بعد فشل أذرعه الإعلامية.. هل ينجح المسلماني في "إعادة تدوير" نظام السيسي؟

داود علي | منذ ١٠ ساعات

12

طباعة

مشاركة

منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة عام 2014 كان رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي يحلم بامتلاك آلة إعلامية مؤثرة في الشعب تشبه تلك التي أحاطت بجمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي، إعلام أحادي الصوت، منصاع بالكامل للسلطة، لا يسمح بغير الرواية الرسمية.

لكن سرعان ما تحول هذا الحلم إلى حالة إعلامية مرتبكة قوامها الصراخ والتخوين والتهديد، يقودها وجوه مثل أحمد موسى ونشأت الديهي ويوسف الحسيني، في مشهد عمّق الانقسام المجتمعي والحنق الشعبي على النظام أكثر مما عزز صورته.

ومع مرور السنوات، أثبت هذا النمط من الخطاب فشله الذريع في زمن الفضاء الرقمي المفتوح، حيث انجذب قطاع واسع من المصريين، لا سيما الشباب إلى الإعلام الجديد والمنصات المستقلة التي كسرت احتكار الخطاب الرسمي وكشفت هشاشة الآلة الإعلامية التابعة للسلطة.

هذا الإخفاق دفع النظام وأجهزته، وفي مقدمتها جهاز المخابرات العامة الممسك بملف الإعلام، إلى البحث عن إستراتيجية بديلة لتغيير الدماء وإعادة تشكيل المشهد.

وفي هذا السياق، جاء القرار الجمهوري رقم 520 لسنة 2024 الصادر في 25 نوفمبر/ تشرين الأول 2024، بتشكيل "الهيئة الوطنية للإعلام" برئاسة الإعلامي أحمد محمد المسلماني لمدة أربع سنوات.

بدا المسلماني خيارا مقصودا لإحداث قطيعة مع خطاب الصراخ الذي أصاب الإعلام الرسمي بالجمود والركود، ومحاولة لبث دماء جديدة تعيد الثقة لجمهور ابتعد عن القنوات الموجهة من قبل "جهاز سامسونج".

ولم يتأخر الظهور العملي للمسلماني، ففي 12 أغسطس/ آب 2025 قدم حلقة خاصة على شاشة القناة الأولى استعرض خلالها ملامح خطة تطوير الإعلام الرسمي، وكشف عن تفاصيل مهمة من لقاء جمع السيسي برؤساء الهيئات الإعلامية.

وجه المسلماني رسائل واضحة حول أولويات المرحلة المقبلة، التي تتمثل في إعادة هيكلة القنوات التابعة للهيئة الوطنية للإعلام، وتحسين المحتوى والهوية البصرية، وتنظيم القنوات الرسمية بما يتيح تقديم محتوى أكثر تخصصا ورفع كفاءة البث.

بهذا الظهور، قدم المسلماني نفسه كوجه جديد لمحاولة إخراج الآلة الإعلامية من أزمتها، في وقت يراهن فيه النظام على أن تكون هذه "الجرعة الهادئة" قادرة على تخفيف السخط الشعبي وتلميع صورة سلطة تعاني من تآكل شعبيتها المضمحلة اساسا، داخليا وخارجيا.

تخوين وصدام 

منذ اللحظة الأولى لتوليه رئاسة الهيئة الوطنية للإعلام، بدا أن المسلماني يسير في حقل ألغام محفوف بالصدام مع ما يعرف بـ"الحرس الإعلامي القديم"، الذي يقوده رموز اعتادت لعقد كامل على التحكم في المشهد بخطاب التخوين والصدام.

هؤلاء شعروا أن البساط يسحب من تحت أقدامهم، وأن هدوء المسلماني ورغبته في إعادة تشكيل المشهد الإعلامي يمثل تهديدا مباشرا لمكانتهم ونفوذهم، فبدأوا في نصب الفخاخ وتدبير الحملات ضده.

