فرنسا تستفز تركيا بملف الأرمن و"الآشوريين الكلدانيين".. ما القصة؟

داود علي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

دائما ما تجيد فرنسا خلق الدوافع السياسية لنبش التاريخ العثماني على الطريقة التي تريدها حتى توقف النفوذ التركي المتمدد تحت مظلة الجمهورية الحديثة، التي تنتشر سياسيا واقتصاديا في الشرق الأوسط وإفريقيا.

ومن هذه الألاعيب، الاستحضار الدائم لقضية الأرمن واستخدام أرمينيا ضد تركيا رغم تحسن العلاقات أخيرا بين الطرفين.

ونبشت فرنسا أخيرا في ملف أقلية "الآشوريين الكلدانيين"، حيث صوتت الجمعية الوطنية على قرار يدعو الحكومة إلى الاعتراف بما وصفته بـ"المذابح" ضد هذه الأقلية على أيدي العثمانيين، في خطوة مماثلة لقرار سابق يعترف بـ"مذابح الأرمن".

نبش جديد

ونهاية أبريل/نيسان 2024، صوت جميع النواب لمصلحة القرار باستثناء أعضاء حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي، الذين امتنعوا عن التصويت.

يُعرَف الآشوريون الكلدانيون بأنهم أقلية مسيحية تتحدث اللغة الآرامية، عاشت بين دول تركيا والعراق ولبنان وإيران.

وتظهر هذه الخطوة إصرار فرنسا على المضي قدما نحو تأزيم العلاقات المتأرجحة أصلا بين الدولتين العضوتين في حلف شمال الأطلسي (ناتو).

ومع كل موسم انتخابي أو توتر في العلاقات التركية الفرنسية، يوظف السياسيون الفرنسيون ادعاءات القوميين الأرمن المتشددين حول أحداث عام 1915 في مواجهة تركيا للحصول على مكاسب سياسية، وفق ما يرى المؤرخ والباحث في مركز الدراسات الأوراسية (AVIM)، ماكسيم غوين.

وقال المؤرخ الفرنسي غوين في 24 أبريل 2024، خلال مقابلة مع شبكة التلفزيون التركية “TRT WORLD” إن “هذه المزاعم لم تعد تقبلها دولة أرمينيا نفسها، فيما يكثر استخدامها عادة في المواسم الانتخابية الفرنسية رغبة في إرضاء ما تبقى من اللوبي الأرمني القوي والفاعل”.

وتطالب اللوبيات الأرمينية في أنحاء العالم بشكل عام، تركيا بالاعتراف بما جرى خلال عملية التهجير عام 1915 على أنه "إبادة عرقية"، وبالتالي دفع تعويضات، وهو ما تنفيه أنقرة.

ولا توجد أي أدلة تاريخية تثبت ارتكاب الدولة العثمانية إبادة جماعية ممنهجة في حق المواطنين الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى، كما أن الوثائق المتاحة تشير إلى أن ما حدث كان اقتتالا بين جماعات مسلحة وليس قتلا ممنهجا نفذته الدولة.

وفي يونيو/ حزيران 2023، ضمن عودة العلاقات بين تركيا وأرمينيا، أشار رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان إلى أن حكومته جمدت محاولاتها لقبول الادعاءات المزعومة حول أحداث 1915 على الساحة الدولية، ودعا الشتات الأرمني في جميع أنحاء العالم إلى تبني نفس الموقف.

فلماذا تصر باريس على المضي قدما في استخدام اللوبي الأرمني ضد تركيا؟ وما فاعلية وقوة هذا اللوبي داخل فرنسا كي يكون مؤثرا في الأحداث؟ 

نسبة ضئيلة 

نسبة الأرمن في فرنسا لا تتخطى 1 بالمئة من السكان إلا أنهم يشكلون تحديا لتركيا لا يمكن إغفاله.

وتحتضن فرنسا صاحبة التنافس التاريخي مع تركيا الأرمن الذين يزعمون تعرضهم لمجزرة إبادة جماعية في نهاية حقبة الدولة العثمانية.

