كيف زاد المأزق السوري من برودة العلاقات الأمريكية التركية؟
قال الباحث في جامعة أكسفورد المشارك في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، جاليب دالاي، إنّ الولايات المتحدة وتركيا أصبحتا غير متوافقتين جيوسياسياً، منذ وقت طويل، وإن شراكتهم التي نشأت خلال الحرب الباردة لم تعد تعمل.
وشرح الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأدنى، رأيه في مقال نشره موقع المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية "IFRI". إذ اعتبر أن "القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا؛ أدى إلى سباق للسيطرة على شمال شرق البلاد".
"قدّمت كل الجهات الفاعلة المختلفة رؤيتها، ولكن الخيار الأكثر مناقشة اليوم هو الاتفاق التركي-الأمريكي للمنطقة"، بحسب الباحث، الذي تابع: "ويتمثل الهدف الإستراتيجي لأنقرة في الحد من المكتسبات الإقليمية، وإضعاف الهيكل الإداري للقوى الديمقراطية السورية [التحالف العربي الكردي – ومعظمه في أيدي وحدات حماية الشعب (الأكراد)]".
ومع ذلك، رأى الباحث أن "هذه الإستراتيجية تفي بالأهداف التي وضعتها واشنطن للانسحاب منها، وهي مواصلة الكفاح ضد تنظيم الدولة؛ لحماية الجماعات الكردية المتحالفة وعرقلة النفوذ الإيراني في سوريا".
الريبة بين تركيا والولايات المتحدة تتزايد
وفي الواقع، قال دالاي: إن "التنافر الإستراتيجي وعدم التوافق الجغرافي السياسي كانا السمتين المهيمنتين على العلاقات الأمريكية-التركية في سوريا. وتباعدت الرؤى والأهداف والتصورات الخاصة بالتهديدات لكلا البلدين، كانا يشكان في التحالفات الإقليمية الخاصة بهما، معتمدة على الروابط العضوية لوحدات حماية الشعب "ي ب ج" مع حزب العمال الكردستاني "ب ك ك".
وأوضح المقال أن "تركيا اتهمت الولايات المتحدة بأنها متحالفة مع فروع لمنظمات إرهابية. وأكد المبعوث الأمريكي السابق للتحالف المناهض لتنظيم الدولة، بريت ماكغورك، مؤخراً، أن جماعات المعارضة السورية المتحالفة مع تركيا مليئة بالمتطرفين. ويبدو هذا الموقف، أكثر من مجرد رأي شخصي، فهو ذائع في الدوائر الأمنية والدبلوماسية في الولايات المتحدة".
واعتبر الباحث أن تأثير الأزمة السورية على العلاقات الأمريكية-التركية، انضافت إلى العدد المتزايد للأزمات التي لم تحل بين البلدين. ولا يرى دالاي أن الأزمة هي السبب الوحيد لتدهور علاقات البلدين. قبل أن يزيد، "ربما تكون الأزمة السورية سببا، لكن هناك أعراض أزمة أعمق في العلاقات بين أنقرة وواشنطن".
ويعتقد دالاي أن "الانفصال الإستراتيجي وعدم التوافق الجيوسياسي بين البلدين حقيقي، وأنه يتطور منذ مدة. وأن الإطار الذي حددته الدولتان لعلاقاتهما خلال الحرب الباردة أصبح عاجزا عن القيام بدوره؛ لذلك تحتاج كل من الدولتين إلى تطوير إطار جديد ليحل محل الإطار القديم".
وأفاد المقال الذي ترجمته صحيفة "الاستقلال"، أنّ "الريبة المؤسساتية بين تركيا والولايات المتحدة تتزايد. وقد كان هذا واضحا في المناقشات المتعلقة بإنشاء منطقة آمنة في سوريا. وعلى عكس العلاقات الشخصية بين الرئيسين أردوغان وترامب، التي تبدو ودية وفي تحسن، فإنّ الفجوة بين الإدارتين لا تزال عميقة".
ورأى الباحث أنّ "الخبر السار بالنسبة للأتراك، هو أنه مع كل تعيين لحكومة جديدة، فإنّ الفجوة بين ترامب والإدارة الأمريكية تمتلئ". الجانب الآخر، بحسب دالاي، "هو أن ترامب يبدو أنه يتحرك على دوافعه وغرائزه، بدلاً من الآراء السياسية المدروسة بعناية: دبلوماسيته المستندة على التغاضي تخضع للتغيير الدائم".
تحالفات تركيا المرنة
ولمواجهة هذا الوضع، دأبت تركيا على إقامة تحالفات مرنة منذ بضع سنوات، وبحسب المقال، فإنّ علاقاتها مع روسيا وإيران مثال على ذلك.
وأضاف المتخصص في شؤون تركيا والشرق الأوسط، أنه "منذ التعاون في إطار اتفاقيتي أستانا وسوتشي بشأن سوريا حتى شراء الصواريخ الروسية "س 400" من قبل أنقرة، هناك دائماً في التقارب بين روسيا وتركيا شريك ثالث غير مرئي. الولايات المتحدة، هي التي تحدد طبيعة ونوعية هذه التقارب".
وبنفس الطريقة، قال دالاي: "من المحتمل أن تكون موسكو، من الآن فصاعداً، في أي تفاعل بين الولايات الأمريكية وتركيا بشأن سوريا، الشريك الثالث غير المرئي الذي يحدد ظروف هذه التفاعلات وحدودها وحتى تشكيل مسارها".
