"سعيد" هزم "بن علي".. السيناريوهات المتوقعة في تونس بعد مسرحية الانتخابات

12

طباعة

مشاركة

بعدما قادت العالم العربي في "ثورات الربيع"، شهدت تونس في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 “تمثيلية هزلية” محسومة لانتخابات الرئاسة، نافس فيها ديكتاتور نفسه، اسمه قيس سعيّد.

وذلك بعدما منع 7 مرشحين كبار من الترشح، وسمح بمرشحين فقط أمامه، سجن أحدهما، وترك الثاني المؤيد له، ما أظهر أنه "كومبارس".

وهذه أول مرة تجرى فيها انتخابات رئاسية "يصعب العثور فيها على شيء يدل على أن هناك انتخابات، فلا ملصقات ولا تجمعات ولا مناظرات تلفزيونية وإنما أجواء قاتمة وخيبة أمل تخيم على التونسيين"، حسبما ذكرت القناة الثانية الفرنسية.

وقبل الانتخابات بأسابيع، ترددت عبارة "قيس سعيد رئيسا لتونس لولاية ثانية"، لأن كل المؤشرات أظهرت أن الأستاذ السابق في القانون الدستوري، تحول إلى ديكتاتور بدعم من الدولة العميقة، يستعد لخلافة نفسه والبقاء داخل قصر قرطاج.

المظاهرات التي سبقت الانتخابات كانت رسالة واضحة تتهم سعيد بتدمير مؤسسات الدولة وإغراق البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة بعد 3 سنوات من انقلابه على الدولة وإعادة تونس إلى عهد ما قبل الربيع العربي.

تقارير ودراسات رجحت أن تدخل تونس بعد هذه التمثيلية، إما مرحلة (رئيس النظام، عبد الفتاح) "السيسي" في مصر ودفن الربيع العربي، أو انتفاضة التونسيين ضد سعيّد وتكرار مشهد (زين العابدين) "ابن علي هرب"، لكنهم يرجعون الحسم في الحالتين لموقف المؤسسة العسكرية.

90 بالمئة!

كانت آخر انتخابات ديكتاتورية محسومة في تونس هي استحقاقات 25 أكتوبر 2009 التي أُعلن فيها فوز الرئيس الراحل السابق ابن علي بنسبة 89.6 بالمئة، وفق مجلة "باري ماتش" الفرنسية، وبعدما هرب عام 2011 وبدأ عهد الانتخابات الحرة.

لذا كانت مفارقة أن يُعلن فوز سعيد بولاية ثانية بنسبة أعلى من الديكتاتور "ابن علي".

حيث أعلن فوزه بداية في استطلاع لمؤسسة "سيغما كونساي" الخاصة بنسبة 89.2 بالمئة، ثم أعلنت هيئة الانتخابات رسميا فوزه بـ90.7 بالمئة من الأصوات، وفترة رئاسة ثانية.

هذا يعني عودة النسبة التي يحصل عليها الديكتاتوريون في العادة والتي تزيد عن 90 بالمئة، مقابل 7.3 بالمئة للمرشح المسجون، العياشي زمال، و1.9 بالمئة للنائب السابق زهير المغزاوي (الكومبارس) الذي أعلن تأييده لسعيد.

وتم انتخاب سعيد في المرة الأولى عام 2019 وبدعم من غالبية الأحزاب بما فيها النهضة، بـ73 بالمئة من الأصوات، وبنسبة مشاركة 58 بالمئة، بعدما خدع الجميع بخطاباته الحماسية باللغة العربية وحديثه عن محاربة الفساد.

ورغم الرفض الشعبي والمظاهرات الضخمة ضده، ومقاطعة الشعب للانتخابات حيث لم يشارك سوى 28 بالمئة في انتخابات 2024، تم "إنجاحه" بنسبة أكبر من نسبة فوز ابن علي من قبل الدولة العميقة، ما عده تونسيون “تزويرا واضحا”. 

