تركيا تعلق التجارة بشكل كامل مع إسرائيل.. ما التداعيات على الجانبين؟
"لم يتبق سوى العداء بين تركيا وإسرائيل"
بعد نحو 7 أشهر على العدوان الإسرائيلي في غزة، وجهت تركيا صفعة قوية لتل أبيب، عندما أعلنت في 2 مايو/أيار 2024، تعليق الأعمال التجارية المشتركة بشكل كامل.
وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن قرار وقف التجارة مع تل أبيب يهدف في الأساس إلى إجبار رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، على وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وقال أردوغان خلال استقباله مجلس إدارة جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين "موصياد" في قصر دولمة بهجة بإسطنبول، " لا أحد يستطيع تحمل لعنة أكثر من 40 ألف طفل وامرأة وشيخ قتلوا في غزة".
وأضاف: "لدينا هدف واحد هو إجبار إسرائيل التي خرجت عن السيطرة بدعم عسكري ودبلوماسي غربي، على وقف إطلاق النار".
قرار حاسم
في اليوم التالي، قال الرئيس التركي، في رده على أسئلة الصحفيين: "بوصفنا مسلمين لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي حيال ما يحدث.. لقد اتخذنا الخطوات الواجب علينا اتخاذها".
ووصف أردوغان، نتنياهو بـ "القاسي" الذي استخدم قسوته تجاه الأطفال والنساء وكبار السن. وشدد: "لقد كان حجم التبادل التجاري بيننا يصل إلى 9.5 مليارات دولار، لكننا تجاهلناه وأغلقنا الباب".
وطرح إشهار أنقرة عصا العقوبات الاقتصادية في وجه إسرائيل، تساؤلات بشأن أسبابها وتوقيتها بعد 7 أشهر من العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وعن مدى تأثيرها. وأهم من ذلك هل تدفع تركيا ثمن موقفها سياسيا واقتصاديا؟
وفي ضوء ما وصفته وزارة التجارة التركية بـ"تفاقم المأساة الإنسانية" في الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة خاصة، أعلنت تعليق جميع معاملاتها التجارية مع إسرائيل.
وقال وزير التجارة التركي عمر بولات، إن تعليق التجارة مع إسرائيل سيستمر حتى تأمين وقف إطلاق نار دائم في غزة وتدفق المساعدات الإنسانية بدون عوائق للفلسطينيين هناك.
وشدد على أن بلاده لن تتراجع عن قرارها إلا بعد ضمان تدفق غير متقطع وكافٍ للمساعدات الإنسانية إلى غزة.
وذكر بولات أن قرار العقوبات يأتي ضمن المرحلة الثانية من الإجراءات المتخذة على مستوى الدولة، بوقف المنتجات كافة التي يتم تصديرها إلى الأراضي المحتلة، وأن الإجراءات سيتم تطبيقها بشكل صارم وحاسم.
وتحتل إسرائيل المرتبة 13 على قائمة صادرات تركيا، حسب بيانات "معهد الإحصاء التركي"، للعام 2023.
كما تشير بيانات "جمعية المصدرين الأتراك" أن صادرات تركيا إلى إسرائيل انخفضت بنسبة 21.6 بالمئة في الربع الأول من عام 2024، أي بعد أشهر قليلة من بدء العدوان على غزة.
العلاقات التجارية
وأوردت بيانات الجمعية التركية أن أنقرة صدرت إلى تل أبيب بين عامي 2011 و2020 الحديد الصلب ومنتجات صناعة السيارات والمواد الكيميائية والمنتجات والملابس الجاهزة والكهرباء والإلكترونيات والأسمنت والزجاج والسيراميك ومنتجات التربة والأثاث والورق.
كما وردت إلى دولة الاحتلال منتجات الحبوب والبقول والبذور الزيتية ومنتجاتها والمعادن الحديدية وغير الحديدية والمنسوجات والمواد الخام.
الإحصاءات أشارت أيضا إلى أن إسرائيل استوردت من تركيا ما قيمته 3 مليارات و684 مليون دولار من سيارات الركاب، وأنواع أخرى من المركبات.
