حرب إيران وإسرائيل.. كيف أجبرت تركيا على تسريع تطوير سلاحها الجوي؟

تمتلك تركيا اليوم خيارات أوسع مما كان في الماضي لكنها جميعها غير مثالية
تقف تركيا اليوم أمام ثلاثة خيارات لتجديد أسطولها الجوي، تتمثّل بالاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا، أو الاكتفاء بالتصنيع المحلي، لكنها جميعها "غير مثالية".
ورأى معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، أن خيارات الشراء من الولايات المتحدة وأوروبا يكتنفها الغموض، بينما يبقى الخيار المحلي رهانا على نجاح المقاتلة التي تطورها تركيا بنفسها.
وأوضح خلال تقرير للباحثين ريمي دانيال، وغاليا ليندنشتراوس، المتخصصين في الشؤون التركية أنه أيا كان الخيار الذي ستتخذه تركيا، فإنه سيعزز بشكل ملحوظ قدراتها الجوية، مبينا أن على الدول الإقليمية، بما في ذلك إسرائيل، الاستعداد لذلك.

هاجس متواصل
وذكر أن حاجة تركيا لتجديد أسطولها من الطائرات المقاتلة ليست جديدة، لكنها أصبحت أكثر إلحاحا بفعل صفقات التسليح التي أبرمتها دول إقليمية أخرى وبسبب تداعيات حرب إسرائيل مع إيران (يونيو/حزيران 2025).
ورغم أن أنقرة ما زالت تتعامل مع تبعات إقصائها من برنامج المقاتلة "إف-35" الأميركية عام 2019، فإنها تمتلك اليوم خيارات أوسع مما كان في الماضي، بفضل تحسن موقعها السياسي نتيجة حرب أوكرانيا، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وقال المعهد: "يشكّل تحديث سلاح الجو التركي هاجسا متواصلا لأنقرة منذ سنوات؛ إذ يتكون أسطولها الحالي بشكل رئيس من طائرات إف-16 أميركية الصنع، التي حصلت عليها في تسعينيات القرن الماضي، ثم خضعت للتحديث بأنظمة أميركية وتركية".
هذا بالإضافة إلى طائرات "إف-4" قديمة اشترتها من الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، وخضعت للتحديث لاحقا بتكنولوجيا إسرائيلية، بالتعاون مع شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية عام 1997.
دخلت هذه الطائرات المقاتلة الخدمة منذ عقود، ورغم التحديثات أصبح تقادمها مشكلة ملحة تستدعي الاهتمام، بحسب تأكيد المعهد الإسرائيلي.
وتُصنف الطائرات المقاتلة عادةً حسب أجيالها، وفي هذا السياق، تعدّ طائرة "إف-4" طرازا بارزا من الجيل الثالث، بينما تنتمي "إف-16" إلى الجيل الرابع.
ومنذ ذلك الحين، أتاحت التقنيات تحسينات كبيرة في مجالات حيوية مثل القدرة على المناورة، والرادار، والتخفي، والتكامل مع أنظمة القيادة والتحكم، وأنظمة المعلومات المتقدمة.
وعلى هذا الأساس، دخلت طائرات الجيل الخامس، وأبرزها "إف-35"، الخدمة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وكانت أنقرة تنوي تطوير قوتها الجوية إلى الجيل الخامس من خلال المشاركة في برنامج "إف-35"، بل وأنتجت مكونات للطائرة.
ومع ذلك، في عام 2019، استبعدت الولايات المتحدة تركيا من البرنامج ردا على شراء أنقرة نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400".
وهكذا، مثّل امتلاك القوات الجوية التركية لجيل قديم من المقاتلات إشكاليةً أكبر لأنقرة بسبب سباق التسلح الجوي الإقليمي.
فإسرائيل تُشغّل بالفعل طائرات "إف-35"، وقد حصلت بعض الدول على طائرات مقاتلة أكثر تطورا من طائرات "إف-4" و"إف-16"، مُدمِجةً تقنيات تُقارب جزئيا أحدث الطائرات التي يُشار إليها غالبا باسم الجيل 4.5.
وقد اشترت مصر وقطر والإمارات طائرة رافال الفرنسية المقاتلة، بينما اشترت دول خليجية، على رأسها السعودية، طائرة يوروفايتر تايفون، التي طُوّرت بشكل مشترك بين بريطانيا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا.
أما اليونان، المنافس التاريخي لتركيا من جهة الغرب، فقد اشترت طائرات رافال، ودخلت في محادثات متقدمة للحصول على طائرة "إف-35".
وهذا يعني أن اليونان التي شهدت تركيا معها خلافات متكررة على مرّ السنين بما في ذلك في المجال الجوي، ستتمكن قريبا من تشغيل طائرات شبحية من الجيل الخامس، ممّا يمنحها حرية أكبر في الأجواء التركية، ويمثّل تهديدا كبيرا لأنقرة.
