بعد تمريرها حكوميا.. لماذا يؤخر برلمان موريتانيا إقرار قوانين محاربة الفساد؟

استثنى مشروع القانون رئيس البرلمان والنواب من الشخصيات الملزمة بالتصريح بالممتلكات
يلف الغموض مصير مشاريع قوانين مكافحة الفساد في موريتانيا، والتي كان مقررا أن يصدق عليها البرلمان الموريتاني نهاية أبريل/نيسان 2025، وسط مطالب بتعجيل هذه المصادقة، نظرا لأهميتها متعددة الأبعاد.
وذكرت وكالة أنباء موريتانيا، في 6 مايو/أيار 2025، أن مؤتمر الرؤساء أجّل نقاش مشاريع قوانين مكافحة الفساد، خلال اجتماع ترأسه النائب الثالث لرئيس البرلمان الحسن الشيخ باها، دون تحديد موعد جديد.
وأوضح أن قرار التأجيل جاء عقب الجدل الذي أثارته، خصوصا القانون المتعلق بالتصريح بالممتلكات والمصالح.
واستثنى مشروع القانون رئيس البرلمان والنواب من قائمة الشخصيات الملزمة بالتصريح بالممتلكات والمصالح.
وفي المقابل، فإن عددا كبيرا من المسؤولين الآخرين والمنتخبين ممن يفوقهم النواب في الرتبة البروتوكولية والنفوذ، وقابلية الاستغلال، جرى إدراجهم في قوائم إلزامية التصريح بالممتلكات.
مصادقة الحكومة
ورغم إعلان "حزب الإنصاف" الحاكم أن كتلته البرلمانية ستصوت على إدراج النواب ضمن قائمة الملزمين بالتصريح بالممتلكات، فإن الغموض ما يزال يلف مصير هذه القوانين.
هذا الإعلان جاء خلال لقاء جمع رئيس الحزب سيد أحمد ولد محمد، في 29 أبريل 2025 مع ممثلين عن منظمات المجتمع المدني.
من جانبه، دعا "منتدى 24 ـ 29 للرقابة الشعبية على الأداء الحكومي"، إلى ضرورة المسارعة في برمجة مناقشة مشاريع القوانين الثلاثة المتعلقة بالتصريح بالممتلكات والمصالح، ومكافحة الفساد، والسلطة الوطنية لمكافحة الفساد.
وسبق لمجلس الوزراء برئاسة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن صدق خلال اجتماع عقد في 16 يناير/كانون ثاني 2025، على مشاريع القوانين الثلاثة.
وهي "مشروع قانون يتعلق بالتصريح بالممتلكات والمصالح"، وحددت الحكومة هدفه في “تعزيز الشفافية ومنع تضارب المصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع، وترسيخ النزاهة والأخلاق في الحياة العامة”.
وينص على "إلزامية التصريح بالممتلكات والمصالح، مع توسيع نطاق الإلزام ليشمل فئات جديدة من الموظفين العموميين الذين يتمتعون بمناصب عليا أو يملكون سلطة اتخاذ القرار أو التأثير خلال مزاولة مهامهم".
أما المشروع الثاني، فحددت هدفه في “سد الثغرات القانونية وأوجه القصور التي كشفت عنها تجربة تطبيق القانون 2016- 014 المتعلق بمكافحة الفساد، خلال المرحلة الماضية”.
وأيضا "إدخال توصيات الاستعراض الدوري لتنفيذ أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الرشوة، من جهة أخرى".
فيما حددت هدف مشروع القانون الثالث، والمتعلق بـ"السلطة الوطنية لمكافحة الفساد"، في الاضطلاع بمهمة الوقاية منه.
وأيضا ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد وتعزيز النزاهة والشفافية، والحد من التجاوزات من خلال تبني آليات فعّالة للرصد والرقابة، وإشراك الأطراف المعنية.
يشار إلى أن التقرير المتعلق بمدركات الفساد للعام 2024، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 11 فبراير/شباط 2025، أظهر أن موريتانيا ما تزال في رتبة متأخرة جدا على هذا المؤشر.
وذكر التقرير أن موريتانيا لم تتجاوز 30 نقطة من أصل مئة سنة 2025 وهي نفس رتبتها خلال العام الذي سبقه.

أسباب التأخير
ويرى رئيس حركة "كفانا" الحقوقية، يعقوب أحمد لمرابط، أن تأخير التصديق على مشاريع القوانين الثلاثة قد يكون لأسباب طبيعية، تتعلق بإعادة تعديله على مستوى وزارة العدل، بعد النقاش والملاحظات التي أثارها البرلمان بشأن المشاريع.
وذكر لـ "الاستقلال" أنه من المرجح إعادة هذه القوانين إلى المجلس من جديد للمصادقة البرلمانية في الفترة المقبلة.
ونبه لمرابط إلى أنه وحتى في حال المصادقة على القوانين، فهذا لا ينفي غياب إرادة حقيقية لمحاربة الفساد.
وشدد أن ما تعيشه موريتانيا من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية سببها هذه الآفة التي عششت وأفرخت في البلاد، وفق تعبيره.
