في ذكرى مجازر مايو.. لماذا تصر الجزائر على "عدم المساومة" بملف الذاكرة؟

6 months ago

12

طباعة

مشاركة

ما يزال "ملف الذاكرة" محط خلاف شائك بين الجزائر وفرنسا، حيث تصر بلاد المليون شهيد أن هذا الملف “ليس للمساومة”، فيما تتعامل معه باريس “بتماطل وبرود”.

وفي آخر مستجدات هذا الخلاف، تأكيد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أن ملف الذاكرة "لا يتآكل بالتقادم أو التناسي بفعل مرور السنوات، ولا يقبل التنازل والمساومة".

وفي رسالة تداولها الإعلام الجزائري في 7 مايو/ أيار 2024 بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة، المخلد للذكرى الـ79 لمجازر 8 مايو 1945، شدد تبون على أنه "سيبقى في صميم انشغالاته (ملف الذاكرة) حتى تتحقق معالجته معالجة موضوعية جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية".

مجزرة فرنسية

ويصادف هذا التاريخ بالنسبة للجزائريين أحداثا دامية، بدأت بمظاهرة شرقي البلاد خاصة في مدينة سطيف للاحتفال بانتصار الحلفاء على النازية، ثم تحولت إلى المطالبة بـ"جزائر حرة ومستقلة"، وقمعتها قوات الاحتلال الفرنسية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 45 ألف جزائري.

وقال تبون –بحسب الرسالة- "إنني في الوقت الذي أؤكد فيه الاستعداد للتوجه نحو المستقبل في أجواء الثقة، أرى أن المصداقية والجدية مطلب أساسي لاستكمال الإجراءات والمساعي المتعلقة بهذا الملف الدقيق والحساس".

ومنذ 2022 تعمل لجنة مشتركة، جزائرية-فرنسية، مكونة من 10 مؤرخين -5 من كل جانب- من أجل "النظر معا في تلك الفترة التاريخية" من بداية الاحتلال سنة 1830 حتى نهاية حرب الاستقلال عام 1962.

وعقدت اللجنة عدة اجتماعات في العاصمتين، آخرها بباريس في فبراير/شباط 2024، ومن نتائجها الاتفاق على استرجاع كل الممتلكات التي ترمز إلى سيادة الدولة الخاصة بالأمير عبد القادر بن محيي الدين (1808-1883)، وهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة وبطل المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي.

كما أوصت اللجنة بوضع لافتات "في الأماكن المخلدة للذاكرة" في فرنسا، حيث دفن جزائريون تم سجنهم في بداية الحملة الاستعمارية.

وسبق لفرنسا أن سلمت الجزائر عام 2020 رفات 24 مقاوما قُتلوا في بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي استمر 132 عاما بين 1830 و1962، لكن الجزائر ظلت تطالب باسترجاع "الجماجم الموجودة في المتاحف" لإعادة دفنها.

وقالت "حركة مجتمع السلم" الإسلامية، إن “أحداث 8 مايو 1945 واحدة من بين أكبر جرائم الإبادة الجماعية، التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري إبان حقبة الاحتلال، وأفضت إلى أكثر من 45 ألف شهيد في يوم واحد، بقساوة وبشاعة وتنكيل وتعذيب”.

وشددت الحركة في بيان عبر صفحتها على “فيسبوك” في 8 مايو 2024، أن هذه الأحداث “سجلت في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري كواحدة من أبشع المجازر والجرائم التي لا يمكن أن تسقط بالتقادم”.

ورأت أن "ملف الذاكرة لا يسقط بالتقادم ولا يقبل الابتزاز والتنازل"، مشددة على أنه "لا يمكن الحديث على تجاوز مرحلة دموية ووحشية إلى مرحلة نسيان وطمس للذاكرة، والحلم بعلاقات طبيعية ومزدهرة مع مستعمر قديم لم يغير من ثقافته وسلوكه". 