وقال المعهد: "بينما انتهجت أنقرة سياسة خارجية أكثر حزما وعززت قوتها العسكرية محققةً نجاحات برية وبحرية، فإن ضعفها الجوي يقوض تفوقها النسبي في مجالات أخرى، وقد ثبت بمرور الوقت أن الاستعاضة بطائرات مسيرة متطورة ما هي إلا مجرد حل جزئي".

سباق تسلح إقليمي
ورصد أن إدراك أنقرة لضرورة تسريع تحديث سلاحها الجوي قد ازداد بعد حرب الـ 12 يوما بين إسرائيل وإيران.
ففي مطلع أغسطس/آب 2025، لخصت الأكاديمية الوطنية للاستخبارات التركية الدروس المستفادة لتركيا من الحرب بين إسرائيل وإيران، وكان أولها ضرورة مواصلة تحديث منصاتها الجوية.
فالتفوق الجوي الإسرائيلي ودوره في تحقيق نصر حاسم ضد إيران، إلى جانب إدراك أنقرة أنها تنافس إسرائيل على النفوذ الإقليمي، جعلا من قوة الأسطول الجوي التركي مسألة بالغة الأهمية، خصوصا مع امتلاك سلاح الجو الإسرائيلي قدرات متقدمة بفضل مقاتلات "إف-35".
وأوضح المعهد أنه لمعالجة هذه المسألة، تمتلك الحكومة التركية عدة خيارات. ورغم أن المسؤولين الأتراك أثاروا أحيانا فكرة شراء مقاتلات روسية أو صينية، فإن هذا الاحتمال يبدو ضعيفا الآن.
ويرجع ذلك إلى أنه قد يثير معارضة داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فضلا عن طول فترة التكيف المطلوبة مع أنظمة مختلفة كليا عن تلك التي تشغلها تركيا حاليا.
وبدلا من ذلك، برزت في السنوات الأخيرة ثلاثة بدائل أكثر احتمالا للتنفيذ: الشراء من الولايات المتحدة، أو من أوروبا، أو عبر صناعة الدفاع التركية نفسها.
وخلال إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، تفاوض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع واشنطن لتحديث أسطول تركيا من طائرات "إف-16" من خلال شراء طائرات أكثر تطورا من نفس الطراز وحزم ترقية للطائرات الموجودة بالفعل في الخدمة.
في أوائل عام 2024، وافق بايدن على الصفقة مقابل موافقة أنقرة على انضمام السويد إلى الناتو. ومع ذلك، بحلول نهاية ذلك العام، تخلت تركيا عن صفقة حزم الترقية، معتبرة أنه لديها حلولا محلية.
وفي العام نفسه، ألمح مسؤولون أميركيون إلى إمكانية انضمام تركيا مجددا إلى مشروع "إف-35"، ثم خلقت عودة ترامب إلى الرئاسة زخما جديدا؛ إذ كثيرا ما يُنظر إليه على أنه أكثر قربا لأردوغان من بايدن.
وأعرب ترامب عن استعداده لدفع هذه القضية قُدما، وفي ظل الواقع الجديد في واشنطن، قررت تركيا تركيز جهودها مع الإدارة الأميركية على استعادة الوصول إلى برنامج "إف-35".
وبالتوازي، في عام 2023، ومع تعثر المفاوضات مع واشنطن، اتجهت أنقرة أيضا إلى اتحاد طائرات “يوروفايتر”، ولكن يتطلب شراء أي مقاتلات منها موافقة الدول الأعضاء (ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا).
ولأشهر عدة، شكلت معارضة ألمانيا؛ بسبب عمليات تركيا في شمال سوريا وسجلها بمجال حقوق الإنسان، العقبة الرئيسة أمام تقدم المفاوضات، وفق المعهد.
وفي 23 يوليو/تموز 2025، رفعت لجنة صادرات الأمن الألمانية الفيتو، فيما جرى توقيع اتفاق مبدئي بين وزيري خارجية بريطانيا وتركيا لشراء المقاتلات.
أما إسبانيا وإيطاليا، وهما أيضا شريكتان في المشروع، فلا يُتوقع أن تعارضا استمرار المفاوضات بين الطرفين، ما جعل الخيار الأوروبي الأكثر ترجيحا خلال الأسابيع الأخيرة.
والخيار الثالث لأنقرة يرتكز على صناعتها الدفاعية الوطنية، التي شهدت تطورا سريعا في السنوات الأخيرة؛ فقد بدأت تركيا بالفعل في تحديث أجزاء من أسطولها من مقاتلات "إف-16" باستخدام أنظمة محلية الصنع.
غير أن مشروعها الأبرز هو مقاتلة "قآن"، الطائرة الحربية الوطنية لتركيا، وقد نفذ النموذج الأولي منها أول رحلة تجريبية عام 2024.
ويؤكّد المسؤولون الأتراك أن الطائرة ستتمتع بقدرات توازي أحدث أجيال المقاتلات، اعتمادا بشكل كبير على التقنيات التركية.
وقال المعهد الإسرائيلي: إلى جانب دوره العسكري، أصبح مشروع "قآن"، الذي بدأ عام 2016 قبل استبعاد تركيا من برنامج "إف-35"، رمزا محوريا في دعاية النظام، وأداة لتعبئة الناخبين القوميين لأغراض داخلية.
