اهتمام أميركي مفاجئ.. لماذا يرفض البرهان استئناف محادثات السلام في جدة؟

12

طباعة

مشاركة

بصورة مفاجئة، عاد الاهتمام الأميركي بإنهاء الحرب الدائرة في السودان بين الجيش برئاسة عبد الفتاح البرهان ومليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وذلك عبر الدعوة لاستئناف المفاوضات.

وخلال اتصال هاتفي أجراه مع البرهان، شدد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، على ضرورة استئناف المفاوضات في مدينة جدة السعودية، لإنهاء القتال.

ودعا بلينكن في 29 مايو/أيار 2024 إلى "وقف الحرب في السودان وتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وذلك لتخفيف معاناة الشعب السوداني".

كما تطرق إلى "استئناف محادثات جدة، والحاجة لوقف الأعمال العدائية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور (غرب)"، وفق المصدر ذاته.

ومفاوضات جدة هي سلسلة من المحادثات بدأ عقدها منذ 6 مايو 2023 بين الجيش والدعم السريع برعاية أميركية سعودية.

وجرت ثلاث جولات منها في مايو/ أيار ويونيو/حزيران وأكتوبر/تشرين الأول 2023 ثم توقفت.

وكان انسحاب الجيش منها سببه رفض حميدتي إخراج قواته من المدن والمنشآت العامة التي يسيطر عليها ويقتل المدنيين داخلها. 

رفض التفاوض

وفي تعقيبه على فحوى الاتصال الأخير، استنكر مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، دعوة بلينكن لاستئناف مفاوضات جدة.

جاء ذلك خلال كلمة عقار في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الصلح المجتمعي والسلام الدائم، الذي تنظمه مفوضية السلام (حكومية) بمدينة بورتسودان (شرق)، وفق بيان مجلس السيادة.

وقال البيان إن عقار "استنكر دعوة وزير الخارجية الأميركي للعودة إلى منبر جدة للتفاوض".

وأضاف: "لن نذهب، ومن يريد ذلك فعليه أن يقتلنا في بلدنا ويحمل رفاتنا إلى جدة".

وأكد أن "الجيش السوداني هو القوة الوحيدة المؤهلة لتحقيق السلام والاستقرار بالبلاد والعبور بها إلى بر الأمان، وتهيئة المناخ لمخاطبة القضايا السودانية المؤجلة.

وأضاف أن "الحرب الجارية بذورها وجذورها سودانية، لكنها زرعت في أرض أميركية وقدمت في الاتحاد الأوروبي ووجهت بأيدٍ عاملة".

الرفض السوداني للدخول في مفاوضات سلام جديدة، تزامن مع دعم مشبوه من جانب أميركا لقوى "الحرية والتغيير" اليسارية الليبرالية.

وسبق أن شاركت الأخيرة في حكم السودان مع الجيش عقب الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، ومجموعة "تقدم" التابعة لرئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.

كما تزامن مع توجه الخرطوم لإلغاء وثيقة الحكم السابقة مع هذه القوى اليسارية والليبرالية في صورة "مجلس السيادة" ووضع "وثيقة دستورية جديدة"، حسبما أعلن ياسر العطا، مساعد قائد الجيش السوداني، ما يعني إقصاء القوى الموالية لواشنطن.

وواكب هذا الرفض، ترحيب وزارة الخارجية السودانية 29 مايو 2024 بالدعوة المصرية لعقد قمة للجماعات السياسية المدنية، لكنها وضعت شروطا على أنواع الجماعات والجهات الفاعلة الأجنبية المدعوة.

 طريقة اتصال بلينكن بالبرهان ودعوته للعودة لمفاوضات جدة مع قوات الدعم السريع لوضع حد للحرب، أغضبت الجيش.

إذ تأتي هذه المحاولة في وقت يواجه فيه الجيش هجوما مكثفا من قوات حميدتي لاحتلال مدينة الفاشر آخر قاعدة له في دارفور.

وبدلا من مطالبة أميركا لحميدتي بوقف عدوانه تطالب الجيش بوقف دفاعه عن المدينة والتوجه لمفاوضات تبدو كأنها استسلام، وفق مصادر سودانية.

المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية "فيدانت باتيل" ألمح لهذه الطريقة الأميركية الفظة في التعامل مع البرهان، مشيرا إلى أن "بلينكن ضغط على الجنرال لإنهاء الحرب".

وإتاحة "وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق" و"تخفيف معاناة الشعب السوداني"، برغم أن المنظمات الدولية تتهم قوات الدعم السريع بتنفيذ انتهاكات واسعة في مدينة الفاشر المحاصرة شمال دارفور، وفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود.

وقد حذر مسؤولون في الأمم المتحدة من خطر "حقيقي ومتزايد" بوقوع إبادة جماعية في الفاشر بسبب عدوان قوات حميدتي ومحاصرتها السكان، بحسب شبكة "إيه بي سي" نيوز الأميركية 31 مايو 2024.