في المقابل، يرى الإعلامي والناشط السياسي والحقوقي الجزائري، وليد كبير، أن "تصريح تبون بالمناسبة، إنما يريد من خلاله بعث إشارات إلى فرنسا، بخصوص هذا الملف الذي تتم المتاجرة به من الطرفين".

وذكر كبير لـ"الاستقلال" أن "النظام الحاكم في الجزائر يبني وجوده على المتاجرة وتوظيف ملف الذاكرة، في المقابل، يستغل الجانب الفرنسي هذه القضية للحفاظ على مصالحه، عبر الضغط على النظام الجزائري".

وشدد على أن "هذا الاستغلال المتبادل ليس وليد اليوم، بل منذ عقود"، مشيرا في هذا الصدد إلى أن "النظام في الجزائر لا يمتلك أي جدية أو نية صادقة لإعادة كتابة التاريخ بشكل سليم بما يخدم الدولة الجزائرية".

ورأى كبير، وهو أيضا رئيس “الجمعية المغاربية للسلام والتعاون والتنمية”، أن "اتفاق تبون وماكرون من أجل تشكيل لجنة مشتركة، لم تعط النتائج المرجوة، رغم أن الجانب الفرنسي أعد تقريرا بخصوصه، في حين أن الجانب الجزائري لم يفعل نفس الشيء".  

وأبرز أن "الجانب الفرنسي دائما ما يلجأ ويستعمل ورقة التاريخ حين تتدهور علاقاته مع الجزائر، ومن ذلك أن وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان حين زار الجزائر في ديسمبر/كانون الأول 2021، ولم تكن الزيارة بمستوى تطلعاته، خرجت وزيرة الثقافة روزلين باشلور بعده بسويعات للتحدث عن تقديم موعد إخراج الأرشيف".

وتابع: "هذا الأرشيف الذي كان مبرمجا أن يتم رفع السرية عنه وكشفه للعامة ابتداء من سنة 2039، في حين أعلنت تقديم هذا التاريخ بـ 15 سنة".

مطالب مستمرة

وتؤكد السلطات الجزائرية أن أهم مطالبها بخصوص الذاكرة هو استرجاع الأرشيف الجزائري الموجود بحسبها في مختلف المتاحف والمراكز الفرنسية.

وبحسب موقع "إذاعة مونت كارلو الدولية"، في 9 مايو 2024، هناك مطلب آخر متعلق بالمفقودين المدنيين خلال حرب التحرير في خمسينيات القرن الماضي، والذي يفوق عددهم الألفين بحسب السلطات في الجزائر، حيث اتُّهم الجيش الفرنسي بقتل المدنيين.

وتابع المصدر ذاته، أما الملف الثالث، فيتعلق بتعويض الجزائريين من ضحايا التجارب النووية الفرنسية التي أقامتها السلطات جنوب الجزائر أواخر الستينيات، حيث لم تقم باريس بتعويض الضحايا ولا بتنظيف المناطق التي تمت فيها التجارب والتي توصف بتفجيرات نووية في الجزائر.

واسترسل، أما المطلب الرابع فهو متعلق باسترجاع الممتلكات الثقافية الجزائرية الموجودة في المتاحف الفرنسية، مثل اللوحات الفنية المتعلقة بشخصية الأمير عبد القادر الجزائري الذي قام بالثورة ضد الاستعمار الفرنسي.

وخلص الموقع إلى أن "الجزائر مازالت تتهم السلطات الفرنسية بارتكاب جرائم خلال حقبة الاستعمار، مع إصرار الجانب الفرنسي على القول إن معالجة المسائل المتعلقة بالتاريخ يجب أن تتم باعتراف الجميع بارتكاب الجرائم في تلك الفترة".

فيما سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن صرح في يناير/كانون الثاني 2023، بأنه لن يطلب "الصفح" من الجزائريين عن استعمار فرنسا لبلدهم.