المسلماني ليس وافدا عاديا على الساحة العامة، فقد عمل مستشارا للعالم المصري الراحل أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل، وكان أيضا مستشارا مؤقتا للرئيس المعين من الانقلاب العسكري عدلي منصور (2013-2014). 

ولاحقا، ارتبط بالمشهد الإعلامي  كمحلل سياسي عبر شاشة "DMC" التابعة للمخابرات، قبل أن يقدم برنامج "الطبعة الأولى" على قناة "الحياة".

لكن هذا التميز الذي حظي به من قبل السلطة سرعان ما جعله في مرمى نيران الأذرع الإعلامية الأخرى.

فحين انتشر خبر تعيين أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس، حسام عقل، ضمن لجان تطوير الدراما بالإذاعة، شنت حملة شرسة ضد المسلماني بحجة أنه "عقل إخواني"، رغم أن الرجل لم ينتم لجماعة الإخوان يوما ما، لكنه صوت أكاديمي إسلامي محافظ له جمهور واسع.

لكن هذه التهمة الجاهزة، هي التي يستخدمها إعلام السلطة في تصفية الحسابات مع كل من يتبنى طرحا مختلفا أو يخرج عن النص الرسمي، لذلك طلبوا من المسلماني أن يقدم استقالته بهذه الحجة.

ورغم أن المسلماني نفسه عاد وأصدر تقريرا يؤكد فيه نفيه لتعيين حسام عقل ضمن تلك اللجنة التي لم تشكل بعد، لكن الحملة ضده استمرت.

وما زاد حدة المواجهة، أن المسلماني فتح باب ماسبيرو أمام الإعلامي محمود سعد بعد غياب استمر 14 عاما.

ففي 18 أغسطس 2025 استقبله داخل مبنى التلفزيون المصري، وأعلن اتفاقا يقضي بعودة برنامج "باب الخلق" إلى شاشة القناة الأولى بالتوازي مع عرضه على شبكة تلفزيون النهار.

ورغم نفي المصادر وجود اتفاق على مشاركة سعد في برنامج "التوك شو" المسائي الجديد، فإن مجرد عودته إلى ماسبيرو، بعد مسار طويل شمل خلافا مع وزير إعلام حسني مبارك، أنس الفقي، ثم دعم “ثورة 25 يناير”، كان كافيا لإثارة غضب الحرس القديم الذي اعتبر الأمر ضمن "كسر قواعد اللعبة".

شعبية محمود سعد التي بنيت على خطاب اجتماعي هادئ بعيد عن الصدامات، خلال السنوات الأخيرة، جعلته مقبولا لدى قطاعات واسعة من الجمهور.

ووصل عدد المشتركين في قناته الخاصة على "يوتيوب" فقط، إلى مليون و700 ألف مشترك، بينما بلغت عدد مشاهدات القناة نحو 275 مليونا، و635 ألف مشاهدة، حتى أغسطس 2025، ما دفع المسلماني إلى محاولة استثمار هذه الحالة لصالح النظام، في إطار خطته لتلميع صورته وإضفاء مظهر من "التعددية" على الإعلام الرسمي.

لكن هذه الخطوة عمقت الهوة بينه وبين الأذرع الإعلامية التقليدية، التي رأت في عودته تهديدا مباشرا لاحتكارها الطويل للفضاء الإعلامي.

وهكذا، يجد المسلماني نفسه في مواجهة صريحة مع شبكة من المصالح الراسخة داخل إعلام النظام، حيث يتقاطع طموحه في تجديد المشهد مع رغبة الحرس القديم في البقاء على الشاشة بلا منافسة.

وفي 11 أغسطس 2025 كشف المسلماني، عن ملامح تحركاته المقبلة، مؤكدا على ضرورة وجود ما أسماه بـ"الكشافين" لاكتشاف الإعلاميين والصحفيين والمبدعين وأصحاب المواهب في مختلف محافظات مصر.

وطرح تساؤلا لافتا “هل يمكن أن تكون هناك أم كلثوم أخرى؟ هل يمكن أن يكون هناك الشيخ الشعراوي مرة أخرى؟”، ليجيب بنفسه: نعم، إذا تهيأت البيئة المناسبة.

