تلاميذ المغرب بذيل الترتيب العالمي في العلوم والرياضيات.. من المسؤول؟
“تدريس العلوم باللغة الفرنسية هو السبب”
ما يزال خبراء التربية والتعليم بالمغرب يدقون ناقوس الخطر إثر موجة “الفرنسة” المعتمدة في التدريس، والتي خلفت نتائج سلبية، ومنها ما ورد في ترتيب المغرب التعليمي في تقارير دولية.
وفي هذا الصدد، كشف تقرير "تيمس 2023"، الذي أصدرته الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي "IEA"، في 4 ديسمبر/كانون الأول 2024، تذيل التلاميذ المغاربة للترتيب العالمي فيما يخص معدلات التحصيل في الرياضيات والعلوم، سواء تعلق الأمر بتلاميذ السنة الرابعة ابتدائي أو الثانية إعدادي.
وذكر التقرير أن المغرب من بين آخر ثلاث دول في التصنيف، حيث لم يحسن ترتيبه مقارنة بآخر تقرير والذي يعود إلى عام 2019، واستمر تنقيطه دون المعدل الدولي البالغ 500 نقطة.
وفقد المغرب 67 نقطة في تقييم "تيمس 2023 للعلوم" المستوى الثاني إعدادي وهي أسوأ نتيجة منذ 25 عاما، حيث لم يحصل تلاميذه سوى على 327 نقطة في العلوم، ليحتلوا المركز ما قبل الأخير، وخلفهم الكوت ديفوار فقط، في حين احتل تلاميذ سنغافورة المرتبة الأولى بـ606 نقاط.
أسباب متداخلة
في تحليله لهذه النتيجة، قال رئيس مؤسسة "أماكن" لجودة التربية والتعليم، عبد الناصر ناجي، إن ترتيب المغرب في هذا التصنيف الجديد "مؤسف للغاية ويثير القلق".
وأضاف ناجي لـ"الاستقلال"، أن "ما يثير القلق أن نسبة التلاميذ المتحكمين في الحد الأدنى للكفايات في العلوم، تراجعت في الإعدادي من 48 بالمئة إلى 18 بالمئة فقط، وهي أقل نسبة مسجلة بين الدول المشاركة وأضعفها على الإطلاق في المشاركات المغربية السابقة".
وعزا الخبير التربوي التراجع الكبير في مرحلة الإعدادي لأسباب متعددة، بينها "عدم تمكن المنظومة التربوية من تدارك الخصاص في التعليم الذي عانى منه المتعلمون إبان جائحة كورونا، وانتهاج سياسة الانتقال من الابتدائي إلى الإعدادي دون استحقاق النجاح".
وكذلك "ضعف تكوين المدرسين في المواد العلمية، الذي تفاقم مع سياسة التوظيف بالتعاقد، التي راهنت على الكم دون الاهتمام كثيرا بجودة المدخلات، خاصة مع ضعف عدد الحاصلين على الإجازة في التربية من جهة، وضعف التكوين الجامعي في هذه التخصصات".
وفي السياق نفسه، وقف ناجي عند تأثير تبني تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، في الوقت الذي يشكو فيه التلامذة من ضعف في هذه المادة، ما يؤثر على تحصيلهم الدراسي في العلوم.
وطالب بضرورة مراجعة المنهاج الدراسي الوطني، لينسجم أكثر مع مضامين المنهاج الذي يُمتحن فيه التلامذة في هذا التقييم الدولي، مبرزا أن "هذه الخطوة أصبحت ضرورة ملحة".
ويعد اختبار “TIMSS” اختصارا لـ(Trends in International Mathematics and Science Study) تقييما دوليا يُجرى لقياس أداء الطلاب في الرياضيات والعلوم على مستوى العالم، وجرى تنظيمه كل أربع سنوات، ويستهدف طلاب الصفين الرابع والثامن.
ويهدف اختبار “TIMSS” إلى تقييم مستوى تحصيل الطلاب في الرياضيات والعلوم، مع التركيز على قياس المعرفة الأساسية وقدرات حل المشكلات، كما يساعد الاختبار في تحليل الفجوات بين الأنظمة التعليمية حول العالم، مما يتيح تقديم توصيات لتحسين المناهج وأساليب التدريس.
ويشمل محتوى "تيمس" في الرياضيات مواضيع مثل الأعداد والجبر والهندسة والإحصاء، وفي العلوم مواضيع كالأحياء والكيمياء والفيزياء والجغرافيا البيئية، ويُعد الاختبار أداة عالمية لتحديد عوامل النجاح والضعف في التعليم وتعزيز جودته.
