بين شنودة وتواضروس.. كيف تقاعست الكنيسة المصرية الأرثوذكسية عن نصرة غزة؟
لم يكن موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، بقيادة البابا تواضروس الثاني، على مستوى الأحداث العصيبة التي يشهدها قطاع غزة، من عدوان إسرائيلي غاشم غير مسبوق، بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ففي الوقت الذي سجل الأزهر بقيادة شيخه الإمام أحمد الطيب، موقفا قويا واضحا من القضية الفلسطينية منذ اليوم الأول للعدوان، اكتفت الكنيسة الأرثوذكسية بإصدار بيان في اليوم الثاني، أدانت فيه "استهداف المدنيين من كلا الجانبين".
وبذلك، ساوت الكنيسة المذكورة بين المحتل والجانب المضطهد الذي تعرض لحصار وانتهاكات واحتلال وتنكيل وقتل لسنوات طويلة.
وتسبب موقف الكنيسة بحالة استنكار وتساؤلات عن أسباب تغير موقفها الذي كان مناهضا لدولة الاحتلال على مدى التاريخ.
وبرزت تساؤلات عن أسباب تغيير تواضروس الثاني المسار الذي خطه البابا السابق شنودة الثالث؟
ضد التاريخ
كان أول صدام قوي بين الكنيسة المصرية والاحتلال، في أعقاب نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967، التي نجم عنها احتلال سيناء وهزيمة مدوية للجيش المصري والعربي.
وقتها أصدر المجمع القبطي للكنيسة الأرثوذوكسية في عهد البابا كيرلس السادس مرسوما بإيقاف رحلات زيارة الأقباط للقدس.
ورغم بداية التطبيع في العلاقات المصرية الإسرائيلية باتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، وبدء سفر بعض الأقباط بطرق ملتوية لإسرائيل للحج في القدس، فإن الكنيسة بقيادة البابا شنودة الثالث آنذاك حظرت تلك الرحلات المسيحية تماما عام 1980.
وجاء قرار الكنيسة وقتها رفضا لتنظيم رحلات حج مسيحية إلى القدس وهي تحت الاحتلال، وهو قرار يتفق معه الكثير من المسلمين.
وقتها قال البابا مقولته الشهيرة: "لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين"، تعبيرا عن رفضه التطبيع مع إسرائيل، حتى أنه كان يعاقب المسيحيين الذين يزورون المدينة المحتلة بما يعرف بـ"الحرمان الكنسي".
وبالمقارنة بين موقف البابا السابق والحالي، فإن تواضروس الثاني تحدث في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد قرابة 60 يوما على العدوان وسقوط أكثر من 18 ألف شهيد، قائلا: "العنف لا يجلب سوى العنف وبل عنف أكبر، ومع تصاعده يضيع معنى الإنسانية".
ثم عقب: "فلنصل جميعا في الكنائس القبطية في مصر وخارجها خلال شهر كيهك (الشهر الرابع في التقويم المصري القبطي الخاص بالكنيسة)، لأجل المسؤولين والقادة في كل العالم، ولا سيما من في يدهم الأمر لكي تستيقظ فيهم الإنسانية".
وهو ما جرى عدها كلمات فضفاضة غير مناسبة لمؤسسة دينية داخل دولة ذات ثقل مثل مصر، وليست مناسبة لتاريخ واتصال الكنيسة الأرثوذكسية بمحيطها، لا سيما أن العدوان استهدف عديدا من الأماكن والآثار المسيحية.
جريمة المعمداني
كانت واحدة من أشد مواقف الكنيسة المصرية جدلا، صوتها الخافت أمام مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني، التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في 17 أكتوبر 2023، وراح ضحيتها نحو 500 من المدنيين العزل، الذين كانوا داخلها أو في محيطها.
وقتها اكتفت الكنيسة الأرثوذكسية بإصدار بيان في اليوم التالي أدانت ما أسمته العنف الإسرائيلي غير المبرر ضد المدنيين الفلسطينيين، والذي بلغ ذروة قاسية بقصف المستشفى المعمداني في غزة.
ولم يتطرق بيان الكنيسة إلى وصم ما جرى بالعدوان، ولا الحض على اتخاذ ردود أفعال بناء على تلك الجريمة المروعة.
