قرن إفريقي متأزم.. ماذا وراء تدهور العلاقات بين إثيوبيا وجيبوتي؟
"لا توجد لدى أديس أبابا قدرة عن التخلي عن ميناء جيبوتي"
منطقة "القرن الإفريقي" توصف في أروقة السياسة الغربية بأنها "يوغوسلافيا جديدة" كونها تنحصر في إطار وضع يشبه “البلقنة” أي ما حدث في منطقة البلقان من صراعات وحروب خلال تسعينيات القرن الماضي.
والقرن الإفريقي، منطقة إستراتيجية وحيوية للتجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، وتضم إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال، وتعد من أكثر المناطق نزاعا على النفوذ بين القوى العظمى والإقليمية المعنية.
ولا يمكن إغفال لعبة الجغرافيا في الحديث عن تلك المنطقة، إذ وللمفارقة فإن إثيوبيا الدولة الأكبر مساحة وتعدادا للسكان، والأضخم من حيث القوة العسكرية، هي دولة حبيسة تحتاج إلى منفذ بحري.
أما بقية الدول سواء إريتريا أو جيبوتي أو الصومال الغريم الأكبر لإثيوبيا، فجميعهم يطلون على منافذ مائية إستراتيجية، وهي البحر الأحمر والمحيط الهندي، وبينهما مضيق باب المندب.
وهو ما جعل من أديس أبابا في موضع المبادر إلى بناء تحالفات وعقد اتفاقيات، وكذلك في موضع المتحفز للصدام واجترار العداء طالما هددت مصالحها.
خلافات متصاعدة
ونشرت مجلة "أفريكا إنتيليجنس" الفرنسية، في 6 مايو/ أيار 2024، أن اجتماع اللجنة الوزارية المشتركة بين إثيوبيا وجيبوتي “لم يسفر عن أي اختراقات كبيرة، لتحسين العلاقات المتدهورة منذ فترة بين البلدين”.
وكان الاجتماع الذي حضره وزيرا النقل الإثيوبي أليمو سيمي والجيبوتي المسؤول عن البنية التحتية والمعدات، حسن حامد إبراهيم، بمثابة فرصة لإعادة إطلاق الحوار بين الجارتين اللتين تدهورت علاقاتهما بشكل كبير في الأشهر الأخيرة.
وبدأت الأزمة بينهما عندما خططت إثيوبيا، وهي أكبر دولة غير ساحلية في إفريقيا من حيث عدد السكان، في تنويع طرق الإمداد لتقليل اعتمادها على جيبوتي.
واعتمدت على أن تجعل من ممرات النقل البري المستقبلية، موضعا لجذب انتباه شركاء التنمية الدوليين ودول الخليج التي تتصارع من أجل النفوذ في المنطقة.
وذكرت "أفريكا إنتيليجنس" أن التكامل الاقتصادي الإقليمي في القرن الإفريقي، وبمساعدة شبكة البنية التحتية التي تربط إثيوبيا بجيرانها - جيبوتي والصومال وإريتريا وأوغندا وكينيا وجنوب السودان والسودان، يعد محط اهتمام خاص من شركاء التنمية الدوليين.
وتنظر تلك المؤسسات إلى زيادة التبادلات الاقتصادية بوصفها ترسم آفاقا للاستقرار في شرق إفريقيا الذي يعاني بانتظام من التوترات الجيوسياسية.
وخلال خطابه الشهير أمام البرلمان الإثيوبي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قال رئيس الوزراء آبي أحمد: "كيف لبلد يخطو حثيثا ليصل عدد سكانه إلى نحو 150 مليونا أن يعيش في سجن الجغرافيا".
وأضاف أن “وجود إثيوبيا مرتبط بالبحر الأحمر، ينبغي ألا تكون قضية مناقشة أمر البحر الأحمر من التابوهات المحرمة بالنسبة للإثيوبيين”.
وشدد آبي أحمد على أن بلاده “ستكون عازمة على كسر كل الخطوط والجسور للوصول إلى البحر”.
ورغم أنه في الخطاب ذاته حدد طريقة الوصول للبحر عن طريق كل من إريتريا أو الصومال أو جيبوتي"، لكنه فاجأ الجميع في يناير/ كانون الثاني 2024، بتجاهل حكومات هذه الدول الثلاث، والذهاب إلى توقيع مذكرة تفاهم مع جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها رسميا، وهو ما خلق توترات عارمة مع جيرانه ومنهم جيبوتي.
ولجيبوتي وضعية خاصة وإستراتيجية في بنية العلاقات الخارجية الإثيوبية، حيث لا توجد لدى أديس أبابا قدرة عن التخلي عن ميناء جيبوتي.
وتكمن أهميته لكونه إلى جانب طريق دير داوا، التي تعمل منظمة “TradeMark” الإفريقية، بمساعدة البنك الدولي، جنبا إلى جنب مع الوكالة الفرنسية للتنمية والاتحاد الأوروبي منذ عام 2021 على مشروع بقيمة 35.5 مليون دولار يتمحور حول الطريق الذي يربط ميناء جيبوتي بمركز جالافي شمال البلاد، المتاخم للحدود الإثيوبية.