مسؤولية الحكومة
من جانبه، توقف كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، خالد الصمدي، عند مسؤولية الحكومة وعلاقة هذه النتائج بعدم تطبيق القانون ومواده المتعلقة بالتربية والتعليم.
وقال الصمدي لـ"الاستقلال"، إن "هذه النتيجة تستوجب من الحكومة حسن القراءة، وبالجدية اللازمة، والعودة إلى جادة القانون".
وحذر المسؤول الحكومي السابق من العكس، "أي أن تصم الحكومة آذانها، وتستمر في غيها وإصرارها، دون أن يهز هذا التصنيف المخجل لها الجفون".
ونبه إلى أن “القانون الإطار ينص على اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس، وعلى اعتماد التناوب اللغوي في تدريس بعض المضامين، أو في تدريس بعض المواد باللغات الأجنبية إلى جانب اللغات الوطنية (العربية والأمازيغية)، في قطع مع الأحادية اللغوية (الفرنسية) في تدريس المواد العلمية والتقنية”.
واستطرد: “كما ينص على اعتماد تفاصيل الهندسة اللغوية (استثمار المكتسبات اللغوية والثقافية العربية والأمازيغية الأولية للطفل) في كل مكونات المنظومة التربوية بموجب مرسوم”.
وأوضح أن “القانون ينص على التنزيل التدريجي لهذه المقتضيات بعد مرور ست سنوات، من دخول مقتضيات القانون حيز التنفيذ، تُخصص لتمكين المتعلمين من اللغات المدرسة ولغات التدريس، تفاديا لكل ارتباك”.
وشدد الصمدي على أن “كل هذه المقتضيات ضَربت بها الحكومة عرض الحائط، وأصرت على تجميد مرسوم الهندسة اللغوية، الذي أبدى فيه المجلس الأعلى للتربية والتكوين (دستوري) رأيه مرتين متتاليتين”.
وأضاف، فضلا عما نراه من التعميم القسري لما تسميه بـ"الخيار الدولي"، وإلغاء الخيار الوطني في الثانوي والإعدادي، ضدا على رغبات الآباء ومدرسي المواد العلمية الذين دقوا ناقوس الخطر في غير ما بيان.
ولفت الصمدي إلى أن "الحكومة أصرت كذلك على اعتماد الأحادية اللغوية (الفرنسية) خارج القانون في تدريس المواد العلمية والتقنية، رغم إقرارها في تقارير رسمية بضعف جل المتعلمين في هذه اللغة".
وتابع: "هذا ما جعلنا نصل إلى هذه النتيجة المؤسفة جدا، والتي تستوجب التوقف عن المضي في هذا المسار الذي دخلته الحكومة في تعاملها مع ملف التربية والتعليم".
تفسير الحكومة
نظرا للتفاعل الكبير الذي خلفته نتائج هذا التقييم بالمغرب، سارعت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، إلى إصدار بيان في اليوم نفسه، أي في 4 ديسمبر 2024، حاولت فيه التقليل من مستوى الخسائر المسجلة، والتأكيد بأن النتائج المغربية “عرفت تحسنا نسبيا أو طفيفا”.
وقالت الوزارة إن "نتائج البحث الدولي أبرزت ضرورة تعزيز البرامج التعليمية وطرق التدريس لتقوية المهارات العلمية لدى التلاميذ، وتحقيق مستويات أعلى في التقييمات المستقبلية".
وشددت على أن "هذا ما تعمل على تحقيقه من خلال شروعها في تنزيل نموذج مدارس الريادة بالسلك الابتدائي على مستوى 626 مدرسة مع بداية سبتمبر/ أيلول 2023 من الموسم الدراسي 2023/2024، وعلى مستوى الابتدائية و232 ثانوية إعدادية مع بداية الموسم الدراسي 2024/2025".
ونبهت إلى أن "من الأهداف الإستراتيجية لخارطة الطريق 2022/2026 الرفع من نسبة التلاميذ الذين يتحكمون في المجال التعليمي الأساسي، وتدريبهم على الاستخدام الجيد والآمن للحواسيب والتجهيزات الرقمية الأخرى في التحصيل الدراسي، وكذا في التقييمات الوطنية والدولية".