واستوردت كذلك بقيمة 2 مليار 737 مليون دولار نفطا خاما (الزيوت البترولية والزيوت المستخرجة من المعادن القارية).
واحتلت أيضا منتجات الذهب والمجوهرات مكانة مهمة بين المنتجات التي صدرتها تركيا إلى إسرائيل.
وتمتلك تركيا وإسرائيل اتفاقيات تجارة حرة تعود إلى منتصف التسعينيات، ودخلت اتفاقية التجارة الحرة بينهما حيز التنفيذ منذ عام 1997.
وفي نطاقها، جرى إعفاء تجارة المنتجات الصناعية بين الحكومتين من الرسوم الجمركية منذ يناير/ كانون الثاني 2000.
ورغم الكثير من المناوشات بين أنقرة وتل أبيب منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002 بقيادة رجب طيب أردوغان، ظلت العلاقات الاقتصادية بعيدة عن الخلافات قدر المستطاع، وشهدت تذبذبا بين صعود وهبوط.
وأوردت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير لها يوم 2 مايو 2024، أن "جميع الاتفاقات التجارية مع تركيا يتم انتهاكها الآن".
وكانت أولى خطوات تركيا لتقييد علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل في 9 أبريل/ نيسان 2024، عندما فرضت قيودا على تصدير 54 منتجا، بما في ذلك الأسمنت ووقود الطائرات.
كما أعلن وزير التجارة التركي خلال ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد شهرين من العدوان أن التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل انخفض بنحو 50 بالمئة منذ 7 أكتوبر من نفس العام، مقارنة بالفترة ذاتها من 2022.
وأرجع بولات الأمر حينها إلى قلة إقبال رجال الأعمال الأتراك والتجار على طلب المنتجات الإسرائيلية بعد العدوان على غزة.
خطوة مؤثرة
ويأتي السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، عن مدى تأثير عاصفة القرارات التركية، على مركب الاقتصاد الإسرائيلي المضطرب منذ عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس؟
وهنا يرى الباحث الاقتصادي أحمد يوسف أنه "بسبب 7 أكتوبر، تشهد إسرائيل أصعب أزماتها في سنواتها الأخيرة، بما فيها أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية".
وأضاف لـ"الاستقلال": “بالنسبة لإسرائيل فالخطوة التركية خطيرة ومؤثرة، فالواردات من تركيا إليها تقدر بـ 7 مليارات دولار وهو رقم كبير”.
وأوضح أن "المشكلة الأكبر أن الواردات التركية إلى تل أبيب ليست ذات طابع استهلاكي يتوقف ضررها عند المستهلك، بل هي مواد خام تدخل في صلب الصناعة الإسرائيلية، وبالتالي سيكون لها سلسلة من التأثيرات السلبية الجسيمة على اقتصاد دولة الاحتلال".
ولذلك، شكلت وزارة الخارجية الإسرائيلية طاقما خاصا لبحث هذه التأثيرات وإيجاد بدائل لتركيا.
وبحسب بيانات الدائرة الاقتصادية لاتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية، فإن مزيج الواردات من تركيا يشكل الآتي: (المعادن 27 بالمئة، والآلات والمعدات الكهربائية 13 بالمئة، والبلاستيك والمطاط 9 بالمئة، والحجر والجبس والزجاج والأسمنت 8 بالمئة، وقطع غيار السيارات 7 بالمئة، والمياه المعدنية 5 بالمئة).
وتعد تركيا المورد الرابع لإسرائيل من حيث استيراد البضائع بعد الصين والولايات المتحدة وألمانيا، حسب مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي.
لذلك فإن الاقتصاد الإسرائيلي المحلي سيجد صعوبة في التعامل مع المقاطعة التركية.
ورأى موقع "واي نت" التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في تقرير نشره يوم 4 مايو 2024، أن قرارات وقف التبادل التجاري تمثل انعكاسا مباشرا لسياسة أردوغان المناهض للسياسة الإسرائيلية بالشرق الأوسط التي تفاقمت بشدة خلال الحرب.
