"أخطاء مكررة".. لماذا شنت غينيا الاستوائية هجوما غير مسبوق على فرنسا؟

منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

رغم إعلانها عن مسار جديد في علاقتها مع الدول الإفريقية، إلا أن باريس ما تزال تضع نفسها في أزمات مستمرة مع دول القارة، مما يعيدها إلى مربع الصدام والخلاف مع عدد من الدول باستمرار.

آخر مظاهر هذا التوتر، اتهام نائب رئيس غينيا الاستوائية، تيودورو نغيما أوبيانغ مانغي، فرنسا بالوقوف وراء "محاولات لزعزعة الاستقرار والسعي إلى تقويض السلم" في بلاده.

تصريح نائب الرئيس المنشور عبر منصة "إكس" في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عُدّ هجوما دبلوماسيا نادرا على باريس.

كما جاءت هذه التصريحات بعد يومين من منح الناشط المعارض ألفريدو أوكينفي، المقيم في المنفى بإسبانيا، جائزة حقوق الإنسان الفرنسية الألمانية، وهو ما علقت عليه مالابو بقولها: إنه "مكافأة لخيانة الوطن".

نزاع وخلاف

وقال نائب رئيس غينيا الاستوائية: إن "فرنسا تكافئ المحرّضين على الكراهية وتشجعهم على تقويض السلم والعمل ضد ثقافاتهم وإخوتهم"، محملا باريس مسؤولية "جميع المحاولات الرامية إلى زعزعة الاستقرار في غينيا الاستوائية".

وأعاد التذكير بما وصفه بـ"محاولة انقلاب" في ديسمبر/كانون الأول 2017، قال: إنها نُفذت بمشاركة عناصر من الاستخبارات الخارجية الفرنسية. 

كما اتهم باريس "بالاستيلاء على أصول البلاد عبر منظمات مثل منظمة الشفافية الدولية". مضيفا أن "إفريقيا سئمت من هذه المناورات التي شملت دولا أخرى مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو".

يأتي هذا التصعيد بينما يواجه الرئيس أوبيانغ نفسه أحكاما قضائية في فرنسا، فقد أدانته محكمة باريس عام 2021 بالسجن 3 سنوات مع وقف التنفيذ وغرامة قدرها 30 مليون يورو، بتهم تتعلق بالفساد وتبييض الأموال واختلاس الأموال العامة.

وتتواصل بين باريس ومالابو نزاعات قضائية بشأن ممتلكات مصنفة ضمن "قضية الأموال المنهوبة"، أبرزها مبنى فاخر في جادة فوش بالعاصمة الفرنسية تقدر قيمته بـ100 مليون يورو.

وكانت محكمة العدل الدولية قد رفضت في سبتمبر/أيلول 2025 طلبا من غينيا الاستوائية لمنع بيع العقار، مؤكدة أحقية فرنسا في التصرف به.

يذكر أن غينيا الاستوائية الدولة الصغيرة الغنية بالنفط في وسط إفريقيا، يحكمها الرئيس تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو منذ أكثر من 46 عاما، وهو صاحب أطول فترة حكم لرئيس دولة على قيد الحياة خارج الأنظمة الملكية؛ حيث يبلغ من العمر 83 عاما.

ويشغل نجله منصب نائب الرئيس، وسط اتهامات متكررة من منظمات حقوقية بترسيخ الحكم العائلي وتقييد الحريات السياسية.

احتقار السيادة

خلال جلسة قضائية لمحكمة العدل الدولية بخصوص أزمة العقار مع باريس، منتصف يوليو/تموز 2025، اتهمت غينيا الاستوائية فرنسا باتباع "نهج استعماري جديد ضد البلاد".

وطالبت حكومة غينيا الاستوائية المحكمة بإصدار أوامر عاجلة لمنع باريس من بيع العقار الذي يضم تجهيزات فاخرة مثل صالة سينما، وحمّام تركي، وصنابير مياه مطلية بالذهب. مشيرة إلى أن الشرطة الفرنسية قامت أخيرا بتغيير أقفال عدد من أبوابه دون إخطار رسمي.

وفي تصريح للصحافة وقتها، انتقد سفير مالابو لدى باريس، كارميلو نوفونو-نكا، ما وصفه بـ"الاحتقار للسيادة الوطنية"، قائلا: إن فرنسا "لم تستوعب بعد أن الأفارقة لم يعودوا يقبلون التدخل في شؤونهم الداخلية".

