بعد عقود من الحكم.. هل يحلّ الجزائريون "جبهة التحرير"؟

12

طباعة

مشاركة

"نطلب الصفح من فخامة الشعب الجزائري"، بهذه العبارات حاول الأمين العام الجديد لحزب جبهة "التحرير الوطني" الحاكم في الجزائر محمد جميعي، الاعتذار من الشعب الجزائري عن ما أسماه "كل تقصير أو تصرف طائش أو تصريح غير مسؤول". بعد حراك شعبي اجتاح البلاد.

ووعد جميعي بأن يأخذ الحزب العبرة من كل "أخطائه السابقة"، وكأنّ الجواب يأتي من وسط المسيرات العارمة التي تجوب الجزائر من شرقها لغربها لتقول له "هل الآن؟".

و أعلن في 22 يونيو/حزيران 1954 عن تشكيل "جبهة التحرير الوطني" وجناحها المسلح جيش التحرير الوطني، التي تسلمت مقاليد السلطة في الجزائر عند استقلال البلاد عام 1962، وظلت تحتكر السلطة والعمل السياسي حتى إعلان التعددية الحزبية في الجزائر في فبراير/شباط 1989 بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، ولتخسر أوّل انتخابات تخوضها، والتي فازت فيها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بقيادة الراحل عباسي مدني.

وبعد الحراك الشعبي المستمر منذ 22 فبراير /شباط 2019 ، والذي أدّى إلى تنحّي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن السلطة، يحمّل الجزائريّون الحزب النتائج التي وصلت إليها البلاد بعد قرابة 50 عاما من حكمه.

من النضال إلى الاستبداد

في مشهد كرنفالي حشد له المئات من أنضار وقيادات حزب "جبهة التحرير" في الجزائر، خرج القيادي في الحزب معاذ بوشارب ليعلن أنّ الجبهة اختارت الرئيس المقعد والغائب منذ أشهر عن المشهد الإعلامي عبد العزيز بوتفليقة كمرشح له في الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في 18 أبريل/ نيسان 2019، في محاولة لمواصلة الحكم بعد 20 عاما من رئاسته للبلاد.

وكان بوتفليقة قد ترشح للانتخابات الرئاسية في عام 1999 بصفته مستقلا قبل أن يعلن عن انضمامه لحزب "جبهة التحرير" وترأسه له، ليواصل الحزب عبره قيادة البلاد التي بدأها في 1962 بعد استقلال البلاد.

ويعتبر الحزب الوريث لـ"جبهة التحرير الوطني" وجناحها المسلّح جيش التحرير الشعبي، الذي قاد ثورة تحرير الجزائر من الإستعمار الفرنسي بعد بيان الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1954، والذي حمل طموحات الجزائريين في التحرر  وتحقيق سيادتهم الفعلية على أرضهم، وضمان حقّهم في تقرير مصيرهم واختيار من يحكمهم.

لكنّ الجزائر لم تشذ عن مثيلاتها من الدول العربية التي استبدلت الاستعمار بنظام استبدادي قمعي رافض لكلّ أشكال الاختلاف والتعددية، ورافضا للممارسة الديمقراطية دعمه في ذلك وصول العسكر إلى السلطة بعد انقلاب  19 حزيران/ يونيو 1965 والذي أنهى حكم الرئيس أحمد بن بلّة، وأوصل هوّاري بومدين إلى سدّة الحكم.

يقول الأكاديمي التونسي المنصف وناس، في كتابه "الدولة والمسألة الثقافية في المغرب العربي"، إن "الدولة الوطنية التي طالما حلم بها الجزائريون لم تكن تلك المعجزة المنتظرة، ربما كانت أقل حتى من الطموح الشعبي، فنموذج هذه الدولة التي تولّدت من ثورات الجزائريين وتضحياتهم كان زهيدا ومخيبا للآمال بسبب ما صحبه من سلوكيات بالغة القسوة والفظاظة، وسرعان ما جاء الاستبداد من جديد، من الثورة إلى الدولة".

ويعتبر سجل الجزائر في حقوق الإنسان من أسوء السجلات الحقوقية في المنطقة في مختلف الفترات التي عاشتها البلاد وتناوب عدد من الرؤساء على حكم البلاد، وخاصّة في الفترة التي باتت تعرف بالعشرية السوداء والتي تلت إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية في العام 1991، وانطلاق الصراع المسلّح بين الجماعات المسلّحة والنظام الجزائري.

التعدّدية الصورية

لم يغيّر إقرار التعددية السياسية في الجزائر شيئا من هيمنة حزب "جبهة التحرير الوطني" على مقاليد الحكم، فكان الفائز الأكبر في كل جولات الانتخابات المنظمة لاحقا سواء أكانت بلديات أم تشريعيات أم رئاسيات، باستثناء الانتخابات التشريعية نهاية عام 1991 التي اكتسح التيار الإسلامي بزعامة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" نتائج دورتها الأولى، فألغى الجيش نتائجها ومنع تنظيم دروتها الثانية.

فجميع الانتخابات التي شهدتها البلاد منذ عام 1994 وفازت بها الجبهة، تتهمها المعارضة بالتزوير ، حيث أكّد الوالي  (محافظ) السابق بشير فريك، أن "الولاة (المحافظين) والهيئات الإدارية قاموا بكل شيء من أجل فوز الرئيس السابق ليامين زروال إلى سدة الحكم عام 1995".

وأضاف فريك في برنامج تلفزيوني لقناة "الشروق" المحلية، أن  "رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس اتصل بي عندما كنت واليا على ولاية عنابة (شرقي الجزائر)، وطلب مني المساعدة لفوز الرئيس بوتفليقة بانتخابات الرئاسة عام 1999". وكان بن فليس حينها مديرا لحملة عبدالعزيز بوتفليقة، قبل أن يعينه مديراً لديوانه برئاسة الجهورية.

