أبرز المحطات.. هل تدير مرجعية السيستاني العملية السياسية بالعراق؟
لعبت المرجعة الدينية الشيعية في العراق، دورا رئيسيا في العملية السياسية التي أعقبت الغزو الأمريكي للبلد عام 2003، وربما يشكل المرجع الأعلى للشيعة علي السيستاني وحده "مجلسا دستوريا قائما بذاته"، وفقا لوصف صحيفة "لوموند" الفرنسية.
وعلى الرغم من قلة التصريحات السياسية التي تخرج عن المرجعية الشيعية، إلا أنها كانت لها قرارات مفصلية في محطات مهمة على المستوى السياسي والأمني في العراق.
صمت محيّر
سادت الضبابية موقف المرجعية الشيعية من العزو الأمريكي عام 2003، فرغم حديث البعض عن وجود فتوى لمراجع النجف ترفض الحرب على العراق، إلا أن آخرون يؤكدون أنها كانت بضغط من نظام صدام حسين.
لكن عاصفة الأحداث الذي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق، أثارت تساؤلات عن أسباب صمت المرجع الأكبر للشيعة بالعراق علي السيستاني عن ممارسات الجنود الأمريكيين وقتلهم واعتقالهم للعراقيين.
ويزداد هذا الصمت إثارة بعد قيام قوات الاحتلال بقتل العشرات من "جيش المهدي" (فيصل مسلح يتبع مقتدى الصدر) في النجف والعمليات العسكرية في كربلاء وغيرها من مناطق الشيعة التي اعتبرها السيستاني نفسه خطا أحمر.
وفي حديث لموقع "الجزيرة نت" نشر عام 2004، قال الشيخ عبد الهادي الدراجي مدير مكتب مقتدى الصدر، إن "ممارسات الاحتلال تستوجب من جميع علماء الحوزة العلمية والمراجع الدينية الإدانة الكاملة".
وأعرب الدراجي عن دهشته من صمت السيستاني وتساءل "متى يظهر صوته إن لم يفعل الآن، فإذا كان غير الإسلاميين أدانوا بوضوح ممارسات الاحتلال، أليس من الأجدر بالمراجع الدينية الكبرى أن تفعل الشيء نفسه وهو أضعف الإيمان".
وأضاف الدراجي أن التيار الذي يعبر عنه لا يتفهم أبدا سبب صمت السيستاني المطبق، بل أكد أنهم يدينون هذا الصمت ويعتبرونه شكلا من أشكال مشاركة الاحتلال في الجرم.
يفسر أنصار السيستاني لزومه الصمت بأن الظرف المعقد الذي تعيشه البلاد لا يسمح للمرجعية العليا المسؤولة عن مصير الأمة بأكثر من ذلك "ويقتضي منها أن تكون أكثر حكمة وتعقلا".
أما خصومه فيرون أن اتخاذ موقف بالإدانة وإحراج الأمريكيين لا يجافي الحكمة في شيء، وأن المسؤولية تقتضي فعل ذلك، ويذهبون أبعد من ذلك ليؤكدوا أن السيستاني وضع في هذا المقام "كي يصمت في المواقف الحرجة".
وما زاد الشكوك أكثر، تزامن خروج السيستاني من العراق مع المعارك الجارية في النجف بين الأمريكان و"جيش المهدي"، إذ أدخل في أكتوبر/ تشرين الأول 2004، إلى إحدى مستشفيات العاصمة البريطانية لندن لإجراء فحوص طبية، حسبما أفاد بيان صادر عن مكتبه.
ورفضت المصادر المقربة من المرجع الشيعي الكشف عن اسم المستشفى الذي يعالج به، وأكدت أنه كان يقيم بمنزل خاص للراحة ولكن الأطباء قرروا نقله للمستشفى لاستكمال الفحوص. كانت هذه المرة الأولى التي يغادر فيها السيستاني العراق منذ عام 1988.