واختارت أغلب أحزاب المعارضة مقاطعة الانتخابات، ووصفوها بأنها "خدعة"، بعدما تم سجن أبرز منتقدي سعيد إلى جانب الصحفيين والمحامين والناشطين وشخصيات المجتمع المدني البارزة. 

ونددت المعارضة التي يقبع أبرز زعمائها في السجون، ومنظمات غير حكومية محلية وأجنبية، بـ"الانجراف السلطوي" من خلال الرقابة على القضاء والصحافة، والتضييق على منظمات المجتمع المدني واعتقال نقابيين وناشطين وإعلاميين.

وقالت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية في 7 أكتوبر 2024 إن فوز سعيد بهذه النسبة الساحقة التي تقترب من 91 بالمئة، “جاء بعد حملة قمع لمعارضيه، وسجنهم إلى جانب صحفيين ونشطاء ومحامين”.

أرقام سحرية

ووصف وزير خارجية تونس السابق، رفيق عبد السلام، ما جرى بأن "سعيد أعاد تونس إلى مربع الأرقام السحرية للديكتاتوريات العربية".

وأوضح أن الرؤساء يفوزون بعد الثورة بما يزيد عن 50 بالمئة قليلا، أما في الديكتاتوريات مثل عهد سعيد فالنسبة في دائرة 90 بالمئة بعدما منع منافسيه ورفض تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بمشاركتهم، وسجن آخرين، وأخيرا تلاعب بالصناديق.

وقبل الانتخابات، قلصت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قائمة طويلة من 17 مرشحا للرئاسة إلى ثلاثة فقط بعد سلسلة من الاستبعادات المشبوهة.

ومن بين الثلاثة المتبقين، سُجن النائب السابق زامل بتهمة تزوير وثائق وجرت الانتخابات وهو في سجنه كمرشح رئاسي.

وقال بسام خواجة، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة "هيومن رايتس ووتش" لصحيفة "الغارديان" البريطانية في 5 أكتوبر 2024 إنه "منذ بدء الفترة الانتخابية في 14 يوليو/تموز، قامت السلطات بمحاكمة أو إدانة أو احتجاز ما لا يقل عن 9 مرشحين محتملين".

وفي عام 2021، علق سعيد عمل البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة "الإسلامية" وأقال رئيس الوزراء. 

وفي العام التالي، أجرى استفتاء مزورا لتعديل الدستور ومنح نفسه سلطات واسعة، منها سلطة تعيين القضاة وأعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات السبعة وفصلهم متى شاء.

كما تم اعتقال أكثر من عشرة من زعماء حزب المعارضة الرئيس، حركة النهضة، أبرزهم الشيخ راشد الغنوشي، وزادت حملة الاعتقالات مع الانتخابات لتطال 200 من أعضاء الحزب.

وتزامن سعي سعيد إلى تحقيق أجندة استبدادية مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في تونس، حيث ارتفعت معدلات البطالة وبلغت معدلات التضخم أرقاما مزدوجة.

وتعرض سعيد لانتقادات شديدة من غالبية الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، واتهمه الجميع بقيادة “تونس نحو المجهول”، والسعي لتصفية خصومه الأقوياء خصوصا "النهضة"، لأنه كان الفائز الأكبر في الانتخابات وسيطر على الحياة السياسية خلال السنوات العشر من التحول الديمقراطي عقب الإطاحة بابن علي عام 2011.

ومع هذا زعم سعيد في أول تعليق له للتلفزيون الرسمي على هذه النتائج العجيبة للانتخابات، التي تُعد انقلابا على "ثورة الياسمين" أن "ما نعيشه هو استكمال للثورة.. سنبني ونشيد وسنطهر البلاد من الفاسدين والخونة والمتآمرين!".