وفي تصريحات لموقع "الحرة" الأميركي ذكرت خبيرة السياسة الخارجية التركية في معهد "دراسات الأمن القومي" بجامعة تل أبيب، غاليا ليندنشتراوس، أنه على مدى السنوات السابقة خلقت العلاقات التجارة التركية الإسرائيلية نوعا من "اللغز" في نظريات الترابط الاقتصادي والاستقرار.
وقالت: يقوم اللغز على فكرة مفادها: "كيف يمكن أن تكون هناك في بعض الأحيان علاقات سياسية معادية للغاية بينما كانت العلاقات التجارية مزدهرة!".
وأكدت أن الطرفين حرصا دائما على فصل السياسة عن الاقتصاد، رغم مطبات التوتر التي خيمت على مشهدهما، لكن لم يتأثر حجم التبادلات التجارية بينهما.
حجم الضرر
وحسب الباحثة الإسرائيلية فإنه بالقرار التركي الأخير تكون العلاقات التجارية قد خرجت من المعادلة السابقة، مدعية أن الخسارة ستضرب الجهتين،" فلم يتبق سوى العداء بين تركيا وإسرائيل".
لكن ثمة جانبا آخر للعملية، وسؤالا يتم طرحه، ما الثمن الذي ستدفعه تركيا جراء تلك القرارات، فلكل أمر عاقبته.
سريعا ما ردت دولة الاحتلال على قرارات أردوغان، ففي 3 مايو في اليوم التالي مباشرة لفرض العقوبات، قررت وزارة الخارجية الإسرائيلية اتخاذ عدد من الإجراءات أولها وقف التجارة بين الحكومتين.
من بين الخطوات الرئيسة التي أعلن الإعلان عنها، تقليص أي علاقة اقتصادية بين تركيا والسلطة الفلسطينية وغزة.
إذ تعد أنقرة أكبر دولة مستوردة من فلسطين (السلطة الفلسطينية)، ويبلغ إجمالي وارداتها من الفلسطينيين حوالي 18 بالمئة.
كذلك أعلنت وزارة خارجية إسرائيل أنها ستناشد المنتديات الاقتصادية الدولية لمعاقبة أنقرة بسبب انتهاكها الاتفاقيات التجارية.
وقال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس: ردا على القرار التركي "نحن نكسب وهم يخسرون".
ويدعم حديث الخسائر التركية لغة الأرقام، وهو ما أعلن عنه رئيس جمعية "المصدرين الأتراك" مصطفى غولتيبي، حين قال: إن "هناك شركات تصنع ما بين 70 إلى 80 بالمئة من صادراتها إلى إسرائيل، وإذا استمر حظر التصدير لفترة طويلة، فستكون في مشكلة كبيرة".
وشدد رجل الأعمال التركي في تصريحات نقلتها صحيفة "سوزكو" المعارضة: "يجب على الدولة حمايتنا وتغطية خسائرنا".
وأضاف غولتيبي: "ليس من السهل تغطية خسارة 6 مليارات دولار قد تحدث بسبب توقف الصادرات إلى إسرائيل".
تدارك الأخطاء
لكن ليس كل رجال الأعمال أو الجمعيات الاقتصادية التركية ترى ما يعتقده مصطفى غولتيبي.
ففي بيان نشره محمود أصمالي، رئيس جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين التركية (موصياد) في 3 مايو، عد قرار وزارة التجارة من أهم القرارات في فرض الحصار على إسرائيل.
وشدد على أن الخطوة جاءت نتيجة "عدم تحرك العالم والنظام الدولي حيال العدوان الإسرائيلي الوحشي وإيجاد حل لتحقيق العدالة والسلام، كونهما أصبحا مفلسين".
وقال أصمالي: "نؤيد قرار وقف الصادرات والواردات لجميع المنتجات إلى إسرائيل ونجد أنه من المهم قطع العلاقات التجارية معها، وهذا مكسب إنساني".