دعم المحاصصة
لم يدم صمت المرجعية الشيعية طويلا، فقد دعم المرجع السيستاني إجراء أول انتخابات برلمانية عام 2005، وإعلان تأييده الصريح لقائمة "الائتلاف الوطني العراقي" الممثلة للمكون الشيعي.
وأفرزت هذه الانتخابات ما بات يعرف في العراق بـ"المحاصصة الطائفية"، في ظل مقاطعة المكون السني للانتخابات جراء الهجمات الأمريكية على مدينة الفلوجة غرب البلاد.
ونقلت وكالة "مهر" الإيرانية" في يناير/أيار 2005، عن الشيخ ناجح العبودي أحد ممثلي السيستاني، قوله إن "السيستاني يدعم لائحة الائتلاف العراقي الموحد، التي يتزعمها عبد العزيز الحكيم".
وفي ختام اعمال مؤتمر في مدينة الديوانية، شاركت فيه 1500 شخصية دينية وشيوخ عشائر لبحث الانتخابات العراقية، قال العبودي، إن "السيستاني يؤكد إجراء الانتخابات في موعدها ويقرر دعم القائمة 169 (الائتلاف العراقي الموحد)".
وأشار العبودي إلى أن "دعم السيستاني لهذه القائمة جاء بسبب ما تحمله من صفة الاسلام ولوجود شخصيات يمكنها قيادة البلاد نحو الافضل"، لافتا إلى أن "السيستاني أراد في ذلك أن يحفظ سمة الإسلام وهو يرفض تأجيل الانتخابات".
وعن أسباب دعمه الصريح لهذه القائمة، أوضح العبودي: "عندما وجدت المرجعية، أن بقية القوائم تستفيد من التلفزيونات والصحف وبعض الوسائل الإعلامية الدولية لدعايتها الانتخابية دعا السيستاني إلى دعم هذه القائمة بهذا الوضوح".
ورأى العبودي، أن "المرجع السيستاني يدعم القائمة لما تحمله من صفات تتمثل في مشاركة شخصيات يمكنها قيادة البلاد نحو الافضل".
وتعتبر القوى الشيعية التالية من أهم مكونات الائتلاف المدعوم من المرجعية: "المجلس الإسلامي الأعلى، منظمة بدر، التيار الصدري، حزب الفضيلة، حزب الدعوة-القيادة المركزية، حزب الدعوة-تنظيم العراق، تجمع المستقلين".
وقد وضعت منذ انطلاق الحملة الانتخابية ملصقات ولوحات إعلانية في الشوارع تحمل صورة المرجع السيستاني، إذ وزعت منشورات في المدن تؤكد أن التصويت للائتلاف هو استجابة لتكليف المرجعية الشيعية.
الحرب الأهلية
وأعقب الانتخابات المبنية على المحاصصة الطائفية، انطلاق أول شرارة للحرب الأهلية التي اندلعت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين بمدينة سامراء في فبراير/ شباط 2006.
وأصدر المرجع الشيعي علي السيستاني بيانا، دعا فيه إلى احتجاجات واسعة ردا على انفجار عنيف دمر القبة الذهبية لضريح الإمام علي الهادي (عاشر الأئمة المعصومين لدى الشيعة).
ودعا بيان السيستاني إلى إعلان الحداد سبعة أيام بعد تدمير المزار الذي يضم ضريحي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء ذات الأغلبية السنية.
وتجمع الآلاف من الشيعة حول الضريح الشيعي الذي تقصده أعداد كبيرة من الزوار القادمين من إيران، ورددوا هتافات منددة بالتفجير الذي وقع باستخدام عبوة ناسفة.
لكن هذه الاحتجاجات سرعان ما خرجت عن السيطرة، بعدما أقدمت مليشيات شيعية على حرقت وهدم مساجد أهل السنة في بغداد وديالى والبصرة ومدن أخرى تقطنها مكونات سنية وشيعية.
