رغم انتهاء الحرب في غزة.. لماذا يواصل الإسرائيليون التفكير في الهجرة؟

طوفان الأقصى زعزعت ثقة الإسرائيليين في الشعور بالأمن والاستقرار والتفوق
على وقع التدهور الأمني والأزمات الاقتصادية، فكّر نحو ربع الإسرائيليين في مغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عام 2024، ضمن حالة متواصلة من الهجرة العكسية منذ تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الأكثر تطرفا.
ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع غزة ولبنان، لا تزال حالة القلق وعدم الاستقرار تخيم على المجتمع الإسرائيلي؛ حيث لم يعد كثيرون ممن غادروا تل أبيب إلى البلاد بعد عملية طوفان الأقصى.
وهو ما يكشف عن استمرار أزمة الهجرة العكسية من إسرائيل، منذ بدء العملية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تبعها من تطورات أثرت على الشرق الأوسط.

ربع الإسرائيليين
وذكرت دراسة إسرائيلية جديدة أجراها مركز "روبين" الأكاديمي، ونشرت في 14 فبراير/شباط 2025 أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في المغادرة خلال عام 2024، "على خلفية الأوضاع الأمنية المتردية في البلاد".
ولفتت إلى وجود علاقة كبيرة بين عدم الشعور بالأمن الشخصي والرغبة في الهجرة من إسرائيل، حيث رأى 31 بالمئة من المشاركين في الدراسة أن الوضع الأمني هو العامل الرئيس للتفكير في المغادرة.
وأشارت الدراسة إلى أن 24 بالمئة من الإسرائيليين فكروا في مغادرة البلاد خلال عام 2024، مقارنةً بـ18 بالمئة فقط قبل عامين.
وأوضح موقع واللا العبري أن الدراسة قُدمت في مؤتمر لوزارة الاستيعاب والهجرة بالتنسيق مع المركز الأكاديمي "روبين"، لمناقشة تأثير الوضعين الأمني والاقتصادي على رغبة الإسرائيليين في مغادرة البلاد.
وأظهرت بيانات الدراسة الجديدة أن "أكثر من ثلث الإسرائيليين يفكرون في مغادرة إسرائيل بسبب عوامل مختلفة، على رأسها التدهور الأمني بنسبة 31 بالمئة، والوضع الاقتصادي بنسبة 28 بالمئة.
وهذه الدراسة تأتي لتؤكد على تفكير نفس النسبة في الهجرة خلال عام 2023، ما يوضح مدى تغير الأوضاع في إسرائيل منذ تولي حكومة بنيامين نتنياهو الحكم.
فقد أجرت قناة كان استطلاعا للرأي في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024، قالت فيه إن نحو ربع الإسرائيليين فكَّروا في الهجرة للخارج خلال عام 2023 بسبب "الأوضاع السياسية والأمنية".
وأظهر استطلاع القناة التابعة لهيئة البث الرسمية أن 2 بالمئة من الإسرائيليين فكروا منذ أكتوبر 2023 حتى نفس الشهر من عام 2024، في المغادرة.
وزعزعت عملية طوفان الأقصى ثقة الإسرائيليين في الشعور بالأمن والاستقرار والتفوق بالشرق الأوسط، مما دشن مرحلة جديدة من الهجرة العكسية.
فبعد العملية التي تحولت إلى مواجهة على عدة جبهات أبرزها في لبنان وكذلك اليمن، تزايدت أعداد المهاجرين إلى الخارج، من المستوطنين الذين جرى جمعهم خلال العقود الماضية من مختلف أنحاء العالم وتوطينهم فيما يزعمون أنها "الأرض الموعودة".
وبموجب ما يعرف باسم "قانون العودة" الذي صدر في إسرائيل عام 1950، يحق لليهود وبعض أقاربهم الانتقال إلى الكيان والحصول على جنسيته.
ومع أن الطوفان كان أكبر دافع لهجرة الإسرائيليين مع ما جلبه من تحديات أمنية وأزمات اقتصادية، فإن هناك أسبابا إضافية بدأت مع تشكيل حكومة نتنياهو الحالية أواخر عام 2022.
أبرز تلك الأسباب، التشريعات التي كانت تدفع بها الحكومة للحد من سلطات المحكمة العليا والتي عدتها المعارضة "انقلابا على القضاء".
وعلى إثر ذلك، شهدت إسرائيل، بداية عام 2023، موجة احتجاجات ضخمة، أجهضت محاولات نتنياهو لتمرير تلك التشريعات.