 فيما ترفض تركيا هذا التوصيف وتصف الحادثة بـ"المأساة" لكلا الطرفين " الأرمن والعثمانيين" على حد سواء وتدعو إلى تناول الملف بعيدا عن الصراع السياسي. 

وفي عام 2011 أعلنت باريس بشكل رسمي اعترافها بمزاعم الإبادة الجماعية للأرمن مع فرض عقوبات مالية وبالسجن على من ينكر بصورة علنية وقوع الإبادة. 

وعارضت أنقرة بشدة هذا القانون وعدته خطوة غير مقبولة ومسيئة لها حيث وصفته الحكومة التركية بأنه يتألف من "أكاذيب تاريخية" ويتلاعب بالتاريخ ويسيء لتركيا وشعبها. 

وسحبت تركيا حينها سفيرها من فرنسا بشكل مؤقت، وأطلقت تحذيرات بشأن العواقب السلبية على العلاقات الثنائية بين البلدين. 

ويسعى اللوبي الأرميني في فرنسا للعب دور في وضع سياسات مناهضة لتركيا والأتراك، من خلال مئات الجمعيات المسجلة في البلاد، والتي تنفذ أنشطة ضغط ضد الجاليات التركية والمسلمة هناك. 

ويوجد 700 ألف أرمني يقيمون في فرنسا التي سمحت لهم بتسجيل 575 جمعية بالإضافة لـ 3 أحزاب كبرى هي "الحزب الأرمني الديمقراطي" وهو الأكثر نشاطا بين الأحزاب الأرمنية.

 يليه "الحزب الأرمني الاشتراكي"، و"الحزب الأرمني الليبرالي" بالإضافة لعدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى المنتشرة في سائر المقاطعات الفرنسية. 

الحضور السياسي

وتعد القوة السياسية للجالية الأرمنية ملموسة في بعض المناطق مثل بعض الأحياء في باريس ومرسيليا وليون، إذ يمكن أن تلعب دورا في تحديد نتائج الانتخابات المحلية.

وخاصة إذا ما تمكنت من توحيد تأييد كبير وتنظيم جهودها لدعم مرشحين يدعمون مصالحها وعلى رأس ذلك الاعتراف بــ"مذابح الأرمن". 

وعلى صعيد الدولة، شغل بعض الأرمن مناصب رفيعة داخل دولاب الحكومة الفرنسية كـ "مارتين هاكوبيان" الذي كان وزيرا للصحة والشؤون الاجتماعية في حكومة "جاك شيراك" من عام 1993 حتى 1995.

و"مايا تسيتسيان" التي شغلت منصب وزيرة الثقافة والاتصال في حكومة "جان بيير رافارين" من 2005 إلى عام 2007. 

وتدعم فرنسا بقوة الوجود الأرمني داخل الدولة، وفي 24 أبريل/نيسان 2019 صدر مرسوم في الجريدة الرسمية الفرنسية بمناسبة إحياء ذكرى "إبادة الأرمن"، الأمر الذي أثار انتقادات عنيفة جديدة في تركيا ضد فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون. 

ذلك المرسوم تسبب في مشادة كلامية بين وزير الخارجية التركي آنذاك مولود جاويش أوغلو والنائبة الفرنسية عن حزب الجمهورية إلى الأمام "صونيا كريمي"، خلال اجتماع للجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي في أنقرة.

قالت "كريمي" وقتها إنها صدمت جراء الهجمات التركية، رافضة رواية التاريخ "التي يكتبها الفائزون"، بحسب مشاهد من الاجتماع بثت على الهواء مباشرة. 

"جاويش أوغلو" علق على تصريحات "كريمي" مهاجما باريس وماكرون بعنف، وقال "من حيث الإبادة الجماعية والتاريخ، فرنسا هي آخر دولة يمكن أن تعطي دروسا لتركيا لأننا لم ننس ما حصل في رواندا والجزائر".

وأضاف أنه "يمكنكم أن تواصلوا النظر الى الأمور من عليائكم، لكننا سنواصل العمل على إعادتكم إلى مكانكم".

