زار إسرائيل فقط.. ما مدى جدية مدعي الجنائية الدولية في التحقيق بجرائمها؟
في مشهد مرتب بشكل مسبق وبشروط إسرائيلية، جلبت حكومة الاحتلال مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إلى المستوطنات التي نفذت فيها عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من أجل تصعيد إدانة حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
وبناء على طلب عائلات وأصدقاء القتلى والأسرى الإسرائيليين الذين التقى بهم قبلها بشهر في لاهاي، زار خان إسرائيل في الثاني من ديسمبر/كانون الأول وفقا لشروطها، حيث منعت دخوله إلى قطاع غزة سواء من خلالها أو عبر معبر رفح.
وفي 29 أكتوبر، زار خان معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر، ونشر مقطعا مصورا على منصة "إكس" قائلا فيه إنه يأمل في زيارة القطاع وإسرائيل أثناء وجوده بالمنطقة، لكن تل أبيب لم تسمح له لاحقا سوى بزيارتها هي ورام الله، حيث قال إن "ذلك لم يكن متاحا".
مشهد مفضوح
رغم أن دولة الاحتلال ترفض الاعتراف بشكل رسمي بصلاحيات المحكمة الدولية بسبب الفظائع التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، فقد قررت السماح بزيارته استجابة لطلب العائلات.
وذكرت صحيفة "هآرتس" العبرية بعد وصوله أن الزيارة لا تشكّل تغييرا بتوجهات إسرائيل حيال الجنائية الدولية، ولكن المسؤولين اختاروا عدم الاعتراض على طلب العائلات والسماح بالزيارة.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد استغلت حكومة الاحتلال زيارته لتجريم "حماس"، وجلبته إلى مناطق تدعي أن مقاتلي الحركة هاجموها في 7 أكتوبر.
وقف خان ليعاين سرير أطفال زعمت قوات الاحتلال الإسرائيلي أنه تعرض للهجوم أثناء وجود طفل بداخله.
كما جلبت إلى نفس المكان حاكم ولاية نيوجيرسي السابق كريس كريستي في 12 نوفمبر وبعدها الملياردير الأميركي إيلون ماسك.
مدعي عام الجنائية الدولية حضر إلى الكيان بدعوة من عائلات الإسرائيليين القتلى وبشروط الاحتلال وأدان ما أسماها "الوحشية ضد المدنيين الأبرياء"، لكنه لم يذهب إلى غزة ولم يشاهد الإبادة الجماعية ولم يستجب لممثلي الضحايا الفلسطينيين ممن طلبوا لقاءه مرارا، كلهم متواطئون ولاد وسخة… pic.twitter.com/8ehWrV5Qe2
— Khaled Kraizim (@khaledkraizim) December 3, 2023
وبفحص الصور، تبين أنه لا يوجد أي ضرر في السرير الذي كان مملوءا بأغلفة الرصاص الفارغة، كما أن تفاصيل ما بداخله اختلفت بين الزيارات.
ويمكن رؤية العديد من أغلفة الرصاص الفارغة داخله خلال زيارة ماسك، لكن هذه التفاصيل غير موجودة في اللقطات المسجلة خلال زيارة حاكم ولاية نيوجيرسي السابق.
وبحسب "هآرتس"، فإن خان حصل خلال زيارته مناطق ما يُسمى "غلاف غزة"، التي استهدفتها عملية "طوفان الأقصى"، على انطباع بأن "هناك شبهة معقولة بارتكاب جرائم حرب خلال الهجوم على المستوطنات المحيطة بغزة"، وفق قولها.
واستمع خان إلى عدد من الإسرائيليين حول ما حدث في ذلك اليوم، وقال: "لدينا أسباب لنعتقد أنه جرى تنفيذ أفعال تعرّف جرائمَ من حيث القانون الدولي، وأن أشخاصا قُتلوا بسبب هويتهم وأنه جرت ملاحقة أشخاص حتى موتهم في الحفل (الذي كان منعقدا أثناء الهجوم)، وأنه كان هناك قتل لمسنين وأطفال".