وذكر الناشط الحقوقي أن وضعية الفساد بموريتانيا معقدة جدا، إذ إن كل القطاعات تعاني منه، وهذا يراه الناس عموما في التعيينات في مناصب المسؤولية وفي غيرها.
وهو "ما يؤكد وجود فئة مسيطرة على مفاصل الثروة والسلطة، والتي ليس من مصلحتها محاربة الفساد بشكل جذري، مما يبرز حجم التحدي القائم في مجابهة هذه الظاهرة".
من جانبه، قال الصحفي والناشط المدني المصطفى محمد لولي: إن الرأي العام ينتظر تصديق البرلمان على القوانين المشار إليها.
وفي حديث لـ"الاستقلال"، أشار إلى أن السلطة الحاكمة تمتلك الأغلبية المريحة في البرلمان لتمريرها دون أي إشكال.
ورجح أن تكون السلطات قد تأخرت في عرض هذه المشاريع على البرلمان في انتظار تعديلها لتُعرض كلها دفعة واحدة.
واسترسل: “من دون شك، البلاد في أمس الحاجة إلى قوانين صارمة لمواجهة الفساد، ومؤسسات تمكنها الرقابة القبلية والبعدية على تسيير المال العام”.
وذلك بشرط أن تمتلك تلك المؤسسات من الاستقلالية والوسائل ما يمكنها من محاربة الفساد بشكل صارم وجدي، وفق قوله.
وأردف أن "من أهم ما ستضيفه التعديلات الجديدة، إعلان بعض التصاريح ومتابعتها بشكل مستمر، وتجريم الفساد وعده جريمة لا تسقط بالتقادم".
ووافق لولي رأي لمرابط بأن موريتانيا تعاني من تفش كبير للفساد، وأن محاربته تُعد من أهم المطالب الشعبية والنخبوية في البلاد.
وأشار إلى أن شعار محاربة الفساد كان حاضرا في البرامج الانتخابية للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز المتابع حاليا أمام القضاء بنفس هذه التهمة وأيضا كان ضمن برنامج الرئيس الحالي محمد ولد الغزواني.
غير أن مراقبين يرون أن محاربة الفساد في الفترة السابقة كان مجرد شعار أو عصا ترفع في وجه الخصوم.
وجاء ذلك مع الكشف أخيرا عن بعض عمليات الفساد ومحاسبة الضالعين فيها بشكل جزئي أو محدود، وفق لولي.
ارتباك حكومي
وأصبح استثناء النواب من الإلزام بالتصريح بالممتلكات والمصالح محل نقاش داخل لجنة العدل والداخلية بالجمعية الوطنية أو البرلمان منتصف أبريل 2025.
وخلت المادة 3 من مشروع القانون من ذكر النواب، فيما تضمنت قائمة طويلة تشمل من هم دونهم في المهام والرتبة البروتوكولية من الموظّفين والمنتخبين.
وبدأت اللائحة بالرئيس، والوزير الأول، وأعضاء الحكومة، ومن يماثلهم، فيما ضمت عددا كبيرا من الموظفين.
وكذا بقية المنتخبين من رؤساء جهات وعمد، والقضاة، والولاة والحكام، ومديري المشاريع العمومية، ومسؤولي جمعيات المجتمع المدني المستفيدين من الدعم العمومي.
وأوضح الإعلام المحلي أن عددا من رجال الأعمال النواب مارسوا ضغوطا على الحكومة لاستبعادهم من الإلزام بالتصريح بممتلكاتهم ومصالحهم، وهو ما استجابت له الحكومة في النهاية.
وأبقت المادة الأولى من مشروع القانون على المشرّعين ضمن الموظفين العموميين المشمولين بمقتضياته.
فيما جرت إزالة هؤلاء من القائمة التي تضمنتها المادة الثالثة من مشروع القانون.
وقال النائب البرلماني محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل: إن تأجيل مناقشة قوانين مكافحة الفساد في البرلمان يعكس "ارتباكا في قرارات الحكومة" و"صراعا داخليا بين أجنحة النظام بشأن إدارة شؤون البلاد".
وأضاف في تصريح لقناة "صحراء 24"، في 20 أبريل، أن التأجيل جاء عقب "غضب شعبي واسع من استثناء النواب من قائمة المسؤولين الخاضعين للتصريح بالممتلكات"، مشيرا إلى أن الرأي العام ضغط باتجاه إضافتهم.
وذكر المتحدث ذاته أن "طريقة معالجة هذه القوانين وإخراجها كانت سيئة، رغم الدور المهم الذي كان من المفترض أن تلعبه في مكافحة الفساد.
وأشار فاضل إلى أن "الخلافات الداخلية بين مكونات النظام الحاكم تنعكس على القضايا الكبرى، ما يؤثر على القرارات السياسية والتشريعية التي تصدر إلى العلن ويكشف عن الارتجال في تسيير الشأن العام"، وفق تعبيره.

أهداف القوانين
وعن أهمية هذه القوانين الثلاثة، قال وزير العدل محمد محمود ولد الشيخ عبد الله بن بيه: إن أولها يأتي في إطار تعزيز الترسانة القانونية لمكافحة الفساد، وذلك من خلال سنّ تشريعات تُعزز التجريم والملاحقة القضائية.