وشهد العراق بعد تفجيرات سامراء، صراعات طائفية وتصدعات اجتماعية مزقت جسد العراق وانعكست سلبا على مستوى الاستقرار المحلي ووحدة النسيج العام.
ولعل أخطر ما مر به العراق في تاريخه على الإطلاق هي ظاهرة الانقسام الطائفي والعرقي التي بدأت تستشري في المجتمع العراقي بعد الاحتلال وبلغت أوجها بعد تفجيرات سامراء.
وحسبما ذكرت تقارير، فإن أكثر من 200 مسجد سني أحرق، وقتل الآلاف من أهل السنة بواسطة ميليشيات طائفية عقب تفجيرات سامراء، وسط صمت المرجعية الشيعية.
الجهاد "الكفائي"
ومن أبرز محطات العراق، اجتياح تنظيم الدولة لثلث مساحة البلاد في حزيران/ يونيو 2014، بعد تظاهرات استمرت لمدة عام في المحافظات ذات الغالبية السنية ضد السياسات التعسفية لرئيس الوزراء الأسبق نور المالكي.
وعلى الرغم من، إغلاق السيستاني لأبوابه في فبراير/ شباط 2011 أمام السياسيين تعبيرا عن رفضها للفساد المستشري في البلد، إلا أن اجتياح التنظيم زج بالسيستاني في أتون مواجهة مدفوعا لضغط الشارع الشيعي ليعلن "الجهاد الكفائي" ضد التنظيم.
ودفع ذلك عشرات الآلاف للتطوع في تشكيل "الحشد الشعبي"، إذ اتخذت الفتوى غطاء لتمكين المليشيات الحزبية على حساب الجيش الحكومي.
وعلى الرغم من إعلان النصر على تنظيم الدولة في العراق عام 2017، إلا أن فصائل الحشد الشعبي لم تحلّ، وبقي السلاح منتشرا في جميع المحافظات العراقية.
وبعد مطالبات المرجعية الشيعية للقوى السياسية والحكومة بحصر السلاح بيد الدولة، أقر البرلمان العراقي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قانونا يعتبر "الحشد" جهازا أمنيا رسميا ضمن القوات المسلحة الرسمية.
لكن القرار جرى تمريره في البرلمان وسط مقاطعة نواب تحالف القوى العراقية السني الذي عدّ إقرار البرلمان قانون الحشد الشعبي "نسفا للشراكة الوطنية".
تشكيل الحكومات
ظلت المرجعية الدينية الشيعية في العراق، تمثل القرار الأخير في الموافقة على الشخصيات التي ترأست الحكومات المتعاقبة منذ انتخابات 2005.
أقصي رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بعد الانتخابات العامة في 2014، بعد ولايتين من الحكم، وتسلم حيدر العبادي رئاسة الحكومة بدعم من المرجعية الشيعية.
وكشف العبادي في أكثر من مناسبة، أن مجيئه إلى رئاسة الحكومة العراقية كان بضوء أخضر من المرجعية الدينية، بعد رفضها إعادة تنصيب المالكي لولاية ثالثة.
وفي مقابلة تلفزيونية، قال العبادي إن "المرجعية الدينية العليا في النجف، وبالذات المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، طلب في رسالة موقعة باسمه وختمه، تغيير رئيس الوزراء، وهو ما حصل للمرة الأولى في مثل هذه الحالة، وأدى إلى تكليفي هذا المنصب".
وأضاف، أن "الملفات التي كان عليّ مواجهتها بطلب من المرجعية، هي احتلال داعش خمس محافظات من البلاد، والانهيار الاقتصادي بسبب انخفاض أسعار النفط، ومسألة التقسيم الطائفي والعرقي للبلاد، وبالتالي كانت مهمتي بمثابة درء المفاسد لأجلب المنافع".
ومع انتهاء حكومة العبادي، كلف عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة العراقية في أكتوبر/تشرين الأول 2018، بدعم أيضا من المرجعية الدينية في النجف.