لذا برر الجيش السوداني، رفضه الدعوة الأميركية للعودة بضرورة التزام قوات حميدتي بما وافقت عليه في أول جولة من مفاوضات جدة 11 مايو 2023 بإخلاء المدن والأحياء السكنية والمرافق العامة، ولم تنفذه.

وصل بـ "مالك عقار"، سابق للسخرية من أميركا قائلا: "اتصلوا علي البرهان قالوا له أمشي جده .. احنا لا ماشين جدة ولا جدادة واعلى ما في خيلهم (الأميركيين) يركبوه".

ورأى أن الطريقة التي جرت بها الدعوة لمنبر جدة "فيها استخفاف واحتقار لا يمكن قبوله بتاتا"، كما قال إنهم يتعاملون معهم “وكأنهم يسوقوننا كالأغنام”.

ومنذ منتصف أبريل/ نيسان 2023، يخوض الجيش برئاسة البرهان، و"الدعم السريع" بقيادة "حميدتي" حربا خلفت نحو 15 ألف قتيل وأكثر من 8 ملايين نازح ولاجئ، وفقا للأمم المتحدة.

أسباب الرفض

أحد أسباب رفض الجيش السوداني الذهاب لجدة لجولة مفاوضات رابعة، هو أن قوات الدعم السريع تحاصر مدينة الفاشر وداهمت أحياء المدنيين ولا تزال تحتل منازل ووزارات ومناطق حيوية برغم الاتفاق السابق في جدة على الخروج من هذه المناطق المدنية ومناطق الخدمات.

ويتهم الجيش، قوات الدعم السريع بالقصف العشوائي لمناطق مدنية وعرقلة مرور المساعدات الإنسانية، فضلا عن تنفيذها عمليات تطهير عرقي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وفي منتصف مايو 2024 قالت الأمم المتحدة إن الشعب السوداني "عالق في جحيم" من أعمال العنف. يضاف إليه خطر مجاعة متفاقم بسبب موسم الأمطار وعقبات تحول دون وصول المساعدات.

وقالت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان، كليمانتين نكويتا سلامي، في مؤتمر صحفي "شعب السودان محاصرا في جحيم من العنف الوحشي، المجاعة تقترب، والمرض والقتال يقترب، ولا يوجد أي مخرج في الأفق".

السبب الثاني هو أن البرهان يخطط لإلغاء كل الاتفاقيات السابقة مع القوى السياسية اليسارية والليبرالية التي كانت مشاركة معه عقب الانقلاب في حكومة ومجلس سيادي، ويشتري الوقت لإصدار هذه القرارات رسميا.

إذ يعتزم طرح "وثيقة دستورية" جديدة للسودان حسبما أعلن مساعد قائد الجيش السوداني، ياسر العطا في 30 مايو 2024.

"العطا" قال إنه “جرى التوافق على صيغة دستورية (جديدة) لإدارة الفترة التأسيسية الانتقالية للحكم الديمقراطي”.

وأشار إلى أن الإعلان الدستوري الجديد يؤسس لـ "إعادة صياغة مجلس السيادة وتعيين رئيس وزراء مستقل وهو بدوره يعين حكومته من كفاءات مستقلة".

وبموجب هذه الوثيقة سيتحلل الجيش من كل الاتفاقيات السابقة مع القوى المدنية اليسارية التي شاركته الحكم وتدعم قوات حميدتي حاليا، ومن ثم يسلبها من ورقة سياسية مهمة كانت تناور بها، وهي وصف نفسها بأنها جزء من السلطة.

ويرى محللون أن هذه الخطوة تهدف لترسيخ "الحكم العسكري" في السودان من خلال صياغة وثيقة دستورية جديدة يكون الغلبة فيها لجنرالات الجيش.

في أعقاب الإطاحة بحكم الرئيس السابق، عمر البشير، أبرم العسكريون والمدنيون اليساريون والليبراليون وثيقة دستورية في أغسطس/آب 2019 كان يفترض أن تؤسس لمرحلة انتقالية مدتها 39 شهرا.

وبموجب تلك الوثيقة، تولى الجيش السلطة على المستوى السيادي، بينما قادت حكومة مدنية ومجلس تشريعي الفترة الانتقالية.

وبموجب الوثيقة السابقة تأسس "مجلس السيادة السوداني" الذي كان يفترض أن يقود المرحلة الانتقالية برئاسة الفريق البرهان ونائبه السابق حميدتي.

وبعدها جرى تنصيب الخبير الاقتصادي الذي كان يقيم في الخارج، عبد الله حمدوك، رئيسا للوزراء لقيادة حكومة انتقالية البلاد.

لكن تلك المرحلة لم تستمر طويلا بعد انقلاب قاده البرهان وحميدتي في أكتوبر 2021 والإطاحة بالقوى المدنية من الحكومة.

ومنذ ذلك الوقت، تفاقمت مشاكل السودان التي شهدت احتجاجات دورية مناهضة للانقلاب، علاوة على أزمة اقتصادية مستفحلة وصدامات قبلية متزايدة بالمناطق النائية.

ولكن المشهد في السودان انفجر في منتصف أبريل 2023 بعد أن دخل حليفا الأمس، حربا دامية وضعت البلاد في مواجهة "واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في الذاكرة الحديثة"، وفقا للأمم المتحدة.