ضد المسلمين 

وفي 24 أبريل 2021، نشرت وكالة "الأناضول" التركية الرسمية تقريرا عن استغلال فرنسا لما أطلقت عليه "الشتات الأرمني". 

وقالت: “بدأ الأرمن الذين شرعوا في الاستقرار بفرنسا عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، يشعرون بالخوف من الانصهار في بوتقة المجتمع الفرنسي والاندماج الكلي فيه”.

ومنذ عام 1970، سعى الشتات الأرمني لاستخدام أحداث عام 1915 من أجل خلق تماسك داخله لمنع الانصهار في المجتمعات الأخرى والحفاظ على اللغة والثقافة الأرمنية، وبناء هوية أرمنية في الشتات من خلال التركيز على العداء لتركيا.

وذكرت أنه بينما تستضيف روسيا العدد الأكبر من الشتات الأرمني بما يقارب مليوني نسمة، تنشط جماعات الضغط الأرمينية في الغالب في الولايات المتحدة وفرنسا.

وتطور صدام اللوبي الأرمني في باريس بأنقرة، عندما شنت أذربيجان المدعومة من تركيا، عملية عسكرية في 27 سبتمبر/ أيلول 2020 لتحرير إقليم "قره باغ" والأراضي الأذربيجانية المحتلة الأخرى التي احتلتها أرمينيا منذ عام 1992.

وفي 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أغلق أفراد من الأرمن الفرنسيين، العديد من الطرقات السريعة في فرنسا ورفعوا شعارات مؤيدة لأرمينيا ضد أذربيجان وهاجموا مواطنين فرنسيين من أصول تركية أثناء ذهابهم إلى أعمالهم الاعتيادية، مما أدى إلى إصابة 4 أشخاص بجروح مختلفة.

لكن اللوبي الأرمني في فرنسا لا يعادي الأتراك فحسب بل يستهدف الجاليات المسلمة. 

ففي 23 مارس/ آذار 2022، أعلنت جمعية "حركة الرؤية الوطنية" التابعة للجالية المسلمة في فرنسا، طرحها مشروعا لبناء مسجد في مدينة ستراسبورغ (شرق)، والحصول على مساعدات بلدية بقيمة 2.5 مليون يورو.

وبعد قرار البلدية تقديم المساعدة للجمعية، عقد ممثلو مجلس المنظمات الأرمنية الفرنسية اجتماعا مع بلدية ستراسبورغ.

وعقب الاجتماع، طلب وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، من حاكم المنطقة إحالة قضية تقديم مساعدة لبناء مسجد إلى القضاء الفرنسي.

فيما أعلنت جمعية "حركة الرؤية الوطنية"، التي تعرضت للاستهداف والتشهير في الصحافة، تخليها عن مساعدة البلدية ببناء المسجد المذكور.

سلاح فرنسا

وتثار تساؤلات عن سبب نشاط ذلك اللوبي بقوة في فرنسا؟ ولماذا تستخدمه الأخيرة ضد تركيا؟ 

لعل الإجابة تعود إلى ورقة بحثية نشرها موقع الاستقلال عام 2021، تحت عنوان "الصراع التركي الفرنسي.. الملامح والجبهات المفتوحة"

ذكرت الورقة أن الملفات التي تثير التوتر بين تركيا وفرنسا كثيرة، بدءا من إحباط أنقرة للتصورات الفرنسية للحل في ليبيا، إلى محاولات التمدد في غرب المتوسط عبر المناورات البحرية المرتقبة بينها وبين البحرية الجزائرية.

مرورا بملفات الدعم الفرنسي لمليشيات "حزب العمال الكردستاني"، وقضية التنقيب التركي في شرق المتوسط.

علاوة على اتجاه تركيا لمنافسة الحضور الفرنسي في غرب إفريقيا عبر النيجر وتشاد وغامبيا والسنغال، بالإضافة للملفين الرمزيين اللذين يتعلق أحدهما بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وملف استغلال فرنسا للدعاية حول الأرمن، والتي تقابلها أنقرة بالتذكير بمذابح باريس في الجزائر ورواندا وغيرهما.

