات إنتاج لبنانية كبيرة.
سلطان العبدلي المعارض السعودي، قال: إن "مسلسلات رمضان منذ فترة تناهز 30 عاما وهي تمارس بشكل ممنهج سياسة لا تحيد عنها بأمر من دوائر القرار في أجنحة النظام السعودي، بالإمعان في ممارسة أبشع صور تغريب المجتمع بقوة النار والمال ومن مليارات الشعب".
وأوضح في حديثه مع "الاستقلال" أن النظام السعودي يمارس تلك الهجمة الشرسة على أخلاق المجتمع لإلهائه عن قرارات مصيرية، وتمرير مشاريع تغريبية كثيرة، وتهوين قيمة شهر رمضان من خلال كمية المسلسلات الهائلة وما فيها من جرح عفة أكثر الناس انفتاحا.
وأكد العبدلي أن النظام السعودي موحد الأهداف منذ أنْ زرعته قوة المحتل في الجزيرة العربية ومستمر في تنفيذ مشاريعه الإستراتيجية بشتى الطرق، مشيرا إلى "هتك معنى رمضان في نفوس الأجيال".
تشويه الدعاة
يأتي رمضان هذا العام وعدد ليس بالقليل من دعاة الوسطية والإصلاح والصحوة الإسلامية مغيبون خلف القضبان في المملكة، فحرم المجتمع من علمهم ومحاضراتهم وندواتهم وبرامجهم التلفزيونية والإذاعية الدينية المتعلقة برمضان.
من أبرز هؤلاء المشايخ والدعاة المعتقلين في السعودية سلمان العودة، عبد العزيز الطريفي، عبد الله الحامد، عوض القرني، صالح الفوزان، سعود مختار، موسى القرني، مناور النوب، علي العمري، موسى الشريف، إبراهيم الناصر، علي بادحدح، فهد السنيدي، عبد المحسن الأحمد، خالد العجيمي، وليد الفتيحي وغيرهم.
لم تكتف السلطات باعتقال العلماء بل سعت لتشويه صورة من بقي منهم خارج المعتقلات وأجبرتهم على الكذب الفاضح ونفاق السلطة، وهو ما حدث في أول أيام رمضان 2019، خلال لقاء عائض القرني الداعية الإسلامي السعودي، مع الإعلامي عبد الله المديفر على فضائية "روتانا خليجية".
القرني الذي هاجم تركيا وقطر، وقدم اعتذاره عن كونه أحد مشايخ "الصحوة" الإسلامية مطلع ثمانينات القرن الماضي، أثارت تصريحاته حالة من الصدمة لدى محبيه، خاصة حديثه عن التزامه بالدعوة إلى الإسلام المنفتح الذي يدعو إليه ولي العهد محمد بن سلمان.
الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي الداعية السعودي، اعتبر تحجيم وتشويه صورة الدعاة "سياسة ممنهجة ومقصودة أعدت في كواليس "خلوة العزم" التي كان أستاذها وموجهها محمد بن زايد"، مشيرا إلى أن "خلخلة النسيج الاجتماعي في المملكة سياسة متبعة من قبل ولكن بأسلوب أكثر ذكاء وتأنيا من الأسلوب الراهن الذي يغلب عليه الكثير من العجلة والتسرع والطيش".
وانطلقت أعمال الخلوة المشتركة بين السعودية والإمارات تحت اسم "خلوة العزم"، في 21 فبراير/ شباط 2017 في أبوظبي، بمشاركة أكثر من 150 مسؤولاً حكومياً وعدد من الخبراء في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة في الدولتين.