ومنذ ذلك الحين بدأت موجة عكسية من الهجرة مع إصرار نتنياهو على تمرير المخطط، لتأتي بعدها عملية طوفان الأقصى وتزيد أعداد المغادرين بشكل غير مسبوق.

ماذا تقول الإحصاءات؟
وبعيدا عن مجرد التفكير في الهجرة، كشف المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي (رسمي) عن مغادرة 82.7 ألف شخص البلاد خلال عام 2024، وعودة 23.8 ألف في المقابل.
وقال المكتب في 31 ديسمبر/كانون الأول 2024: "يقدر عدد سكان إسرائيل بنحو 10 ملايين و27 ألفا، بينهم 7.7 ملايين يهودي و2.1 مليون عربي إسرائيلي (فلسطينيو الداخل) و216 ألف أجنبي".
وذكر أن معدل نمو السكان في عام 2024 انخفض إلى 1.1 بالمئة مقارنة بـ 1.6 بالمئة عام 2023.
ولم يحدد التقرير أسباب مغادرة الإسرائيليين، لكن سبق أن عزت وسائل إعلام عبرية ذلك إلى إطلاق الصواريخ من لبنان وقطاع غزة واليمن تجاه إسرائيل.
وأمام هذا الواقع، ازدادت المطالبات بتسريع الاستجابة لطلبات الهجرة إلى إسرائيل لتعويض النقص أمام عدد المغادرين.
وجرى تسليط الضوء على انخفاض الهجرة خلال مناقشة في 15 سبتمبر/أيلول 2024 للجنة العليا والاستيعاب والشتات في الكنيست (البرلمان)، برئاسة العضو عوديد فورر (من حزب إسرائيل بيتنا).
وعلى الرغم من التحديات، حث فورير الحكومة على زيادة الاستثمار في الترويج للهجرة وتحسين عملية استيعاب المهاجرين من جميع أنحاء العالم.
وكشف النقاش أيضا أن الحرب على غزة وما يرتبط بها من توتر، أسهمت في انخفاض الطلب على مقابلات الهجرة، خاصة من دول ما بعد الاتحاد السوفييتي؛ حيث أجل المهاجرون المحتملون خططهم بسبب المخاوف الأمنية.
وكانت تقديرات إسرائيلية سابقة أشارت إلى أن محاولات الانقلاب القضائي وعملية طوفان الأقصى وما تبعها من تصعيد عسكري بالمنطقة، تسبب حتى الآن في هجرة أكثر من نصف مليون إسرائيلي.
وأكدت صحيفة “زمان إسرائيل” العبرية في 23 يونيو/حزيران 2024 أن ذلك الهروب ليس مؤقتا كما هو معتقد، بل بات اتجاها متناميا داخل البلاد، مستندة في ذلك إلى أن "عدد المغادرين أكبر من القادمين".
وفي 30 أغسطس/ آب 2024، حذر رئيس وزراء إسرائيل السابق نفتالي بينيت، من أن سياسات حكومة نتنياهو دفعت العديد من الإسرائيليين إلى التفكير في الهجرة.
وقال بينيت، عبر منصة إكس: "قبل هجوم 7 أكتوبر، كان جزء من الجمهور (الإسرائيلي) يشعر أن الحكومة تكرهه، إلا أن الهجوم تسبب في ظاهرة معاكسة، وهي النضال من أجل البلاد"، وفق حديثه.
وأضاف مستدركا: "لكن مع مرور الشهور، عاد اليأس يتسلل إلى نفوس قطاعات واسعة من الإسرائيليين حيث أدت سياسات الحكومة إلى جعلهم يفكرون في الهجرة الدائمة".
ولفت بينيت الانتباه إلى "تفاقم الإحباط في صفوف الإسرائيليين"، مشيرا إلى أن شعورًا عاما يسود بينهم أن "الحكومة تتعمد اتخاذ قرارات تهدف إلى إلحاق الأذى بشريحة واسعة من الشعب".
ورأى أن حكومة نتنياهو "تتجاهل بشكل كبير التحديات الداخلية وتفشل في تقديم الحلول اللازمة لمشاكل السكن والأمن والاقتصاد".
غياب الانتماء
وتحول الإحصاء الصادم الأخير على الفور إلى جدل سياسي جديد بين الإسرائيليين، خاصة أن البيانات المتاحة أشارت إلى أن هذه الهجرة تركزت على المهنيين والأطباء والفنيين بسبب يأسهم من أحوال الدولة.
وفي حين استغل أنصار اليمين هذه الأرقام الصادمة لانتقاد المهاجرين من الدولة، استخدمها معارضو الحكومة لمهاجمتها.