كما يُراد للطائرة أن تتحول إلى منتج تصديري رئيس لصناعة الدفاع التركية. ففي يوليو/تموز 2025، أصبحت إندونيسيا أول زبون خارجي يقتني "قآن"، بعد توقيع عقد لشراء 48 طائرة تُسلّم خلال 10 سنوات. وقد أبدت دول أخرى، من بينها باكستان، والسعودية، والإمارات، ومصر، اهتماما بالطائرة.

تحول لصالح تركيا
وتابع المعهد: "يبدو أن أنقرة باتت اليوم تملك خيارات أكثر مما كانت عليه قبل سنوات، حين كانت الدول الغربية ترفض بيع أسلحة متطورة للجيش التركي".
هذا التحول -بحسب المعهد- يعكس تحسن المكانة السياسية لتركيا، نتيجة أهميتها المتزايدة في سياق حرب أوكرانيا وسقوط نظام الأسد في سوريا. غير أن ذلك يضع القيادة التركية أيضا أمام بدائل متعددة، لكل منها مزايا ومخاطر مختلفة.
إذ يمثّل تحديث مقاتلات "إف-16" الموجودة أصلا لدى تركيا خيارا قصير المدى وأقل كلفة نسبيا، لكنه حتى في حال تنفيذه، لن يجسر الفجوة بين سلاح الجو التركي والجيوش الأخرى، بل سيُضيّقها فحسب، خصوصا إذا اعتمد أساسا على تقنيات تركية.
أما التوجه إلى واشنطن، سواء لتحديث الطائرات الحالية أو الحصول على طائرات "إف-16" جديدة، فسيُبقي تركيا في دائرة التبعية للولايات المتحدة.
ورغم أن الصفقة حظيت بالموافقة، فإن تمريرها بالكونغرس واجه عقبات بسبب ضغوط جماعات ضغط يونانية وأرمنية وكردية وأخرى موالية لإسرائيل.
كما أن تردد تركيا في إتمام عملية الشراء يعود جزئيا إلى رغبتها في إعادة الانضمام إلى برنامج "إف-35"، بحسب تقييم المعهد.
وعلى هذا، يرى أن عودة تركيا إلى برنامج "إف-35" يظل معقدا، إذ قد يواجه معارضة أشد في الكونغرس بسبب تأثيره الكبير على موازين القوى الإقليمية، خاصة مع تصاعد التوتر بينها وبين إسرائيل حول الملف السوري، ورفض تل أبيب أن تُباع هذه الطائرات لأنقرة خشية مواجهة مباشرة.
كما أن الخلاف حول منظومة "إس-400" الروسية لا يزال عائقا أمام التفاهم مع واشنطن وحلف الناتو.
أما الخيار الأوروبي، فقد بات أكثر واقعية مع انفتاح شركات تصنيع يوروفايتر على تزويد أنقرة بمقاتلاتها، رغم بقاء تفاصيل التفاوض مفتوحة.
ورغم أنها ليست طائرة من الجيل الخامس وتُعد أدنى من رافال الفرنسية، لكنها متفوقة في مهام الدفاع الجوي ويمكن أن تمنح تركيا قدرة على موازنة بعض جيرانها في المواجهات الجوية.
في هذا السياق، علّق رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، بأن منع تركيا من شراء السلاح أمر غير واقعي.
لكنه شدّد على ضرورة فرض قيود وضمانات من قبل الحلفاء الأوروبيين، بما في ذلك عدم استخدام هذه المقاتلات ضد أي دولة عضو في الناتو، وخاصة عدم اختراق المجال الجوي اليوناني.
ويحرر خيار الطائرة الوطنية التركية أنقرة من الاعتماد على مفاوضات مطولة مع قوى أجنبية تطلب تنازلات في قضايا حساسة، لكن هذا القرار ينطوي على العديد من المخاطر.
فلا يزال المُعلقون الأجانب يُشككون في القدرات الحقيقية لطائرة "قآن"، التي لا تزال تعتمد على تقنيات أجنبية في جوانب حيوية، بما في ذلك المحركات.
وهكذا، تواجه أنقرة بدائل غير مثالية، ويتأثر قرارها بالعديد من التقديرات: القدرات التشغيلية للطائرة، وتكلفتها، وآفاق نجاح شرائها أو إنتاجها، ووقت التسليم، والعلاقات الخارجية مع الدول الأخرى، وحتى صورتها في الساحة السياسية المحلية. بحسب المعهد.
ويرى أن "المشتريات التركية من مصادر غربية لا تزال أفضل من البدائل؛ إذ تمنح الولايات المتحدة وأوروبا نفوذا في حال تبنت تركيا سياسة عدوانية تجاه جيرانها".
وختم المعهد بتحذير جاء فيه: "في كل الأحوال، ينبغي على دول المنطقة بما فيها إسرائيل، الاستعداد لاحتمال تطوير سلاح الجو التركي في المستقبل القريب".