وهو ما اختلف تماما عن بيان الأزهر الذي صدر عقب المجزرة مباشرة، وذكر أنّه يجب على الأمة الإسلامية، إعادة النظر جذريا في الاعتماد على الغرب الأوروبي الأميركي المتغطرس.
وأضاف في لهجة قوية: "على الفلسطينيين أن يثقوا أن الغرب بكل ما يملك من طاقات عسكرية وآلات تدميرية، ضعيف وخائف حين يلقاكم أو تلقونه، فهو يقاتل على أرض غير أرضه ويدافع عن عقائد وأيديولوجيات بالية عفا عليها الزمن، وأصبحت من المضحكات المبكيات".
وشدد الأزهر الشريف، بقيادة الشيخ أحمد الطيب في بيانه أنه "على الفلسطينيين مواجهة العدو بالصمود في وجه هجماته الوحشية البربرية".
ومن المفارقات أنه كان أولى بالكنيسة الأرثوذكسية أن تكون أشد حدة بتقدير أن المستشفى المعمداني من الأوقاف المسيحية في غزة، وتقع على مقربة منه غربا كنيسة "القديس فيليبس الإنجيلي".
كما يقع ضمن منطقة الشمعة، التي تضم كنيسة "دير اللاتين"، ومعبدا خاصا للراهبات المسيحيات، يطلق عليه اسم "الراهبات الوردية" و"دار السلام"، بالإضافة لمدرسة الروم الأرثوذكس الواقعة في الناحية الشرقية للمستشفى.
كما يعد من أقدم مستشفيات مدينة غزة، وقد تأسس على يد البعثة التبشيرية التابعة لإنجلترا. لذلك فإن موقف الكنيسة من الحدث كان محل نقد وتساؤل.
التطبيع الكنسي
وخلال عهد البابا الحالي تمثلت التحولات في موقف الكنيسة تجاه التطبيع مع إسرائيل منذ العام 2013، تحديدا بعد الانقلاب العسكري مباشرة.
حينها بدأت السلطات المصرية تسهيل سفر المسيحيين الأقباط لإسرائيل أمنيا، ووافقت على زيادة أعداد المسافرين منهم للقدس للحج، ضمن تطبيع العلاقات مع تل أبيب.
ثم ارتفع تدريجيا عدد السياح المصريين المسيحيين للحج إلى الأراضي المقدسة من 4,428 إلى 7,450 بين عامي 2014 و2016، بحسب ما أورده موقع "ريليجن نيوز سيرفيس" الإلكتروني في 28 مارس/آذار 2017، والذي عدها "أرقاما قياسية" غير مسبوقة.
وفي عام 2018، أعلن أمين مفتاح كنيسة القيامة بالقدس المحتلة أديب الحسيني أن 7200 مسيحي مصري حجوا للقدس.
وكان تواضروس الثاني قد اتخذ خطوة صادمة في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حين زار الأراضي المحتلة بحجة حضور جنازة مسؤول كبير في كنيسة القيامة بالقدس.
وعُدّ هذا الموقف التاريخي بمثابة تغيير كبير في الموقف السياسي للكنيسة المصرية من قضية فلسطين، لأن الزيارة تعد اعترافا بسيادة إسرائيل عليها، ولأن تواضروس الثاني أصبح أول بابا يزور الأراضي المقدسة منذ 35 عاما.
وأمام موجة الغضب الناجمة عن زيارة البابا للأراضي المحتلة، أصرت الكنيسة القبطية في بيان حينئذ على أن تلك الخطوة "لم تكن رسمية".
وقال المتحدث باسم الكنيسة بولس حليم: "الزيارة لحضور الجنازة وليس أكثر، لم يتغير موقف الكنيسة التي لن تذهب إلى القدس بدون كل إخواننا المسلمين".
بابا التطبيع
ومع ذلك جاءت الأيام بما ينفي ادعاءات بيان المتحدث باسم الكنيسة، ففي 8 يناير/كانون الثاني 2022، أعلن البابا موافقته رسميا على زيارة القدس.
وقال وقتها للتلفزيون المصري: "لم يعد هناك أي مبرر لمنع الأقباط من زيارة القدس"، ما أكد وجود تغيير حقيقي في موقف الكنيسة من قضية فلسطين، بل والقضية الوطنية المصرية بعدم الذهاب إلى الأراضي المحتلة تحت مظلة التطبيع.
وتمتلك الكنيسة الأرثوذكسية المصرية أوقافا مسيحية في القدس، أهمها دير السلطان الأثري الواقع داخل أسوار البلدة القديمة، في حارة النصارى بجوار كنيسة القديسة هيلانة.