وأضاف أن بلاده تطالب بـ"وصول فوري وكامل وغير مقيّد إلى المبنى"، متهما باريس بعزمها بيع القصر والتصرف بعائداته من جانب واحد.

يُذكر أن هذه القضية كانت محور نزاع سابق أمام المحكمة الدولية منذ عام 2016، حين حاولت غينيا الاستوائية إثبات أن المبنى يُستخدم كسفارة رسمية، إلا أن المحكمة قضت لصالح فرنسا.

ورأت المحكمة أن المبنى لم يُصنّف كمقر دبلوماسي إلا بعد بدء التحقيقات، مشيرة إلى أن السفارة الرسمية للدولة تقع في موقع آخر بالعاصمة باريس.

من جهته، وصف دييغو كولاس، المستشار القانوني في الخارجية الفرنسية، الشكوى بأنها "لا أساس لها"، مشيرا إلى أن عملية البيع المحتملة للقصر "ما زالت بعيدة"، وأن زيارة الشرطة للمبنى كانت "لأغراض استطلاعية".

إخفاق فرنسي

في قراءته لهذه المستجدات، قال الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، عبد الحفيظ السريتي: إن السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا شهدت تغيرات ملحوظة في الخطاب والممارسة، منذ وصول إيمانويل ما كرون إلى قصر الإليزيه عام 2017.

وأوضح السريتي لـ"الاستقلال"، أن “فرنسا تلقت ضربات في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والسنغال بإغلاق قواعدها العسكرية وإنهاء تواجدها العسكري في دول كانت إلى عهد قريب عبارة عن محميات فرنسية، ونقاط ارتكاز للنفوذ الفرنسي في القارة السمراء”.

وأشار إلى أن “السياسات الاستعمارية فجرت في العديد من الدول الإفريقية نقمة كبيرة لدى النخب الجديدة بل وحتى القديمة، والتي أصبحت تطالب فرنسا بالاعتذار وجبر الأضرار على مرارة السنين الطويلة التي تجرعت فيها الشعوب كل صنوف الإذلال وجشع السياسات واستغلال الثروات وإفقار الشعوب".

وذكر السريتي أن “ماكرون الذي زار 18 دولة إفريقية أطلق خطة فرنسا الجديدة في إفريقيا عام 2023، وهو يعي أن التحديات كبيرة؛ بسبب المنافسة الشديدة التي بات منسوبها قويا، خاصة من الصين وروسيا والهند وتركيا”.

واستدرك: “رغم أن هذه الخطة حاولت مسايرة الأوضاع الجديدة التي عبّر فيها العديد من الدول الإفريقية عن رغبتها في إنهاء الوجود العسكري الفرنسي، إلا أن باريس كانت تدرك أن ساعة إعلان نهاية هذا القوس قد أزفت، وأن زمن احتواء الأزمات لم يعد ممكنا”.

ورأى السريتي أن ماكرون “يقع في نقائض عدة لكلامه ومواقفه تجاه إفريقيا، ومن ذلك حديثه عن ضرورة تغيير أسلوب فرنسا في التعامل مع الدول الإفريقية، وفي نفس الآن لم يجد غضاضة في مطالبتها بتقديم الشكر لفرنسا على جميل ما قدمت وأسدت من خدمات لهذه الدول”.

وشدد على أن هذه التصريحات “صبت الزيت على النار المشتعلة أصلا في النفوس المليئة بالاستياء من السياسات المتعالية والنظرة الدونية التي تستبطنها فرنسا الاستعمارية، وهي نفس النظرة التي انتقدتها غينيا الاستوائية ورفضتها”.

وأشار السريتي إلى أن النفوذ الفرنسي الثقافي واللغوي يتراجع أيضا في القارة، ومن ذلك إعلان مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها من "منظمة الفرنكفونية"، وهي المنظمة التي يوجد مقرها في باريس وتعمل على تعزيز حضور اللغة الفرنسية.

واسترسل: “فالتوجه العام بدأ يعيد النظر في الارتباط باللغة الفرنسية كلغة معتمدة في التدريس، خاصة في ظل الحصيلة الضعيفة التي أبقت التعليم متخلفا وبعيدا عن التطورات العلمية والمعرفية، التي تعدّ اللغة حاملا أساسيا لها”.

وذكر السريتي أن “رواندا مثلا انتقلت من الفرنسية إلى الإنجليزية، والتحول ذاته جارٍ في السنغال، فالرئيس الحالي باسيرو فاي دافع عن اعتماد العربية لغة رسمية بديلة عن الفرنسية”.