كما يهدف مشروع القانون الأول إلى سدّ الثغرات التي تعيق فعالية الجهود المبذولة في هذا المجال.
وأضاف بن بيه، أن الثاني يلزم الموظفين العموميين الذين يشغلون مناصب سامية في الدولة بالتصريح المنتظم بممتلكاتهم، وفق موقع "الفكر"، 15 أبريل 2025.
واسترسل: "ينص المشروع على إنشاء لجنة للشفافية المالية في الحياة العامة، تتولى تسلم ومعالجة وحفظ التصريحات الخاصة بالفئات المعنية".
وتابع، أن مشروع القانون هذا يأتي لسدّ النواقص التي برزت خلال 18 سنة من التطبيق العملي، وتماشيا مع المبادئ الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
وخلص إلى أنه "يهدف إلى تعزيز الشفافية، والوقاية من تضارب المصالح، ومحاربة الإثراء غير المشروع، وترسيخ قيم النزاهة والأخلاق في الحياة العامة".
من جانبه، أكد وزير الاقتصاد والمالية الموريتاني سيدي أحمد أبوه، أن مشروع القانون الجديد جاء بمستجدات عديدة.
وأضاف أبوه في تصريح للصحافة، "فرض المشروع أحكاما موضوعية تتعلق بتعزيز التجريم والعقاب في مجال تنفيذ وتسلم ومراقبة الصفقات العمومية، وإعطاء الأوامر والتعليمات بمنح الصفقات والامتيازات بشكل مخالف للقانون".
وأردف: "كما أعيدت صياغة بعض الأحكام القانونية بما يضمن وضوح النص ويساعد في تطبيقه على أحسن وجه".
وأوضح الوزير أن “السلطة الوطنية لمكافحة الفساد مكونة أساسا من رئيس ومجلس وهيئة تنفيذية”.
ويعهد إليها من جملة الاختصاصات إعداد وتنفيذ السياسات والإستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، وتقييم مخاطره.
وهذا إضافة إلى "تنظيم حملات توعوية وبرامج تدريبية لنشر ثقافة الشفافية، وتقديم توصيات لتعزيز الحوكمة ومنع تضارب المصالح، وإنشاء قواعد بيانات وطنية لمتابعة وتحليل قضايا الفساد".
وقال: إن "السلطة الوطنية لمكافحة الفساد ستتولى استقبال التصريحات بالممتلكات والمصالح ومراقبتها وتلقي الإبلاغات عن شبهاته وإحالتها إلى الجهات المختصة عند الضرورة، مع متابعة التحقيقات وتوفير الحماية للمبلغين والشهود في هذه القضايا".
وأضاف أن "قانون السلطة له خصوصية الاستئناس بالبنود الرئيسة للاتفاقيات الدولية والنصوص الرئيسة الأكثر اعتمادا في البلدان المتقدمة".
وخلص إلى أن الإعلان عن هذه النصوص، سيمكن من توفير وحدة منسجمة ومتكاملة، وهي أكبر رسالة تقدمها الحكومة اليوم على أن انخراطها في جهود مكافحة الفساد ليس مسألة شعارات ولا تسجيل مواقف.

أزمة بنيوية
ويرى رئيس حركة "كفانا" الحقوقية، يعقوب أحمد لمرابط، أن إجراءات الرئيس وتحركاته مجرد حملة تسويقية لا يُعول عليها للوقوف في وجه هذه الآفة التي تهدد بشكل حقيقي دولا قوية وكبيرة في العالم.
وأشار إلى أن النظام الحالي برئاسة ولد الغزواني هو جزء من سابقه، إذ كان الأخير وزير دفاع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي يحاكم اليوم بتهم الفساد.
وأضاف لـ"الاستقلال"، أن ما جرى من صفقات من المال العام خارج الإطار القانوني في هذه الفترة أمر غير مسبوق، في ظل سيطرة لوبيات على الإدارة والاقتصاد.
وشدد لمرابط على أن إصدار القوانين لا يكفي لمجابهة آفة الفساد، إن لم توجد إرادة سياسية حقيقية وصادقة.
وأشار إلى أن موريتانيا توجد فيها ترسانة قانونية هي الأفضل من نوعها في المنطقة في عدد من المجالات دون أن يكون لها أي أثر عملي.
وذكر أن الإشكال الحقيقي القائم هو غياب آليات لتطبيق القوانين المصادق عليها، متسائلا عن الفائدة من إصدار قوانين لا يتم تطبيقها على أرض الواقع.
ولذلك رأى الناشط الحقوقي أن الإشكال يكمن في القرار السياسي وفي التطبيق، وفي استعداد النظام لتطبيقه.
وخلص لمرابط إلى أن ما يحدث في موريتانيا هو فساد على جميع الاتجاهات، إداريا وماليا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا.
وهو ما يعني أن التحدي اليوم ليس في إصدار القوانين، بل في تفعيلها على الوجه الأمثل، وفق قوله.