في المقابل، عبر ماكرون عن أمله في مواصلة العمل مع تبون، لاستكمال ملف الذاكرة والمصالحة بين البلدين.

من جانبه، ذكر الكاتب الجزائري محمد مسلم، أن كل المؤشرات تؤكد أن ملف الذاكرة العالق بين الجزائر وفرنسا "يراوح مكانه بعد أزيد من سنة ونصف السنة على تشكيل لجنة مختلطة بين الجانبين لبحث هذا الملف الشائك".

وذكر في مقال نشره موقع "الشروق" المحلي، في 8 مايو 2024، أنه "منذ آخر لقاء للجنة مستهل العام 2024، غاب الحديث تماما عن هذا الملف رغم الاهتمام الذي حظي به، خاصة من جانب ماكرون، وكذا حساسيته وتداعياته على مستقبل العلاقات الثنائية بين الجزائر وباريس".

وشدد مسلم على أن "الطرف الجزائري متمسك بضرورة الوصول إلى حل لقضية الذاكرة، ولو تأخر الحسم فيها بالنظر لتعقيداتها"، مؤكدا أن "مرور السنوات وتعاقبها، لا يعني أن الجزائريين سيفرّطون في قضيتهم العادلة".

وأشار إلى "وجود خلافات بين الطرفين في كيفية معالجة نقاط حساسة في هذا الملف، وعلى رأسها قضية الأرشيف وبعض متعلقات المؤسس الأول للدولة الجزائرية، الأمير عبد القادر".

ورأى مسلم أنه “في ظل هذه الضبابية، ينتظر أن تعود اللجنة المختلطة إلى الاجتماع بالجزائر في الفترة الممتدة ما بين 20 و24 مايو 2024، وفق تسريب لصحيفة لوموند، في محطة ينتظر منها الكثير لإحداث اختراق في هذا الملف الحساس، الذي سيحدد مستقبل هذه اللجنة".

واعترف رئيس لجنة الذاكرة من الجانب الجزائري، لحسن زغيدي، في ندوة نظمتها الإذاعة الوطنية الجزائرية، في 8 مايو 2024، بـ"وجود عراقيل تواجه استرجاع الجزائر لأرشيفها المنهوب والمكدس في الأقبية الفرنسية".

وقال زغيدي: "واجهتنا صعوبات من الجانب الفرنسي، تتعلق بتلك القوانين التي ترى أن كل ما نقل إلى فرنسا من مسروقات ومنهوبات وغيرها، جزء لا يتجزأ من السيادة الفرنسية".

كما تحدث المؤرخ عن "وجود صدود من الجانب الفرنسي في تسليم المحفوظات الأصلية للجزائر، وتركيزه على عمليات النسخ الإلكترونية للوثائق المسروقة، وهو المقترح الذي قوبل بتحفظ من قبل الجزائر".

وأضاف زغيدي: "أكدنا لهم أننا لا نعارض التكنولوجيا والرقمنة، فهي تسهل عمل الدارسين، لكن الرقمنة لا يمكن أن تعوَض الأرشيف الأصلي الذي لن نتنازل ولن نغفل عنه، ولو تعلق الأمر بورقة واحدة كتبت بالجزائر".

الحل السياسي

وذكر موقع "الخبر" المحلي في 10 مايو 2024، أن "الجمعية الفرنسية" (البرلمان) ستكون مطلع 2025، على موعد مع جدل متجدد بخصوص ماضي فرنسا الاستعماري في الجزائر، إثر إعلان أربعة نواب من اليسار إيداع مقترح قانون يرمي إلى اعتراف الدولة بمسؤوليتها عن "مجازر 8 مايو 1945".

ووفق المصدر ذاته، أكدت البرلمانيات صبرينة صبايحي وفتيحة حاشي (أصولهما جزائرية) وإيلزا فوسيون ودانيال سيموني، في تصريحات صحفية، عن تأسيس "فريق عمل" مهمته الإعداد لمقترح قانون تتحمل فرنسا بموجبه رسميا، دماء آلاف الجزائريين الذين قتلهم الأمن الاستعماري في سطيف وقالمة وخراطة، بينما خرجوا في مظاهرات سلمية للمطالبة بالاستقلال.