دلالات الفوز

دلالات هذا الفوز لسعيد عديدة، منها عودة تونس لمربع الديكتاتوريات العربية ودفن ربيعها العربي بالكامل، ورضاء الدولة العميقة عن سعيد ورعايتها لتوليه السلطة مجددا بعدما قدم لأركانها خاصة الجيش والشرطة امتيازات عربونا للولاء.

كما أن صمت ومباركة الدول الغربية، خاصة أوروبا، لهذا القمع الذي انتهى لانتخابات مزورة، مؤشر آخر لصفقة أو اتفاق مصالح ضمني بين النظام في تونس وهذه الدول، على طريقة "سيسي مصر"، يسمح بدعم كرسي الحكم مقابل إبعاد المهاجرين بالقوة عن أراضي أوروبا.

وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية في 6 أكتوبر 2024، إن سعيد "جعلته أوروبا شريكا مميزا في سياسات احتواء الهجرة".

وأوضحت أن فرنسا وأوروبا “تشاهدان بدون مبالاة مغامرة سعيد الديكتاتورية المحفوفة بالمخاطر، لكن الديمقراطية لا تهمهم وكل ما يهمهم هو تعاونه في ملف وقف تدفقات الهجرة نحو إيطاليا”.

وأمر سعيد بشن حملة صارمة على "المهاجرين السود" غير المسجلين عام 2023، وهو ما أثار انتقادات من مختلف أنحاء العالم، ولكن الاتحاد الأوروبي مع ذلك مضى قدما في صفقة بقيمة 105 ملايين يورو مع تونس لوقف الهجرة غير النظامية.

وساعد الاتفاق في تمويل وحدات أمنية كانت، بحسب تحقيق أجرته صحيفة "الغارديان" في 19 سبتمبر 2024، ترتكب أعمال عنف جنسي واسعة النطاق ضد النساء على طرق الهجرة في أراضيها.

وبمجرد توليه الحكم عام 2019، انقلب سعيد على التجربة الديمقراطية وقام بتغيير قواعد اللعبة السياسية، فحل البرلمان وطوع المؤسسات المختلفة خاصة القضاء، لخدمة النهج الديكتاتوري الجديد.

وانقلب على داعميه، وأولهم حزب النهضة، الذي سجن قرابة 200 من قادته وأنصاره، مستفيدا من دعم العسكر والأجهزة الأمنية وقوى الثورة المضادة والدولة العميقة، التي لها ثأر مع ثورة 2011.

وقبل انتخابات 2024، رجحت توقعات أن تعود الدولة العميقة لرشدها وتتوقف المؤسسات العسكرية والأمنية خصوصا عن دعم سعيد، وتعيد الديمقراطية، قبل أن تشهد البلاد ثورة جديدة.

وطالب الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي في 12 يوليو/تموز 2024 كل أطراف الدولة العميقة، بما فيها الجيش والأمن، "ألا يسمحوا باستمرار سعيد في سدة الحكم، وألا يسمحوا له بتزوير الانتخابات".

ودعاهم إلى إيجاد "حل بديل يعيد المسار الديمقراطي على السكة، وإلا فإن تونس ستدخل في مرحلة تفكك الدولة، وتعفن المجتمع".

إلا أن تجديد "الدولة العميقة" البقاء في مقعد الحكم، لسعيد في انتخابات 2024، يشير لاختيارها النهج الديكتاتوري وإجهاض الربيع العربي، وتوافق مصالحها مع مصالح الديكتاتور الجديد.

ثمن البقاء

وقبل الانتخابات سعى سعيد لاستقطاب أركان الدولة العميقة والعسكر بالحوافز، فعيّن عسكريين وقضاة في مناصب وزارية وسياسية.

واستقطب قيادات أمنية ورموزا من الدولة العميقة بامتيازات أخرى، ما عد "رشوة"، وثمنا لبقائه في الحكم، مقابل ضمان مصالح رموز الدولة العميقة.