وتأتي "خلوة العزم" كأولى أنشطة مجلس التنسيق السعودي الإماراتي، الذي أعلن عنه في مايو/ آيار 2016 في مدينة جدة، وشهد إعلانه العاهل السعودي الملك سلمان، ومحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
الغامدي لفت في حديثه مع "الاستقلال" إلى أن ناتج أعمال بن سلمان كلها "استرضاء للغرب من خلال مسخ قيم وهوية المجتمع السعودي، معتقدا هو ومن يوجهه أن هذا التصرف سوف يمكنه من تولي العرش إضافة إلى أعمال التصهين التي يقوم بها أو يدفعه أتباعه لها، حيث يقدم المجتمع المسلم على مذبح القربان للقوى الغربية".
هيئة الترفيه
مشروع التغريب في المملكة، تقوده هيئة الترفيه التي أعلنت الرياض إنشائها في مايو/أيار 2016، ضمن تنفيذ "رؤية 2030" التي أطلقها بن سلمان في 25 أبريل/نيسان 2016، حيث تستهدف الهيئة تحقيق 3% إلى 6% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
وتبلغ قيمة الاستثمارات في البنية التحتية الترفيهية خلال العشر سنوات القادمة 64 مليار دولار، كما أعلنت الهيئة نفسها عام 2018 أنها تهدف إلى تحويل المملكة إلى واحدة من أول 10 وجهات ترفيهية في العالم.
الهيئة أعلنت أول أيام رمضان الحالي، ارتفاع عدد المطاعم والمقاهي المرخص لها بالسعودية لتقديم نشاط "العروض الحية" إلى 132 مطعما، في كلٍّ من الرياض وجدة والخبر والدمام.
هذه العروض حسب مهتمين بالشأن السعودي قد تتضمن عروض رقص وإيحاءات لا تتوافق مع عادات المجتمع السعودي، مثل عزف الموسيقى والعروض الغنائية وألعاب الخفة والكوميديا.
وتشهد المملكة منذ أكثر من عام تغييرات مختلفة بدعم من بن سلمان، شملت الانفتاح على المرأة، والسماح لها بدخول الملاعب الرياضية، ودخول الحفلات المختلطة، وإقامة حفلات صاخبة أحياها مغنون وفرق موسيقية من دول غربية، بالإضافة إلى توسيع نطاق تغطية صالات السينما حول المملكة.
ويعد قطاع السينما الذي دخل إلى السوق السعودية مؤخرا من القطاعات المهمة لشركة "مشاريع الترفيه السعودية" بصفتها الذراع الاستثمارية لصندوق الاستثمارات العامة في قطاع الترفيه، وتعمل على إنشاء مشاريع ترفيهية متنوعة بمواصفات عالية.
ولأن بعض هذه التغييرات قد تكون مستحقة، اندلع صراع محتدم بين التيارين المحافظ والليبرالي، إذ يرى التيار المحافظ في تلك الأنشطة "تغريبا" و"مسخا" لهوية المجتمع السعودي المحافظ بطبعه، بينما دافع التيار الليبرالي بشدة عن الهيئة.
مخططات بن سلمان التي تنفذها هيئة الترفيه تصطدم مع عادات في المجتمع السعودي، وإرث فقهي يرى أن كثيرا مما تقدمه الهيئة لا يعبر عنه، وحسبما يرى محمد العتيبي المعارض السعودي، فإن هيئة الترفيه تحاول سلخ المجتمع السعودي من تحفظه على مبادئه باستضافة العديد من الوفود الغربية سواء كانت أكاديمية أو ثقافية أو فنية، محملةً بأفكار تخدم أجندة هدفها إخراج المجتمع من قوميته العربية والإسلامية لكي تمرر مصالح حلفائه.
العتيبي قال لـ"الاستقلال" أن "بن سلمان بدأ مخططه باستهداف الشباب السعودي، وسيطر على الرأي العام إعلامياً ووظف المثقفين والسياسيين لتمرير أفكار التغريب وخدمة توجهاته؛ التي تتفق مع توجهات صديقه جاريد كوشنر المستثمر اليهودي وصهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
العتيبي أشار إلى أن "بن سلمان سيطر أيضا على الفتوى بدعم بعض ما يسمونهم علماء السلطان يخدمونه بتوفير الفتوى عندما تقتضي الحاجة؛ لكبح ردة فعل المجتمع ودعمهم إعلامياً وإظهارهم في القنوات المحسوبة على النظام السعودي".