وطالبت صاحبات المسعى في تصريحهن المشترك، بـ"إتاحة الفرصة للباحثين في التاريخ للوصول إلى الأرشيف الخاص بهذه المذابح، وإدراج الأحداث الدامية في مقررات التاريخ (الدراسية)، بهدف تسهيل تناقلها احتراما لواجب الذاكرة".

وقالت البرلمانيات إن "الوقت حان للذهاب أبعد من مجرَد اعتراف بأن أحداث 8 مايو 1945 مجازر تستحق الإدانة وفقط".

وتعهدت البرلمانيات، بأن "فريق العمل" الخاص بمقترح القانون، سيشتغل على تنظيم جلسات استماع ومؤتمرات، ورحلات إلى مواقع المجازر في الجزائر.

أما البرلماني الجزائري سعيد نفيسي، فأكد أن مشكلة "الذاكرة" ما تزال تهيمن على العلاقات المتداخلة بين الجزائر وفرنسا، معتبرا أن حلها سياسي رغم محاولة حصرها في طابع تاريخي علمي، داعيا إلى إجراءات عملية لطي صفحة الماضي التاريخي الذي أسسه الاستعمار.

وأضاف نفيسي لوكالة أنباء العالم العربي اللندنية، في 10 مايو 2024، أن “العلاقات الجزائرية الفرنسية لها هذه الخصوصية المرتبطة بالتاريخ وتشابك العلاقات بشريا واقتصاديا سياسيا وأمنيا”، معتبرا أنها ما تزال في "حالة المد والجزر"، التي لا يُتوقع أن تنتهي قريبا.

وأكد أنه "رغم وجود إرادة معلنة بين قيادة البلدين لتذليل الصعاب ومحاولة تجاوز بعض العقبات، تبقى مشكلة الذاكرة بالنسبة للجزائر قضية مبدئية غير قابلة للتفاوض".

وأضاف "الحقوق لا تذهب بالتقادم، والاعتراف هو أقل واجب، فمشكلة الذاكرة ستبقى محل نقاش رغم محاولة إبعادها عن طابعها السياسي إلى طابعها التاريخي العلمي، ولكن نهايتها ستكون سياسية، وتوجيه سياسي".

غير أن نفيسي يرى أن الإرادة السياسية لدى الطرف الفرنسي “مازالت دون المستوى المطلوب”، لكنه أكد أن الإصرار على الحقوق “هو المخرج الوحيد لاسترجاعها والحصول عليها”.

أما الناشط الإعلامي والحقوقي الجزائري وليد كبير، فيرى أن سلطات بلاده لا ترفع مطالبها بخصوص الذاكرة بشكل جدي، ومن أدلة ذلك أنها ترفض مثلا مشروع قانون "تجريم الاستعمار الفرنسي".

وأوضح كبير لـ"الاستقلال"، أن "النظام يرفض الخوض في هذا المطلب، رغم تردد بعض دعوات هذا التجريم على مستوى البرلمان، وكذا عبر بعض الكتاب والنشطاء".

وذكر أن "ما تمت استعادته من جماجم الأجداد من متاحف فرنسا شيء قليل، وكذلك الوثائق الجزائرية التي لدى فرنسا، فضلا عن كون مطلب تعويض المتضررين من التجارب العسكرية الفرنسية في البلاد ضعيفا، ولم يفتح بالشكل اللازم".

ورأى وليد أن "أهم عائق يقف أمام بحث هذا الملف بشكل جدي، هو طبيعة النظام العسكري الاستبدادي القائم في البلاد، مما يعني أن تحقيق مرافعة حقيقية عن ملف الذاكرة الجزائرية مشروط بإقامة نظام مدني وديمقراطي في الجزائر"، وفق تعبيره.