تبلغ مساحة الدير حوالي 1800 متر مربع، وتاريخيا أرجعه السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي للأقباط بعد تحريره بيت المقدس من الصليبيين (4 يوليو/تموز 1187).
وعرف منذ ذلك الحين باسم "دير السلطان"، وله أهمية خاصة عند الأقباط لأنه طريقهم المباشر للوصول إلى كنيسة القيامة.
وكانت إسرائيل قد اتخذت قرارا بعد احتلال القدس الشريف عام 1967 بتسليم الدير وملحقاته الكنسية للرهبان الأحباش (الإثيوبيين).
وفي مطلع مايو/أيار 2021 نصب الرهبان الإثيوبيون خيمة ورفعوا علم بلادهم داخل دير السلطان، الأمر الذي أثار غضب الرهبان المصريين المقيمين هناك.
ولجأت الكنيسة المصرية من قبل إلى المحاكم الإسرائيلية لإثبات أحقيتها في الدير، ورغم أن الأقباط امتلكوا حكما قضائيا بملكيته فإن الحكومة الإسرائيلية ترفض تنفيذ الحكم.
ويدار الدير فعليا من جانب الرهبان الإثيوبيين، مع وجود رهبان وكهنة مصريين، يأملون أن يعود إلى سلطتهم وملكيتهم الفعلية.
انسلاخ كامل
المؤرخ المصري خالد خيري يرى أن "موقف الكنيسة المصرية الحالي من القضية الفلسطينية فيه انسلاخ عن تاريخها الوطني، بل وعن العقيدة المسيحية نفسها، وعن ثوابت القومية المصرية والعربية".
وأضاف لـ"الاستقلال": "رغم أن هناك من منظري الكنيسة كنجيب جبرائيل من يدعي أن موقف البابا شنودة بعدم زيارة القدس عام 1980 نابع من خلافه الشهير مع الرئيس الراحل أنور السادات، لكن هذا تدليس واضح".
والدليل أن البابا شنودة ظل على موقفه بعد رحيل السادات وطوال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولو أراد التطبيع لفعله خلال الـ 30 عاما من حكم الأخير، وإنما ظل على موقفه حتى رحيله عام 2011، وفق تقديره.
وأتبع: "لكن موقف الكنيسة الحالي والبابا تواضروس، مختلف فهو من بدأ التطبيع على مراحل مرتبة وسريعة من 2013 حتى عام 2022 عندما سمح رسميا للمسيحيين بالحج إلى القدس بموافقة إسرائيل، بل هو نفسه قد زار الأراضي المحتلة بختم إسرائيلي".
وفسر المؤرخ المصري موقف الكنيسة بانزلاقها وتأثرها بالنظام المصري والأنظمة العربية عقب انكسار الربيع العربي، وتسارع تلك الأنظمة للتطبيع مع الاحتلال.
وأردف: "ربما تم دفعه إلى مسار التطبيع بالتوازي مع رغبته في ذلك، وربما سارع هو كنوع من تغيير إستراتيجية وموقف الكنيسة من القضية برمتها، وانكفاء المسيحيين المصريين على أنفسهم بشكل ذاتي".
وعقب خيري: "قد يكون للسياق الأول تفسيره، لكن الوضع الحالي في ظل ما تتعرض له غزة غير مبرر، خاصة وأن الأمر يهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر، فضلا عن كونه عدوانا ضد الإنسانية والأديان".
وهذا يجعل اتخاذ الكنيسة موقفا حاسما أمرا واجبا وضروريا، وهو ما كان يجب أن تتحلى به واحدة من أكبر المؤسسات الدينية في العالم، بحسب خيري.
المصادر
- الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تدين العدوان الإسرائيلي على المدنيين
- البابا تواضروس معلقًا على الحرب الدائرة في غزة: أين ذهبت الإنسانية؟
- المستشفى المعمداني في غزة.. أسسته الكنيسة وارتكبت فيه إسرائيل أكبر مجزرة
- هل سقطت الكنيسة المصرية في «بئر التطبيع»؟
- اتهام كنيسة تواضروس بالتطبيع.. وقس: زيارة القدس ترميم
- بابا الكنيسة المصرية: وجودي بالقدس ليس "زيارة" وإنما " تأديةً لواجب عزاء"