تهيئة للتطبيع
في سبتمبر/أيلول 2017، وبعد ثلاثة أشهر من تنصيب بن سلمان وليا للعهد، تحدث المغرد السعودي مجتهد المطّلع على خفايا السياسة بالمملكة، عن خطة مصرية سعودية إماراتية إسرائيلية لتغيير سياسي ثقافي ديني إعلامي في المملكة وكافة الخليج كتهيئة لتطبيع أبدي وكامل مع إسرائيل، أثبتت الأحداث المتلاحقة أنها تطبق بتفاصيلها.
"مجتهد" كشف حينها أن الترتيب بين الإمارات ومصر والسعودية والبحرين أوسع مما نظن وأن القضية دخلت فيها إسرائيل وأجهزة أمريكية مرتبطة بترمب، مؤكدا أن الخطة متكاملة مبنية على توحيد السياسة الأمنية والإعلامية والثقافية والتربوية (والتعامل مع الدين) في مصر وكل دول الخليج باستثناء عمان.
وحسب الخطة، تكون مصر هي المرجع ومزود الكوادر في التعامل مع الإعلام والأمن والتيارات الإسلامية ومناهج التعليم والمؤسسات الدينية، وتهدف إلى إبعاد أي تأثير سياسي أو ثقافي أو تربوي أو مالي للدين في شعوب المملكة والخليج ومصر كتهيئة لتطبيع أبدي وكامل مع إسرائيل.
تغريدات عن خطة مصرية سعودية إماراتية إسرائيلية لتغيير سياسي ثقافي ديني إعلامي في المملكة وكافة الخليج
— مجتهد (@mujtahidd) September 16, 2017
وأشار "مجتهد" إلى أن الترتيب كان قد بدأ قبل استلام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بين السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل ولم يدخل أوباما بسبب توجسه من هذا الفريق وقلقه من تهور بن سلمان.
ولفت إلى أن ترامب بعد استلامه الرئاسة الأمريكية دعم الخطة بكل قوته وتحمس لكلٍ من بن سلمان، وبن زايد، في استثمار وجوده وهذا ما جعل الأجزاء الهامة في الخطة تنفذ بعد استلامه.
وأكد "مجتهد" أن مشروع التغريب وتحجيم الهيئات وتغيير المناهج وتجميد النشاطات الدينية واعتقال المشايخ الذي سيشمل المئات يأتي في سياق هذه الخطة، موضحا أن حماس بن سلمان جاء بسبب تعهد إسرائيل له بضمان تطويع ترامب له وإيصاله للعرش ومن ثم ضمان نجاحه في تحييد بقية الأسرة.
وحين فضح المغرد السعودي هذه الخطة في 2017، أفاد بأن من ضمن ما تم تنفيذه منها استخدام الإعلام ووسائل التواصل لتغيير الذوق الشعبي ضد الإسلام عموما والإسلام السياسي خصوصا وتقبل إسرائيل كدولة شقيقة.
المصادر
- هيئة الترفيه السعودية: رقص وموسيقى لتغطية القتل والقمع
- الإنتاج الدرامي العربي المشترك: سوق المتفرج
- حفلات غنائية وجولات مصارعة.. السعودية تفتح أبوابها للتنمية الاجتماعية
- الترفيه السعودية ترخص لـ132 مطعما ومقهى لتقديم العروض الحية
- الترفيه السعودية توقع اتفاقية لتوسيع نطاق صالات السينما
- القره داغي: حفلات الترفيه السعودية فجور وإسلام آخر
- 4 قنوات فضائية تتقاسم 8 أعمال درامية سعودية لرمضان 2019
- العاصوف يقتحم معسكر الإخوان مبكرًا