هذه الملفات جميعها، دفعت مراقبين للتأكيد على أن أنقرة أصبحت هدفا إستراتيجيا لخصومها الإقليميين الذين بدأوا جهودا دبلوماسية مكثفة لإعاقتها على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري، خاصة في سوريا والعراق، والعمل على إضعاف محور تركيا - قطر.

فمن جهة، تشرع فرنسا في تشكيل تكتل واسع من دول قوية أو ثرية لتشكيل محور مواجهة شرق متوسطي، هدفه الأساسي احتواء تركيا. 

وتدفع فرنسا شركاءها، كما تشارك بنفسها في جهود إشعال جبهات التوتر حول تركيا، وذلك عبر تزويد بعض الجبهات المعادية لها بالمال والسلاح والدعم الدبلوماسي.

وفي هذا الإطار، تزود اليونان بسلاح نوعي من مخزون الناتو المخصص لها، وتتولى فرنسا بنفسها إشعال الجبهة العراقية عبر الدخول بثقلها الدبلوماسي والعسكري لتأليب بغداد على نفوذ أنقرة في شمال البلاد.

ورقة ضغط 

ليس هذا فحسب، فمن المعروف أن فرنسا كانت من أكثر دول أوروبا مناهضة لدخول تركيا لمصفوفة الاتحاد الأوروبي، وقد لعبت بملف الأرمن كورقة ضغط رئيسة لمنع أنقرة من ذلك. 

ولطالما استغلت ادعاءاتها حول قضية الأرمن في ابتزاز تركيا، وتشترط دوما اعتراف أنقرة بارتكابها المذبحة في الماضي، كأحد شروط انضمامها للاتحاد الأوروبي في المفاوضات المجمدة حاليا والتي بدأت عام 2005.

ووصل الأمر في أبريل 2015، إلى أن قال مفوض شؤون التوسعة بالاتحاد الأوروبي حينها، يوهانز هان، بعد الشكوى الفرنسية، إن رد الفعل التركي العنيف حيال الدول الأوروبية التي استخدمت تعبير "الإبادة الجماعية" لوصف مذابح الأرمن، على أيدي الأتراك العثمانيين، عام 1915، سيعقد مساعي أنقرة للانضمام إلى الاتحاد.

وتابع: "لقد زرعت (تركيا) بذور المواقف المناهضة لأوروبا والغرب، وفي ظل الوضع الحالي يبدو انضمامها في المستقبل إلى (الاتحاد الأوروبي) صعبا للغاية".

وفي مقابل التهديدات والمماطلات الأوروبية خاصة فرنسا، كانت اللهجة التركية متحفزة وتتسم بالتحدي، حيث قلل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أهمية قرار البرلمان الأوروبي وقف مفاوضات انضمام بلاده إلى الاتحاد.

وقال أمام تجمع جماهيري قبيل انتخابات البلدية عام 2019: "فليتخذ الاتحاد الأوروبي قرارا بوقف مفاوضات انضمام تركيا إن كان بوسعه، نحن مستعدون وننتظر، لكنهم لا يستطيعون، وقرار البرلمان الأوروبي بهذا الصدد لا نقيم له وزنا".

الأكثر من ذلك تصريح أردوغان في فبراير/ شباط 2022، حين قال: “لا يقبلنا الاتحاد الأوروبي لأننا مسلمون. فليقولوا ذلك صراحة، لكنهم لا يستطيعون”.

واتهم الرئيس التركي القادة الأوروبيين والفرنسيين بازدواجية المعايير تجاه تركيا، ويرى أنهم "يقولون شيئا أمام الكاميرا.. ويقولون شيئا آخر خلف الأبواب المغلقة".

وتاريخيا بقدر ما كشف التربص الفرنسي الأوروبي بتركيا مستغلة مزاعم تاريخية بشأن الأرمن، بقدر ما أماط اللثام عن وجه باريس الدموي، حيث تلاحقها الجرائم التي سفكتها خلال الحقبة الاستعمارية في عدة دول أبرزها الجزائر ورواندا.