وقبل ذلك توافقت معه الدولة العميقة، حين جمد الحياة السياسية وشل الدولة تماما، ولم يقدم أي بديل إصلاحي يبرر انقلابه، ثم حين زور انتخابات 2024 ليبقى في السلطة ومنع أي منافس حقيقي له، لأن هذا يتوافق مع أهداف رموز "العميقة".

ويرى محللون أن تجديد الدولة العميقة لسعيّد معناه أن مصالح أطرافها، وجدت فيه الرمز الذي تتعايش من خلالها، في ظل اختطافه الديمقراطية وتناسب هذا مع البيئة التي تتعايش فيها أركان الدولة العميقة وهي الاستبداد والفساد.

وكانت دراسة لـ"المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية الأمنية والعسكرية" شرحت في 26 أبريل/نيسان 2023 أن شبكة الدولة العميقة داخل تونس في الوقت الحالي "متداخلة ومتشابكة بسبب عدم استقرار المشهد السياسي منذ عام 2011".

لكن الدراسة أكدت أنها "لا تزال ثابتة كدولة موازية للحفاظ على مصالحها وقادرة على ضمان التناغم وحصول عدم الاختلاف وتضارب المصالح والتصادم".

وبجانب دعم الدولة العميقة لسعيد والتجديد له مقابل إسباغ الحوافز على رموزها في الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية خصوصا، كأحد دلالات فوزه، هناك دلالة أخرى هي رضا الدول الأوروبية عن هذه الديكتاتورية لأسباب تتعلق بدور سعيد في منع الهجرة لأوروبا، وهو دور سبقه إليه السيسي.

استنساخ السيسي  

باتت تونس أمام سيناريوهين، الأول، استنساخ السيسي في تونس، في صورة سعيد، ودفن الربيع العربي رسميا بعد إجهاض آخر تجربة ديمقراطية، وتلاشي أحلام الربيع العربي.

أما السيناريو الثاني، فهو توحد وانتفاضة التونسيين كما حدث في ثورة 2011 ضد نظام سعيد الذي بات واجهة جديدة للدولة العميقة، ومحاولة استعادة تونس وتكرار نموذج "ابن علي هرب".

السيناريو الأول، بات ظاهرا منذ انقلاب سعيد على الديمقراطية وحل البرلمان وتغيير القوانين بما يعزز سلطاته على القضاء والحياة السياسية.

وجاءت انتخابات 2024 المزورة، وفق التونسيين، لتضع عبارة النهاية للربيع التونسي.

صحيفة "لوموند" الفرنسية ذكرت أن "الانحدار نحو الديكتاتورية لا نهاية له في تونس، ويمثل انتكاسة مذهلة نحو الاستبداد، ما يدمر إنجازات التحول الديمقراطي الذي حدث عام 2011".

ووصفت، عبر افتتاحيتها في 4 أكتوبر 2024، الانتخابات الرئاسية بأنها "مرحلة جديدة من اندفاع سعيد المتهور نحو تعزيز سلطته الشخصية".

ويتم تكميم وسائل الإعلام وتقييد الجمعيات، ويبرر سعيد هذا التصعيد القمعي بأنه تعقب للمؤامرات التي تحاك من الخارج.

ويشير تحليل لـ"معهد التحرير" (غير حكومي) نشره في 4 أكتوبر 2024 إلى أنه "رغم كل المؤامرات القانونية والسياسية لعرقلة المرشحين والسيطرة على الانتخابات، هناك نتائج إيجابية يمكن للتونسيين المؤيدين للديمقراطية الاستفادة منها".

وأوضح أن الطبيعة الصارخة لانتهاكات سلطات سعيد "أدت إلى تجدد الاحتجاجات والتعبئة بعد فترة من الانفصال السياسي".

وأشار المعهد إلى “نجاح الجماعات المدنية والسياسية المعارضة لسعيد في إعادة إشعال الاهتمام العام بالقضايا السياسية، والتحدي حاليا هو في الحفاظ على هذا الزخم والبناء على النشاط المتجدد لإبقاء الجمهور منخرطا في الخطاب السياسي”.