وفي الوقت الراهن تمر 90 بالمئة من التجارة مع إثيوبيا عبر هذا المركز الحدودي.
أهمية جيبوتي
لكن هذه المميزات للمركز هي نفسها سبب التوترات، ففي البداية، كانت الخطة تتمثل في إنشاء هيئة لإدارة الممرات لتنسيق مجموعة متنوعة من المشاريع.
وتحظى تلك المشاريع بدعم مؤسسات مختلفة مثل البنك الدولي، ووكالة التنمية الفرنسية (AFD)، والاتحاد الأوروبي، وبنك التنمية الإفريقي.
ولكن في الوقت الحالي، يجرى تشكيل ثلاث هيئات، واحدة للممر بين جيبوتي وإثيوبيا، وأخرى للممر الذي يربط ميناء بربرة الصومالي بأديس أبابا، وثالثة لممر النقل بين ميناء لامو وجنوب السودان وإثيوبيا، والذي ينقل البضائع إلى إثيوبيا وجنوب السودان من الساحل الكيني.
لذلك وافق البنك الدولي على منحة بقيمة 730 مليون دولار في أغسطس/ آب 2023، لتطوير طريق جيبوتي أديس أبابا، وهو مبلغ استثنائي لهذا النوع من التمويل.
ويمر الطريق عبر مركز ديويلي الحدودي ومركز دير داوا في إثيوبيا، على بعد 180 كيلومترا من حدود جيبوتي.
والهدف الرئيس هو تحسين الطريق بين ميسو ودير داوا لتجنب التضاريس الجبلية، وتسهيل وصول إثيوبيا إلى البحر، لذلك فجيبوتي هي متنفس إثيوبيا الرئيس نحو البحر ومرور طرق التجارة.
ومن المقرر أيضا أن تلعب دير داوا، الواقعة على الحدود بين منطقتي الصومال الإثيوبي وأوروميا في إثيوبيا، دورا في ربط البلاد ببربرة في أرض الصومال.
وتدرس شركة موانئ دبي العالمية الإماراتية، التي تدير ميناء بربرة، الاستثمار في الخدمات اللوجستية ومستودعات الحاويات وإدارة المناطق الحرة.
لكن المشروع تعوقه مشاكل في توزيع الأسهم ونقل الأرباح إلى الخارج في بلد يعاني من نقص مزمن في العملات الأجنبية.
وفي عام 2021، وقعت موانئ دبي العالمية وإثيوبيا مذكرة تفاهم تلتزم فيها بمليار دولار للممر.
ومن بين السبل التي يجرى استكشافها استخدام خط السكك الحديدية التابع لشركة إثيوبيا جيبوتي للسكك الحديدية، المملوكة بنسبة 75 بالمئة لإثيوبيا و25 بالمئة لجيبوتي.
وتفكر أديس أبابا في مد الخط إلى بربرة، وأجريت دراسات جدوى، لكنها تفتقر إلى التمويل اللازم لتنفيذ المشروع.
ولا يزال تعزيز طريق بربرة-أديس أبابا يعتمد على تنفيذ اتفاقية جمركية، والتي ستحكمها في نهاية المطاف هيئة إدارة الممرات.
وتعمل لجنة فنية بقيادة السلطة البحرية الإثيوبية ونظيرتها في أرض الصومال منذ عدة أشهر على إعداد الوثيقة، وهو ما يثير حفيظة جيبوتي.
ممر لاباسيت
ومع ذلك فهناك تحركات وتباينات أحدثت فجوة بين الحكومتين في أديس أبابا وجيبوتي، حيث تعمل إثيوبيا تدريجيا على تطوير معبر جالافي، لكن الجانب الجيبوتي لا يزال غير مطور بسبب نقص الأموال.
حيث يوجد في المنطقة حوالي 9 ممرات، معظمها، إن لم يكن كلها، تتطلب إجراء دراسات مماثلة لجذب الاستثمار.
ونظرا لأن البرنامج يشمل أكثر من دولة، فإن استخدام النهج الإقليمي، وخاصة من خلال منظمة إيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية IGAD هي منظمة شبه إقليمية في أفريقيا مقرها جيبوتي، تأسست عام 1996)، خارج القرن الإفريقي، وعليه تسعى كينيا إلى الترويج لممر “لاباسيت” LAPASSET الذي يبدأ من ميناء لامو المستقبلي شمال شرق كينيا، قرب الحدود الصومالية، وسينقسم إلى قسمين في وسط كينيا لربط أديس أبابا بالجنوب وجنوب السودان.
ورغم أن مشروع “لاباسيت” توقف بعد البدء به في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن أعيد إطلاقه هذا العام حيث سعت إثيوبيا إلى إيجاد بدائل لممر جيبوتي.
وفي مارس 2024، استقبل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بضجة كبيرة في نيروبي، واتفق مع الرئيس الكيني ويليام روتو على تعزيز الأمن في المنطقة.