وفي تعليقه على بيان الوزارة، قال الصمدي، إن “تفسير الوزارة التراجع المسجل باستعمال التلاميذ للحواسيب لأول مرة في هذا التقييم أثار كثيرا من الاستغراب”.
ورأى الصمدي لـ "الاستقلال" أن الحكومة بهذا التفسير، تسكت عن العوامل الحقيقية لهذا التراجع، والتي يأتي على رأسها لغة تدريس هذه المواد، في ظل إصرار الحكومة غير المفهوم على إقبار مرسوم الهندسة اللغوية، وتعطيل مقتضيات القانون الإطار ذات الصلة".
من جانبه، قال التربوي أحمد جاكوم، عبر حسابه على فيسبوك في 4 ديسمبر 2024، إن "تقييم TIMSS الدولي يؤكد تراجع مستوى التلاميذ المغاربة في العلوم بـ68 نقطة ما بين 2019 و2023"، ويرى أن "تدريس العلوم باللغة الفرنسية هو السبب".
تحديات بنيوية
من جانبه، أكد موقع "كلامكم" المحلي، في 4 ديسمبر، أن “بعض الدول المشاركة في التقييم حققت تطورا ملحوظا في نتائجها بفضل الاستثمار المستمر في منظوماتها التعليمية، فيما يعكس أداء المغرب استمرار التحديات البنيوية التي تعيق تحسين جودة التعليم”.
وذكر الموقع في تعليق على التقرير، أن “هذا التراجع يعد انعكاسا مباشرا لعدة عوامل، منها ضعف التكوين المستمر للمدرسين، وقلة الموارد المخصصة لتطوير التعليم في المواد العلمية، إضافة إلى غياب سياسات فعالة لدعم الكفايات الأساسية لدى التلاميذ”.
ورأى أن “هذه النتائج تثير العديد من التساؤلات حول فعالية البرامج الإصلاحية التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية، ومدى تأثيرها الحقيقي على تحسين جودة التعليم”.
وشدد على أن "الفجوة الكبيرة بين أداء التلاميذ المغاربة وأقرانهم في الدول الأخرى تشير إلى الحاجة الملحة لإعادة النظر في الإستراتيجيات المتبعة، بدءا من المناهج الدراسية إلى تدريب الأساتذة وتوفير بيئة تعليمية داعمة".
ونبه الموقع إلى أن “نتائج TIMSS 2023 ليست مجرد أرقام، بل هي جرس إنذار ينبه إلى أن مستقبل الأجيال القادمة مهدد ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة وشاملة لإصلاح التعليم”.
وذكر أنه "مع اقتراب المغرب من تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، يتوجب على الجهات المسؤولة وضع التعليم على رأس الأولويات لضمان إعداد جيل قادر على المنافسة عالميا".
وخلص إلى أن "هذا الوضع يتطلب حوارا وطنيا شاملا، يشارك فيه كل الفاعلين في قطاع التعليم والمجتمع المدني، لإيجاد حلول مستدامة تُخرج المغرب من دائرة التراجع وتضعه على طريق النهوض التعليمي".
“روائز” تربوية
هناك العديد من “الروائز” التي تخلق تفاعلا في المغرب، خاصة مع تذيل التلاميذ لنتائجها، ومنها البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ “PISA”، وبرنامج بيلز “PIRLS” الذي يستهدف قياس الكفاية القرائية، وتيمس “TIMSS” الذي يستهدف مكتسبات الرياضيات والعلوم.
و“الروائز” يقصد بها اختبارات وفحوص متنوعة يراد بها قياس القدرات العقلية لدى التلاميذ، ورصد مهاراتهم واستعداداتهم ومواقفهم وميولهم.
وفي هذا الصدد، رأى المفتش التربوي السابق محمد سالم بايشى، أن "النتائج السلبية التي يحصدها المغرب في عدد من الروائز التربوية، يرجع إلى عاملين أساسيين، يؤثران على نتائجنا في التقويمات الدولية، أولهما ما يتعلق بالاختيارات البيداغوجية (التربوية) وتنزيلها ميدانيا، وثانيهما ما يتعلق بثقافة التقويم والروائز والاختبارات".
وأضاف بايشى لـ"الاستقلال"، أن “الوثائق المرجعية للإصلاح التربوي مثل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والرؤية الإستراتيجية 2015-2030، وما جاء في النموذج التنموي (خطة تعنى بالتنمية)، تضمنت رؤى متقدمة للإصلاح في مختلف مستوياته ومجالاته، لكن السياسات التربوية التي حاولت تنزيل هذه الرؤى لم توفق في غالب الأحوال”.