ورأى أنه “ورغم كل الخطب والخطط الجديدة التي حاول ماكرون ترويجها من أجل إعادة بناء صورة مختلفة عن فرنسا داخل مستعمراتها القديمة، فقد ظلت قولا تذروه الرياح”.

وأكد أن “ما تحتاجه دول غرب إفريقيا، ومنها غينيا الاستوائية، هو التحرر والاستقلال الكامل من الهيمنة الفرنسية، واعتراف بالانتهاكات والجرائم التي ارتكبت في حق شعوبها، والتي أسهمت في تأخر مشاريع التنمية وتعطيل قطارها”.

وأكد الباحث في العلاقات الدولية أن "الإقرار بالماضي وآلامه يتطلب من باريس اعتذارا رسميا وتقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت بدول غرب إفريقيا".

ولفت إلى أن “فرنسا لم تغير نهجها في التعامل مع القارة الإفريقية، بل استبدلت الوجود العسكري المباشر بأدوات هيمنة مرنة، كالاقتصاد والدبلوماسية والثقافة”.

وخلص السريتي إلى أن “فرنسا ستفشل في نهاية المطاف في سعيها لإبقاء الهيمنة على الدول الإفريقية، وأنه لا محيد لها عن بناء علاقات متوازنة تحترم مصالح الشعوب الإفريقية وتلبي تطلعاتها نحو السيادة والتنمية”.

البديل الروسي

البحث عن بديل لفرنسا من لدن غينيا الاستوائية لا سيما تجاه روسيا انطلق منذ أواخر 2024؛ حيث ذكر موقع "إفريقيا نيوز" أن موسكو تسعى لتوسيع نفوذها في إفريقيا من خلال نشر قوات عسكرية في غينيا الاستوائية.

وأفاد المصدر ذاته بإرسال ما يصل إلى 200 جندي إلى هذه الدولة الصغيرة، وتتمثل مهمتهم في تدريب حرس النخبة في العاصمة مالابو، وفي باتا، المركز الاقتصادي الرئيس، وحماية الرئيس تيودورو أوبيانغ.

ووفقا للموقع يشارك في هذه العملية مرتزقة من فيلق إفريقيا -المعروف سابقا باسم فاغنر- وقد أُعيد تنظيم هذه القوة شبه العسكرية تحت إشراف الجيش الروسي، مما عزز العلاقات بين موسكو وشركائها الأفارقة.

كما سبق أن عزز الرئيس أوبيانغ وابنه، تيودورو أوبيانغ مانغ، نائب الرئيس، علاقاتهما مع روسيا، بتوقيع اتفاقيات عسكرية وأخرى في مجال الطاقة.

وفي سبتمبر/أيلول 2024، شكر الرئيس أوبيانغ علنا نظيره الروسي فلاديمير بوتين على إرساله مدربين لتعزيز القدرات الدفاعية لبلاده.

وفي دراسة نشرها موقع "قراءات إفريقية" للباحث هشام قدري أحمد، أكّدت أن السياسة الفرنسية التي تنتهج نمط الوصاية الأبوية في علاقتها بالدول الإفريقية “لم تعد مقبولة”.

ورأى أحمد أن “هذا النمط من السياسة الذي يعكس نظرية تفوق الرجل الأبيض ودوره في النهوض بالمجتمعات المُتخلفة، زاد من كراهية فرنسا من جانب الأوساط الشعبية والنخب السياسية والمثقفة على السواء”.

ومما زاد من حالة الاستياء هذه، وفق الباحث، دعم فرنسا وتعاونها مع الأنظمة الاستبدادية، وعدم اكتراثها لما تُعانيه شعوب المنطقة، واستمرار سياستها الرامية إلى التدخل في شؤون القارة، الأمر الذي أثر على مصداقيتها، وكشف للإفريقيين أن التدخل الفرنسي في شؤونهم ينطوي على غموض إستراتيجي وأهداف غير معلنة.

وذكر أن مظاهر هذا الاستياء تجلت في الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية أمام مقار السفارات الفرنسية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وغيرها من الدول الأخرى ضمن المجموعة الفرنكفونية. 

وأشار إلى أن هذه الاحتجاجات المُعادية لفرنسا تخللت رفع شعارات تدعو إلى التعاون مع روسيا بدلا من ذلك.