وكانت أهم نقطة في الاتفاق اقتراح هيئة الموانئ الكينية تيسير المزيد من الرسوم الجمركية للشركات الإثيوبية.
وقد عقد ممثلو كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان اجتماعا أوليا للجنة الفنية المشتركة حول هذه القضية في نيروبي في يناير 2024.
ولا يزال المشروع، الذي تبلغ تكلفته التقديرية 16 مليار دولار، غير مؤكد بسبب نقص التمويل، لكنه أزعج جيبوتي.
ومع ذلك، فإن هناك نقطة مفصلية في خضم العلاقة المعقدة بين الدولتين، وهي تململ الجانب الإثيوبي من فاتورة الجمارك الضخمة لجيبوتي.
وأضاف التوقيع على مذكرة تفاهم مطلع يناير 2024 بين رئيس الوزراء الإثيوبي ورئيس دولة أرض الصومال الانفصالية، موسى بيحي، عقبة أخرى أمام مشاريع التكامل الإقليمي، تحديدا بين إثيوبيا وجيبوتي.
وينص الاتفاق على منح إثيوبيا حق الوصول إلى ميناء بربرة في أرض الصومال مقابل الاعتراف باستقلال أرض الصومال.
وكان آبي أحمد قد عبر عن غضبه إزاء الرسوم الجمركية البالغة 1.5 مليار دولار التي يتعين على بلاده دفعها كل عام لجارتها.
لذلك جاءت المذكرة في أعقاب خلافات كبيرة بين أديس أبابا وجيبوتي بشأن القضايا الجمركية.
وتتهم جيبوتي من جانبها بانتظام المؤسسة الإثيوبية للشحن والخدمات اللوجستية (ESLSE)، المملوكة للدولة في إثيوبيا، بعدم السداد أو التأخر في السداد.
فمثلا صرح "يوقول بوجوريه علي" نائب رئيس جمعية وكلاء الشحن في جيبوتي، والتي تمثل جهة الاتصال الرئيسة لشركة ESLSE في ميناء جيبوتي، بأنها مدينة بأكثر من 30 مليون دولار لسلسلة الخدمات اللوجستية في جيبوتي.
وفي ظل هذه التوترات، أعربت هيئة ميناء جيبوتي عن تحفظها بشأن وصول ثلاثة مشغلين إثيوبيين جدد نتيجة لفتح قطاع الخدمات اللوجستية في إثيوبيا أمام المنافسة.
خطط جيبوتي
وفي 29 فبراير 2024، نشر موقع "دويتشه فيله" الألماني تقريره عن التنافس بين جيبوتي وإثيوبيا، وذكر أنه تتوافق رغبة أديس أبابا في الوصول إلى البحر مع خطط جيبوتي لتقليل اعتمادها الاقتصادي على الواردات الإثيوبية.
وحصلت الجمهورية الصغيرة، التي يعتمد ناتجها المحلي الإجمالي إلى حد كبير على خدمات النقل إلى جارتها، أخيرا على أربع رافعات جديدة مناسبة لسفن الحاويات الكبيرة، مما يمكنها من وضع نفسها كمركز لإعادة الشحن للموانئ الأصغر في المنطقة.
وأضاف الموقع الألماني: "أعادت مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال تشكيل التحالفات بين دول المنطقة ومع القوى المؤثرة الأخرى في القرن الإفريقي".
وأتبع: “سعى معارضو الاتفاق، ردا على تشكيل كتلة تضم إثيوبيا وأرض الصومال والإمارات، إلى الحصول على دعم السعودية التي تدهورت علاقاتها مع أبوظبي على خلفية التنافس على النفوذ في القرن الإفريقي والشرق الأوسط”.
وبسبب ذلك فإن كتلة الصومال وجيبوتي والسعودية تتشكل الآن، تحت أعين القاهرة، التي كانت علاقاتها مع إثيوبيا صعبة تاريخيا".
وفي نفس السياق، تواصل السعودية الاستثمار في القرن الإفريقي، ورغم وجود موطئ قدم لها في إثيوبيا، لكن هناك عدة خلافات بين البلدين بشأن قضايا الهجرة.
وهو ما أدى إلى تقارب قوي بين جيبوتي والسعودية في السنوات الأخيرة لمواجهة النفوذ الإماراتي، ولتحقيق توازن إقليمي ضد إثيوبيا.
وفي عام 2022، افتتحت جيبوتي سفارة لها بالمملكة، وافتتحها الرئيس إسماعيل عمر جيله.
وفي العام نفسه، وقع البلدان أيضا اتفاقية تعاون في مجال النقل البحري، لتسهيل حركة البضائع.
وأيضا تتعزز العلاقات بين جيبوتي والصومال، حيث قام وفد من الخبراء من هيئة الموانئ والمناطق الحرة في جيبوتي بزيارة إلى مدينة هوبيو الساحلية الصومالية في فبراير 2024، حيث تريد جيبوتي مساعدة الصومال في بناء ميناء للمياه العميقة، وكل هذه الخطوات تحجم إثيوبيا وتؤدي إلى تأزم أكبر بين الجارتين.