وقالت صحيفة ميدل إيست مونيتور البريطانية في 14 يناير/كانون الثاني 2025 إن “هذه البيانات تؤكد أن الخبراء في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والطب والثقافة هم الأمثلة الرئيسية للمهاجرين".
وذلك "لأنهم لم يعودوا قادرين على إيجاد مكان لأنفسهم في دولة تروج لقوانين تحد من حريتهم الشخصية وتخنق الإبداع وتقمع ملكيتهم الخاصة”.
وفي هذا السياق، قال مدير عام وزارة الصحة الإسرائيلية موشيه بار سيمان: إن الوزارة تشعر بالقلق، إزاء ظاهرة مغادرة الأطباء من إسرائيل أو تمديد فترة تدريبهم في الخارج، وتحارب على كل طبيب، وتعمل على إقناعهم بالبقاء في البلاد.
ووفقا لبيانات عرضتها لجنة الهجرة والاستيعاب في الكنيست، تعد إسرائيل من الدول الأقل جذبا كمقصد لهجرة المثقفين بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وفق ما قالت صحيفة هآرتس العبرية.
وأكدت الصحيفة في 4 فبراير 2025 أن “نسبة المثقفين بين الذين يغادرون إسرائيل أعلى بكثير مقارنة بالفئات الأخرى من السكان”.

ومن جملة الأسباب الدافعة للهجرة، أشارت ميدل إيست مونيتور إلى “السياسة الاقتصادية غير العادلة للحكومة، ومعارضة الحريديم (اليهود المتدينين) للخدمة العسكرية الإلزامية، والتهديدات ضد المؤسسات الأكاديمية، والهجمات على المحكمة العليا، والفشل في إعادة المحتجزين بغزة عبر الحرب”.
وأضافت أن “ما يقلق إسرائيل حقا هو عمر هؤلاء المهاجرين، حيث إن 48 بالمئة منهم تتراوح أعمارهم بين 20 و45 عاماً، و27 بالمئة منهم أطفال ومراهقون”.
وأردفت أن “الغالبية العظمى منهم دون سن 45 عاماً، ويبحثون عن نوعية حياة أفضل، بسبب تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع تكاليف المعيشة وصعوبة الحصول على السكن والعمل، مع درجة أكبر من عدم القدرة على الوصول إلى الخدمات العامة الجيدة”.
وأكدت أن “هؤلاء المهاجرين عمليا يعانون من انخفاض الشعور بالانتماء إلى الدولة وثقافتها، وتراجع ارتباطهم بها، بسبب صدمة الحرب وفقدان الثقة بالقيادة والأزمة الاقتصادية”.
وتحدث مسؤول شعبة الأسرى والمفقودين السابق في جهاز المخابرات الخارجي "الموساد" رامي ايغرا، عن مفارقة تلخص هذا الواقع أمام ما يجرى من محاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهجير أهالي غزة، ضمن خطة مشتركة مع نتنياهو.
وقال إيغرا في 12 فبراير 2025، إنه لو عرض ترامب جرين كارد (بطاقة الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة) على سكان "تل أبيب" فستكون استجابتهم للهجرة أكبر من استجابة أهالي غزة.
وفي حديث لـ"الاستقلال"، يقول الصحفي الفلسطيني ياسر محمد: إن “هذه المفارقة ترسخت خلال الحرب بشكل كبير، فكلما ازداد الدمار والقتل والحصار وحياكة المخططات بحق الغزيين، تشبثوا أكثر بأرضهم”.
وأوضح أنه “على الطرف المقابل، يهرب المحتل الإسرائيلي من أراضينا المحتلة مع أول ضربة؛ لأنه لا ينتمي لهذه الأرض وليس له حق فيها يضطره للدفاع عنها، وهنا يجبر على العودة من حيث جاء هو أو آباؤه وأجداده”.
وتابع: “ما شهدناه بعد اتفاق وقف إطلاق النار من مسارعة مئات الآلاف من الغزيين للعودة إلى شمال قطاع غزة حيث الدمار وانعدام الحياة، يؤكد هذه المفارقة”.
وواصل القول: “عاد هؤلاء لنصب الخيام فوق أنقاض منازلهم المدمرة ليقولوا للعالم إن مخططات التهجير لن تنجح في اقتلاعهم من أراضيهم، وذلك على عكس من يغادر إسرائيل التي تعيش رفاهية كبيرة ولا يمكن مقارنتها بغزة، لكن المستوطنين فيها لا يشعرون بالأمن أو الانتماء لها”.