واسترسل: "حيث يلاحظ المتتبع أن هناك هوة بين هذه الرؤى المؤطرة، والممارسات الميدانية على أرض الواقع، نتيجة لغياب تصور واضح منسجم يربط تلك الاختيارات الكبرى بالواقع الميداني، ويقدم للممارسين أدوات عمل ناجعة، بدءا بالنموذج البيداغوجي (التربوي) والمقاربات الديداكتيكية (طرق التدريس وتقنياته)، إلى نظام التقويم والدعم والتتبع والمواكبة".
ونبه المتحدث ذاته إلى أنه "لا يزال تعليمنا يركز على الكم بدل الكيف، وعلى الحفظ الآلي مع قلة الفهم، وعلى الإلقاء بدل المشاركة والتفاعل، وعلى استرجاع المعلومات بدل تحليلها وإبداء الرأي فيها، وعلى التقليد بدل النقد والإبداع".
وأضاف “في حين أن متطلبات التعلم اليوم، ومتطلبات الروائز (الاختبارات والبرامج) الدولية تتجاوز مثل هذه الممارسة التي دخلت التاريخ في البلدان المتقدمة تربويا”.
ورأى بايشى أنه “من جوانب القصور في نظامنا التربوي التي لا ننتبه إليها كثيرا ثقافة التقويم والاختبارات، وهو مجال أصبح مستقلا في حد ذاته تحت مسمى الدوسيمولوجيا (Docimologie)، قد يتخرج فيه الفرد مستقلا أو يتدرب عليه ضمن تكوينات مهن التربية والتكوين. لكن ممارستنا الميدانية لا تأخذ به إلا قليلا، فهي تتوارث ممارسات تقليدية جيلا بعد جيل”.
وشدد على أن “أولى خطوات المسار الصحيح هو أن نقر بالمشكل ونعمل على تشخيصه، فنُثَمِّن ما هو إيجابي في تجربتنا ونصحح السلبي، ونحلل نتائجنا في التقويمات الدولية، ونعمل على أخذ نتائج ذلك التحليل في بناء مناهجنا التربوية وتجديدها”.
وثاني هذه المسارات، اقترح بايشى وضع نظام واضح للتقويم، يدرج التقويم اليومي والمراقبة المستمرة و"الروائز"، ويتماشى مع المستجدات، ويستفيد من التجارب الدولية في المجال.
وفيما يخص ثالث هذه المسارات، دعا الخبير إلى “انطلاقة باستعجال ويتمثل في إدماج المهارات العليا كالتحليل والتركيب والنقد والتقويم والإبداع في الممارسة اليومية للأساتذة، حتى يفكوا ارتباط المتعلمين بالنماذج الجاهزة، والتعلمات المحنطة، ويفتحوا عقولهم أمام آفاق المعرفة وأدواتها”.
وأضاف، أما رابع هذه المسارات فهو “إدراج الأطر المرجعية للروائز الدولية المشهورة ضمن منهاجنا التربوي ونظامنا التقويمي”.
وخامس هذه المسارات بالنسبة لبايشى، فيكمن في “تكوين الممارسين في مجال التقويم وبناء الروائز والاختبارات، وفق اختيارات واضحة، ومواكبتهم لتنزيل ما تدربوا عليه ميدانيا، مع إدراج مصوغات مستقلة للتقويم في التكوين الأساس”.
ورأى بايشى أن “ثقافة التقويم والنظرة الإيجابية له، ينبغي أن تشيع في حياتنا المدرسية كلها، لا في الممارسة الصفية فحسب، بل في التدبير الإداري، وفي عمل مفتشي الوزارة بمختلف أصنافهم، وفي تقويم أداء مختلف العاملين، وفي مواكبة المؤسسات التربوية، وفي مراجعة المناهج والبرامج والكتب المدرسية”.
وأضاف، “بحيث يكون هدفها الأساس تطوير الأداء وتجويده، ويصبح التقويم بذلك مطلبا مرغوبا، لا شبحا مخيفا كما نشهده للأسف في الكثير من الممارسات”.
يذكر أنه في تصنيف دولي صدر في مايو/ أيلول 2023، تبوأ المغرب "المرتبة ما قبل الأخيرة"، قبل جنوب إفريقيا، حائزا على 372 نقطة، في نتائج "الدراسة الدولية للتحصيل الدراسي في القراءة"، الشهيرة اختصارا باسم بيرلز “PIRLS”.