وقال الوالي السابق، إن "الحكومة كانت تقنع الولاة والمسؤولين، أن تزوير الانتخابات حينها مصلحة وطنية يقتضيها صالح البلاد".

هذا الوضع الذي عاشته الجزائر تحت قيادة الحزب الحاكم استمرّ إلى حدود انطلاق الحراك الشعبي الذي أجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة، إلاّ أن السنوات الأخيرة كشفت عن صراعات في داخل أجنحة السلطة أطلت برأسها في داخل "الأفلان" ( مختصر تسمية الحزب بالفرنسية).

وبعد استقالة القيادي في الحزب ورئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس ودخوله في منافسة مع الرئيس بوتفليقة في انتخابات العام 2004، هذه المنافسة التي حسمت بفوز بوتفليقة بالرئاسة وقبلها بالسيطرة على الحزب وتطويعه في خدمة أجندته في الحكم، حيث فتح بوتفليقة واجهات من الصراعات مع عدد من الجنرالات في الجيش والمخابرات.

ورغم النجاحات التي حققها بوتفليقة وفريقه في السيطرة على مفاصل الدولة وإدارته للعبة السياسية في البلاد بنجاح، مكّنه من إزاحة خصومه عن مناصبهم، إلا أن الجلطة الدماغية التي فاجأته وتسببت في إقعاده عن الحركة وإسكاته عن الكلام فتحت صراعا جديدا حول خلافته أو استمراره في الحكم.

هذه الصراعات التي أطاحت بعدد من أمنائه العامين ابتداء بعبد العزيز بلخادم مرورا بعمار سعيداني وصولا إلى الأمين العام المثير للجدل جمال ولد عباس، إلا أن سيطرة محيط الرئيس بوتفليقة وخاصّة شقيقة السعيد حسمت القرار بترشيحه لولاية رئاسية خامسة، وفجّرت موجة احتجاجات غير مسبوقة .

على خطى مصر وتونس

هذه الاحتجاجات التي انطلقت في البداية رافضة لترشيح الرئيس المقعد عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، ارتفع سقف مطالبها بالدعوة إلى إسقاط النظام الحاكم في الجزائر منذ عقود وإرساء انتقال ديمقراطي حقيقي يعيد السيادة للشعب عبر انتخابات حرّة ونزيهة، وهو ما يعتبره عدد واسع من الناشطين يتعارض مع وجود حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم باعتباره أحد الأحزاب التي أجرمت في حق الجزائريين.

وقال المعارض الجزائري والقيادي في حركة "رشاد" في حديث لـ"الاستقلال" إن "مطالبنا في الحراك وهدفنا هو إسقاط الأحزاب الحاكمة الأربع وحلّها، وهي حزب جبهة التحرير، والتجمع الوطني الديمقراطي، والحركة الشعبية الجزائرية، وتجمع أمل الجزائر، وأنا دعيت منذ انطلاق الانتفاضة إلى حل هذه الأحزاب باعتبارها جزء من العصابة وهي أحزاب إجرامية، وفي النهاية هذه الأحزاب ستسقط".

ودعت "المنظمة الوطنية للمجاهدين" (قدماء المحاربين في الثورة التحريرية الجزائرية1954-1962)، إلى التمييز بين حزب "جبهة التحرير الوطني"، باعتباره الحزب الحاكم في البلاد، والذي أصبح "عنوانا للفساد" وبين "جبهة التحرير الوطني" التي قادت الشعب الجزائري إلى التحرير وتحقيق النصر على الاستعمار.

ونشرت المنظمة بيانا قالت فيه: "إنّ الحزب أصبح اليوم عنوانا لكل مظاهر الفساد، مما جعل الجماهير تطالب برحيله، وهو ما يؤكد أن الحزب تم استغلاله كمطية للتداول على الحكم طوال نصف قرن".

وطالبت المنظمة، التي تضم كبار قيادات وقدماء ثورة التحرير، وانضمت مبكرا إلى الحراك الشعبي، بـ"تحرير جبهة التحرير الوطني وإنزالها المكانة التي تستحقها، ومنع توظيفها من أي جهة كانت، باعتبارها تراثا تاريخيا مشتركا لكل أبناء الشعب المخلصين".

ودعت إلى الاستجابة لـ"مطالب هذا الحراك الشعبي القائم، الذي لا يعبر فقط عن مطالب وطنية مشروعة، بقدر ما هو استفتاء شعبي يعكس المطامح العميقة التي يتوجب على جميع الشرائح مواصلة العمل من أجل تجسيدها".

وبدت هذه الدعوات مشابهة للدعوات التي أطلقت في عدد من بلدان الثورات العربية منذ  2011، والتي تمكّنت فيها الشعوب من فرض حلّ الأحزاب الحاكمة على غرار حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" في تونس والذي حكم البلاد منذ الاستقلال في العام 1956، أو كذلك الحزب الوطني في مصر الذي أسسه الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1978 .

لكن يبدو أنّ محاولات الجبهاويين لترميم حزبهم وإعادة تسويقه كفاعل سياسي في المشهد الجزائري ما بعد بوتفليقة لم تنته بعد، فعقِب إعلان الحزب عن دعمه لمطالب الحراك الشعبي، اتجه إلى تنظيم انتخابات داخلية من أجل اختيار قيادة شرعية، إلا أنّ هذه الخطوة يبدو أنّها زادت من تفاقم الأزمات الحاصلة داخل الحزب، وهو ما يزيد الغموض حول مستقبل الحزب.