ودعا رجل الأعمال التركي الدول كافة أن تحذو حذو تركيا في اتخاذ قرارات مماثلة ضد إسرائيل.
وهو الخط الذي سار عليه أورهان أيدين، رئيس "جمعية رجال أعمال أسود الأناضول"، الذي تمنى أن يكون قرار وزارة التجارة التركية نموذجا لجميع الدول التي لديها الضمير وأن ينتشر على نطاق واسع.
ورأى أيدين في حديثه لوكالة "الأناضول" التركية الرسمية، أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية غير مسبوقة في غزة أمام أعين العالم أجمع، بضربها عرض الحائط، المؤسسات والاتفاقيات القانونية الدولية.
ورأى رئيس بورصة تجارة إسطنبول علي كوبوز، أن القرار نابع من الأخلاق الإنسانية، وأن الحكومة (الإسرائيلية) التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية ينبغي عليها دفع الثمن.
وقال: "إن قرار وقف التجارة بشكل كامل مع إسرائيل حتى السماح بوصول مساعدات إنسانية كافية إلى غزة دون انقطاع هو مؤشر على أن تركيا ضمير العالم".
واختتم: "بوصفنا ممثلين لعالم الأعمال في تركيا، فإننا نؤيد هذا القرار، وهو مطلب للإنسانية".
وعلى مدار الأشهر الماضية شهدت الساحة التركية تصاعدا في حدة الانتقادات الموجهة للحكومة بسبب التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل.
ونظمت أحزاب سياسية ومنظمات إنسانية اعتصامات ووقفات احتجاجية مطالبين بتعليق فوري لتصدير البضائع إلى إسرائيل.
وفي مطلع مارس/ آذار 2024، تعرض وزير العمل التركي "فيدات إيشيخان" للتوبيخ من مواطنين غاضبين في مدينة بورصة.
ووقتها قال أحد المواطنين موجها حديثه إلى الوزير: "غزة جائعة وأنتم ترسلون السفن لإسرائيل، أوقفوا التجارة القذرة".
بينما أرجع سياسيون ومحللون خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات المحلية، في 31 مارس 2024، في أول هزيمة انتخابية يمنى بها الحزب منذ تدشينه عام 2001، إلى موقفه من التعامل مع إسرائيل بعد عدوانها على غزة.
وهو ما أكده رئيس حزب "الرفاه الجديد" فاتح أربكان، الذي تسبب في سحب كثير من أصوات المحافظين الأتراك من العدالة والتنمية.
وقد قال أربكان عشية نتائج الانتخابات: "بدلا من أن يلومنا حزب العدالة والتنمية، عليه أن يلوم نفسه أولا، فأسباب خسارتهم ليست نحن، بل الديون والفوائد والاقتصاد الضريبي، واستمرار التجارة مع القتلة الصهاينة الإسرائيليين، وموافقتهم على انضمام السويد التي تحتضن حزب العمال الكردستاني للناتو (حلف شمال الأطلسي").. عليهم أن يلوموا أنفسهم أولا".
لذلك فإن مراجعة العدالة والتنمية لموقفه واتخاذه مواقف أكثر حزما تجاه إسرائيل، تأتي في ظل إصلاحات سياسية خارجية بدأها الحزب منذ فترة، تشمل الوقوف ضد إسرائيل، ووضع تركيا في موضع فاعلية سياسية خارجية أكثر قوة ونفوذا.
المصادر
- (تعليق التجارة مع إسرائيل) "حجم التبادل التجاري بيننا كان 9.5 مليار دولار لكننا تجاهلناه وأغلقنا الباب"
- عالم الأعمال التركي يدعم قطع أنقرة التجارة مع إسرائيل
- تركيا تغلق "باب التجارة" مع إسرائيل.. من "سيتألم" أكثر؟
- المقاطعة التركية تعمق أزمة الاقتصاد الإسرائيلي
- أرقام وإحصائيات.. كيف تأثر التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل بعد حرب غزّة؟