فجّر القيادي السابق في التيار الصدري، بهاء الأعرجي، في فبراير/شباط الماضي، مفاجأة بخصوص الشخص الذي اختار عادل عبد المهدي وفرضه على القوى السياسية رئيسا للحكومة العراقية.
وقال نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، في تصريح لصحيفة "القدس العربي" إن "رئيس الحكومة عادل عبد المهدي كان خيار المرجعية، وتحديدا خيار محمد رضا السيستاني (نجل رجل الدين الشيعي البارز علي السيستاني)، وفُرض على الكتل".
وأضاف أن "عبد المهدي هو خيار جيد كونه رجل دولة ولديه عقلية اقتصادية ومالية، لكن لو طرح نفسه لمنصب رئيس الوزراء، فهل كان سيقبل تحالف الإصلاح أو تحالف البناء به؟ إنه جاء بفرض".
وعلى حد قول الأعرجي، فإن عبد المهدي "زاهد بالسلطة، لكن لديه مشروع يسعى لإكماله، غير أن هذا المشروع لن يُنفذ إذا لم تتعاون معه الكتل السياسية، وخصوصا الشيعية. ولن تتعاون معه".
ولفت السياسي العراقي إلى أن "الكتلة التي تدعم عبد المهدي بشكل واضح وصريح هي (سائرون)، لكن إذا جاء الصيف ولم يتم حل أزمة الكهرباء، فسيكون أمره مماثلا للعبادي أو ربما أكثر".
وكان النائب السابق في البرلمان العراقي رحيم الدراجي، قد كشف في تصريح تلفزيوني، أن عبد المهدي جرى اختياره قبل ثلاثة أشهر من إجراء الانتخابات العامة في أيار/ مايو 2018، وأدخل إلى المنطقة الخضراء ووضعت له حماية دون علم العبادي نفسه.
وذكر أن "النجف" (في إشارة إلى المرجعية الدينية التي يرأسها السيستاني) هي التي اختارت عبد المهدي لرئاسة الحكومة العراقية.
الدور الخفي
وفي يناير/كانون الثاني 2017، نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، تقريرا سلطت من خلاله الضوء على المرجع الشيعي المقيم بمدينة النجف العراقية، علي السيستاني ودوره السياسي في البلد.
وقالت الصحيفة، إن "الرمز الشيعي البالغ من العمر 86 سنة، يعتبر وصيا على السياسة العراقية"، لافتة إلى أن الحكومات المتعاقبة على بغداد "تنحني إجلالا لخطابات الرجل قليل الكلام، الذي طالما انتقد فساد وانحلال وعجز النظام العراقي".
وقالت إن السيستاني "لم ينشر أي عمل، أو يلق أية خطابات سياسية"، مضيفة أنه "على الرغم من أنه ينشط في الخفاء؛ إلا أنه حظي بمتابعة رجال الدين الشيعة، وتحديدا مراجع التقليد المتكونة من حوالي 50 عالما شرعيا؛ مهمتهم استنباط الأحكام الشرعية من القرآن".
وفي هذا الصدد؛ نقلت الصحيفة عن طالب الدكتوراه في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، روبن بومونت، قوله إن "السيستاني وحده مجلس دستوري قائم بذاته".
المصادر
- صمت السيستاني يحير العراقيين ويريح الاحتلال
- آية الله السيستاني يؤكد دعمه لقائمة الائتلاف العراقي الموحد في الانتخابات
- الائتلاف العراقي الموحد تهدده الاختلافات السياسية والمصالح
- السيستاني ينقل إلى مستشفى في لندن
- فتوى السيستاني بخصوص الاحتجاجات عقب تفجيرات سامراء
- استمرار تداعيات تفجير قبة العسكريين في "سامراء"
- بهاء الأعرجي: نجل السيستاني فرض عبد المهدي رئيساً للحكومة العراقية
- لوموند: الدور الخفي لعلي السيستاني في الساحة العراقية