وأردف مستشهدا بكلمات العالم الراحل أحمد زويل: "مشكلة الشرق أنه ضد الناجح حتى يفشل، والغرب مع الفاشل حتى ينجح"، مضيفا أن تغيير هذه المعادلة "كفيل بخلق نماذج جديدة بحجم أم كلثوم أو الشيخ الشعراوي".

لكن استدعاء اسم الشيخ الشعراوي لم يكن مجرد مثالا ثقافيا أو دينيا، بل حمل دلالة سياسية عميقة.

فالنظام الذي يمثله السيسي كان قد تورط، قبل عامين فقط، في حملة شعواء ضد الشعراوي، شنها إعلاميون مقربون من السلطة وبعض البرلمانيين مثل فريدة الشوباشي عام 2023، عبر اتهامات وتشويهات علنية بحق أحد أكثر الشخصيات الدينية شعبية في مصر والعالم العربي.

هذه الحملة ارتدت سلبا على صورة النظام، بعدما انتفضت قطاعات واسعة من المجتمع دفاعا عن الشعراوي، وتصدت مشيخة الأزهر بقيادة الشيخ أحمد الطيب للهجمة لذلك عبر بيان رسمي في 5 يناير/ كانون الثاني 2023.

وورد في البيان أن الشعراوي "وهب حياته لتفسير القرآن، وجذب الناس بمختلف مستوياتهم، وكان مثالا للعالم الوسطي، وصاحب مواقف وطنية مشرفة ضد الاحتلال"، كما أعلنت أسرة الشيخ آنذاك عن تحرك قانوني لملاحقة المسيئين.

وأضعفت تلك الحملة رصيد السلطة الشعبي، إذ رأى كثيرون أن سهامها موجهة نحو الرموز الإسلامية الراسخة في الوعي الجمعي.

ومن هنا يقرأ استخدام المسلماني لاسم الشعراوي في خطابه الأخير بصفته محاولة لتجاوز تلك النقطة السوداء، وإعادة توظيف رمز شعبي محبوب لإصلاح ما أفسدته سياسات إعلام النظام السابقة، ومنح صورة أكثر تصالحية لآلة السلطة الإعلامية. 

إذاعة القرآن

ومنذ تأسيسها عام 1964، شكلت إذاعة القرآن الكريم واحدة من أبرز أدوات القوة الناعمة المصرية، إذ كانت أول إذاعة متخصصة في علوم القرآن وتلاوته، وارتبطت في وجدان المصريين بحضور روحي يومي، خاصة في صباحات الجمعة.

غير أن الإذاعة، في عهد السيسي، عانت من الإهمال والتردي وتغول الإعلانات التجارية والخيرية على بثها، ما أثار موجة غضب واسعة بين الجمهور والمؤسسات الدينية الرسمية مثل الأزهر، التي رأت في ذلك تشويها لطبيعتها الروحانية.

لكن عندما تولى المسلماني منصبه رئيسا للهيئة الوطنية للإعلام، التقط هذه الورقة ورأى في الإذاعة فرصة ثمينة لإعادة توظيفها لصالح النظام.

ومن أبرز خطواته، اتخاذ قرار بإلغاء بث الإعلانات التجارية على موجات إذاعة القرآن الكريم، بعد جدل كبير استمر لسنوات.

قبلها تزايدت شكاوى المستمعين وقيادات دينية اعتبرت تلك الإعلانات "استثمارا في الدين" يتنافى مع قدسية المحتوى.

وفي ديسمبر 2024، أصدرت الهيئة قرارا يقضي بنقل الإعلانات إلى إذاعات أخرى ابتداء من يناير 2025، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي وتهدئة الانتقادات.

لم يقف المسلماني عند ذلك، بل اتخذ قرارا لافتا بنقل برنامج "خاطرة دعوية" لوزير الأوقاف السابق محمد مختار جمعة إلى إذاعة أخرى.