سبب ثالث يراه المحللون السودانيون لرفض البرهان الطلب الأميركي باستئناف التفاوض مع الدعم السريع، هو أن الأطراف التي تتقاتل في السودان، لا تريد الانخراط في أي مفاوضات جادة.

فكل طرف يعتقد أنه يحقق نصرا في المعارك، والجيش يؤكد أنه حقق انتصارات أخيرا، لذا يرفض البرهان العودة للتفاوض مع حميدتي بما يفرض عليه قيود.

وهناك سبب رابع للرفض السودان هو قناعة جيش السودان أن أميركا تدعم قوات حميدتي بسلاح ربما بطلب إماراتي أو لأسباب تتعلق بالضغط على الجيش لوقف التعاون مع الروس.

فقد أعلن سفير السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس 20 أبريل 2024 في الأمم المتحدة، امتلاك قوات حميدتي لصواريخ "جافلن 148 FGM" الأميركية المتطورة المحمولة على الكتف والمضادة للدروع.

لماذا الآن؟

يرى محللون سودانيون أن الذي أزعج واشنطن ودفعها لتذكر السودان ومأساة الحرب بعد طول تجاهل هو التخوف من الوجود الروسي المحتمل بعد الحديث عن قاعدة عسكرية روسية مقابل دعم الجيش السوداني بالسلاح.

فقبل اتصال بلينكن بالبرهان، أكد ياسر العطا، أن روسيا عرضت تزويدهم بالأسلحة والذخائر، مقابل تحقيق مصالح لموسكو في السودان أبرزها إنشاء قاعدة عسكرية.

وأضاف أن البرهان "سيوقع على اتفاقيات مع روسيا قريبا"، ما يعني موافقته، وهو ما أقلق أميركا.

ويعتقد أن هذا التطور في علاقة الخرطوم مع موسكو، هو الذي حرك المياه بين واشنطن والخرطوم، بجانب تتالي الزيارات العسكرية، وفق شبكة "الجزيرة" 29 مايو 2024

فقد زار السودان في أبريل 2024 ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الروسي الخاص إلى إفريقيا والشرق الأوسط، والتقى البرهان وقيادات سودانية.

وكان لافتا أنه صرح بأن بلاده تعد مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الجيش "الممثل الشرعي للشعب السوداني"، ثم عرض خلال الزيارة تقديم مساعدات عسكرية له مقابل قاعدة روسية.

قال إن هذا مقابل تطبيق الاتفاق الخاص بإنشاء محطة لوجستية للقوات البحرية الروسية في بورتسودان الذي جرى التوقيع عليه في عهد البشير، ولم ير النور وقتها.

أيضا قبيل زيارة المبعوث الروسي إلى السودان، بأيام قليلة زار مدير جهاز المخابرات السوداني، أحمد إبراهيم مفضل، موسكو حيث التقى مسؤولين روس من بينهم بوغدانوف، للتمهيد لهذا التحالف الجديد.

وقد حاول "العطا" في لقائه مع قناة "العربية" الذي تحدث فيه عن قاعدة روسية، تخفيف قلق واشنطن من هذا التعاون بين الخرطوم وموسكو.

وأكد أن "السودان منفتح على إبرام اتفاقيات مماثلة مع دول أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والسعودية ومصر".

وتسعى روسيا منذ سنوات لإيجاد نفوذ لها في السودان، ووضع قواعد قريبة من البحر الأحمر، وحاولت سابقا تحقيق ذلك عبر قوات الدعم السريع، والآن تتجه للتعاون مع الجيش بحثا عن مصالحها في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي.

أيضا هناك قلق أميركي من النفوذ الإيراني في السودان بعد الكشف عن تزويد طهران، للجيش السوداني بأسلحة أبرزها مسيرات "مهاجر" التي كان لها كبير الأثر في تحقيق انتصارات على الدعم السريع.

وفي فبراير/شباط 2024 زار وزير الخارجية السوداني السابق "علي الصادق" إيران لأول مرة بعد قطيعة دامت 8 سنوات لإعادة العلاقات بقوة.

وأكد حينها نظيره الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، إعادة فتح السفارتين الإيرانية والسودانية واستئناف المهام الدبلوماسية لسفيري البلدين، وتوسيع العلاقات الثنائية.

وأعقب هذا تقارير إعلامية غربية، أكدت تسليح إيران للجيش السوداني، ضد قوات الدعم السريع.

فضلا عن قلق أميركي عام من خسارة دولة بحجم السودان، لها موقع إستراتيجي على البحر الأحمر، حيث تدور معارك نفوذ بين الغرب وكل من روسيا والصين.

أيضا تريد الولايات المتحدة ودول غربية استغلال ثروات السودان المختلفة ومنها الذهب والصمغ العربي خصوصا.

وقال تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" 28 مايو 2024 إن الأطراف المتحاربة في السودان تستغل التجارة في الصمغ العربي، الذي يدخل في صناعة الشوكولاتة والصودا والعلكة والحلويات وسلع أخرى، لتمويل آلة الحرب في البلاد.