"ومع ذلك، يبدو الحوار الذي بدأه ترامب مع تركيا حول إقامة منطقة آمنة، أشبه بعملية أكثر من كونه صفقة. ومن المحتمل أن تتأثر هذه العملية بالإدارة الأمريكية، التي لا تريد الانسحاب السريع والمرتجل، وبالحسابات الجيوسياسية ولا سيما الروسية لشركاء الأتراك في إطار اتفاقات أستانا، وأيضا بالمحادثات الجارية بين أكراد سوريا ونظام دمشق"، بحسب المقال.
وأكد الباحث على ضرورة "أن توضح هذه العملية أولا طبيعة المنطقة الآمنة، وتحدد أهدافها وآليات التشغيل، وتقترح رؤية سياسية لشمال شرق سوريا". وأضاف: "ستكشف هذه التوضيحات عن طبيعة رفض أو قبول مبدأ المنطقة الآمنة. وفيما يتعلق بأهداف المنطقة، يبدو أن توقعات مختلف الجهات الفاعلة متباينة على الأقل. فبالنسبة للقوات الديمقراطية السورية، يجب على المنطقة الآمنة أولا وقبل كل شيء أن تحميها من تركيا، وبالتالي تسمح لها بتوسيع هياكلها الإدارية والأمنية في شمال شرق سوريا".
أما بالنسبة لأنقرة، يقول الباحث، إن "المنطقة الآمنة وسيلة لمكافحة وحدات حماية الشعب الكردية، وإضعاف الهياكل الإدارية للمناطق التي تسيطر عليها القوات الديمقراطية السورية". وبالنسبة لواشنطن، يواصل صاحب المقال: "ستكون هذه طريقة لإيجاد تعايش بين الأتراك والقوات الديمقراطية، ولضمان ألا تشغل روسيا وإيران والنظام المساحة التي بقيت شاغرة بانسحاب القوى الأميركية".
أي دور لروسيا؟
ولخّص كاتب المقال التحليلي، التطورات التي يمكن أن تنتج عن عملية إقامة منطقة آمنة بسوريا، في ثلاث نقاط:
أولاً: "في الوقت الذي نسعى فيه للحصول على ضمانات من الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة الدولية، سيضاعف الأكراد جهودهم للتوصل إلى اتفاق مع النظام السوري، الذي يحتمل أن يكون له أسبابه الخاصة للتفاوض معهم"، يقول الباحث.
"وفي البداية، عندما أعلن ترامب الانسحاب الأمريكي، لم يكن النظام على عجلة من أمره للدخول في صفقة مع الأكراد السوريين، معتقداً أنهم بمرور الوقت سيضعفون في نهاية المطاف وتقل متطلباتهم. ومع ذلك -مع احتمال إقامة منطقة آمنة- فان النظام يخاطر بأن يفقد لفترة طويلة سيطرته على حدوده وجزءا كبيرا من موارده الهيدروكربونية"، بحسب المصدر ذاته.
ولتجنب هذه الإمكانية، يقول الكاتب: "أصبح الآن أكثر ميلا إلى التفاوض مع الأكراد، وهي عملية تدعمها موسكو بالفعل".
وتابع دالاي تحليله موضحاً: "على الرغم من أن المحادثات بين الولايات المتحدة وتركيا تدور حالياً حول الأكراد السوريين، فإنه ليس من السهل حل المسألة -أي الأكراد- وأيضا العرب الذين سيسمح لهم بالمشاركة في الهياكل السياسية من الشمال الشرقي السوري".
ويبين الكاتب أن "طبيعة الحلفاء العرب للولايات المتحدة وتركيا ليست هي نفسها، والشركاء العرب للولايات المتحدة متحالفون مع ي.ب.ج ويعملون في إطار القوات الديمقراطية السورية".
ثانياً: يرى الباحث المتخصص في الشرق الأدنى، أنه "من غير المرجح أن تعارض روسيا فكرة المنطقة الآمنة في الواجهة، حتى لو كانت ستعرّض علاقاتها مع أنقرة للخطر. وبدلا من ذلك، ستسعى للحصول على تنازلات من أنقرة بشأن نقاط أخرى (خاصة في إدلب وربما على بعض الملفات الثنائية). وفي الوقت نفسه، ستسعى موسكو بلا شك إلى التأكيد على مضمون وعمق المفاوضات بشأن المنطقة الآمنة".
ثالثاً: خلص الكاتب في نهاية مقاله إلى أنه "وبما أنها أصبحت عملية، فمن المرجح أن تجري مناقشات بشأن المنطقة الآمنة وأن يتم تداولها".
وفي المقابل، يضيف المصدر ذاته: "قد يؤثر ذلك على العلاقات التركية الأمريكية. وإذا لم يتم تخطيطها وتنفيذها بشكل سليم، فإن فكرة إنشاء منطقة آمنة، التي صممتها الولايات المتحدة للتغلب على حالة الجمود وتهدئة العداء بين حلفائها الأتراك والقوات الديمقراطية السورية، يمكن أن تحبط بعضها بعضا وتخلق الفوضى في الشمال الشرقي السوري".
وحتى الآن، يرى دالاي، أن "العيب الرئيسي في هذا الاقتراح بالنسبة للمنطقة الآمنة هو عدم وجود رؤية سياسية واضحة لشمال شرق سوريا، كما لسوريا بشكل عام".