جمعة، الذي ارتبط اسمه في الوعي العام بالقبضة الأمنية على المساجد وتملقه الشديد للسلطة فضلا عن اتهامات بالفساد، لم يكن يحظى بشعبية لا في الأوساط الشعبية ولا بين علماء الدين.

وهو ما التقطه المسلماني بذكاء، إذ أراد أن يبقي إذاعة القرآن الكريم "نقية" من أي وجوه مثيرة للجدل قد تعكر صفو خطته في إعادة تقديمها كأداة روحانية نظيفة، يمكن للنظام أن يستفيد منها في استعادة جزء من رصيده المفقود.

وبهذه الخطوات، حاول المسلماني أن يحول الإذاعة من رمز أهمله النظام لسنوات إلى أداة رمزية لإعادة بناء صورة السلطة، مستغلا مكانتها الراسخة في الوجدان المصري والعربي. 

ورقة ماسبيرو

ومن المشاريع التي اعتمد عليها المسلماني في خطته لتلميع وجه النظام، هو "إحياء ماسبيرو".

ولأعوام طويلة، ظل ماسبيرو المبنى العريق للتلفزيون المصري على ضفاف النيل، بمثابة عبء ثقيل على الحكومات المتعاقبة.

فقد روج النظام مرارا لفكرة إغلاقه وتحويله إلى مشروع استثماري مربح، بينما اشتكى رؤساء الحكومة من تضخم العمالة داخله وعدها عالة على الدولة تستنزف الموازنة بلا جدوى.

وفي ظل هذا الخطاب، ترك المبنى العريق للإهمال، استديوهات متهالكة، محتوى بلا روح، وقنوات تحولت إلى نسخ باهتة تبث برامج ترفيهية عفا عليها الزمن، وتستضيف العرافين والمنجمين، في مشهد لا يعكس قيمة صرح ولد ليكون مرجعا إخباريا وثقافيا للأمة.

وسط هذه الصورة القاتمة، جاء أحمد المسلماني بورقة ماسبيرو، محاولا توظيفها كأداة قوية لإعادة تلميع النظام.

ففي خطته التطويرية، تجاوز شكل التعامل القديم القائم على التهميش والوعود بالخصخصة، إلى مشروع إحياء شامل يركز على، تطوير المحتوى ليكون أكثر تخصصا وجاذبية، عبر برامج تحليلية وثقافية وتعليمية قادرة على منافسة الإعلام الخاص والمنصات الرقمية.

وتحتوي خطة التطوير على منع العرافين والدجالين من الظهور على شاشات القنوات والإذاعات، وتوجيه البوصلة نحو العلماء والخبراء والمثقفين، وأيضا استغلال الأستديوهات والبنية التحتية المهملة لتحويل ماسبيرو إلى منصة متعددة الوسائط قادرة على المنافسة الرقمية، وهو ما ظهر خلال تطوير أستديو "نجيب محفوظ" داخل المبنى.

كذلك طمأنة العاملين القلقين من شبح التسريح، عبر التأكيد على الحفاظ الكامل على حقوقهم المالية والإدارية، في محاولة لاستعادة الثقة الداخلية قبل الانطلاق نحو الخارج.

ولم يكتفِ المسلماني بذلك، بل أعلن عن خطط لإنتاج برامج أطفال عالية الجودة تعزز التربية الأخلاقية والقيم الوطنية. 

ويدرس مجلس الهيئة إطلاق قناة أطفال جديدة بمواصفات مهنية قادرة على منافسة القنوات العالمية، في خطوة تهدف إلى إعادة ماسبيرو كصوت أساسي للأسرة المصرية.

بهذه الورقة، حاول المسلماني أن يعيد صياغة صورة المبنى الذي وصفته الحكومات السابقة بـ"العبء"، ليقدمه من جديد كـ"مشروع وطني للنهضة الإعلامية"، يجمع بين رفع جودة المحتوى وترسيخ مكانة النظام كراع لذلك لا كخصم.