ويُشار هنا إلى أن "هآرتس"، وفي أكثر من مناسبة، أشارت إلى أن طائرة مروحية حربية إسرائيلية ربما أسهمت في قتل إسرائيليين في السابع من أكتوبر، وليس مقاتلي حماس.
وأضاف: "أنا مستعد للعمل مع إسرائيل، ولدينا أشخاص لديهم القدرة وعليهم التحقيق فيما حدث، عائلات المخطوفين (في غزة) لا تنتظر منا التعاطف فقط وإنما العمل أيضا".
وحل خان وهو بريطاني مسلم محل "فاتو بنسودا" كمدع عام للجنائية في 16 يونيو/حزيران 2021، وسيبقى بمنصبه 9 أعوام، لكن منذ توليه لم يفعل شيئا بشأن جرائم الاحتلال.
وحين تولى منصبه رحبت به إسرائيل، رغم أنها تواجه تحقيقا محتملا في جرائم حرب في لاهاي بدأته المدعية السابقة "بنسودا".
وقالت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 17 فبراير/شباط 2021 إنه "لا دليل على أنه سيلغي التحقيق (الذي لم يسفر عن شيء حتى الآن) في جرائم الحرب".
ونقلت الصحيفة عن بعض المحللين الإسرائيليين أنهم متفائلون بشأن اختياره، لأنه لم يقدم جديدا بشأن التحقيقات، كما أنهم فرحون برحيل بنسودا، التي فرضت عليها واشنطن عقوبات.
وعقب الجرائم الإسرائيلية الأخيرة في غزة، لم يتحرك "خان" إلا بعدما سألته وكالة "رويترز" البريطانية في 12 أكتوبر، عن رأيه، فكرر نفس ما قال أسلافه، من أنه يراقب ويحقق.
معايير مزدوجة
ورغم أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الوضع في فلسطين المحتلة بدأ عام 2021، فهذه أول زيارة رسمية لخان إلى الضفة الغربية المحتلة والكيان الإسرائيلي.
والتقى خان بمسؤولين فلسطينيين في رام الله، بما في ذلك رئيس السلطة محمود عباس ورئيس وزرائه محمد اشتية، وكذلك عائلات الإسرائيليين.
وعبرت إيمان نافع، زوجة الأسير الفلسطيني نائل البرغوثي الذي يعد أقدم أسير في العالم عن إحباطها من زيارة خان.
وفي 2 ديسمبر، كانت إيمان نافع واحدة من عشرات الفلسطينيين الذين جرت دعوتهم للقاء خان، لكن الأخير هو من تحدث خلال معظم وقت الاجتماع.
وفي النهاية منح فريقه نافع وغيرها من أهالي الضحايا الفلسطينيين 10 دقائق فقط لمشاركة قصصهم.
وقالت زوجة الأسير لقناة الجزيرة: “كيف سنخبركم بقصصنا في 10 دقائق”.
وتابعت: “إحدى النساء (معنا) كانت من غزة، فقدت 30 فردا من عائلتها في (الحرب المستمرة).. وصرخت: كيف يمكننا تفسير ذلك في 10 دقائق؟".
ولذلك يرى كثير من الفلسطينيين أن خان يطبق معايير مزدوجة من خلال تركيز جهوده فقط على حماس وتجاهل الجرائم الخطيرة التي ترتكبها إسرائيل منذ أكثر من شهرين.
وقال ممثلو عدد من المنظمات الحقوقية الفلسطينية، في 3 ديسمبر، إن خان "شخص غير مرحب به" في فلسطين، بسبب "شكوك في نزاهته"، وحملوه "مسؤولية ما يجرى من تدهور في دور هذه المحكمة وتسييسها".
وجاء ذلك خلال مؤتمر صحفي عقده ثلاثة من ممثلي المؤسسات الحقوقية، هي مؤسسة الحق والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومركز القدس للمساعدة القانونية لإعلان موقف مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والمنظمات الأهلية من زيارته.
ورغم شن عدة حروب منذ عام 2008 وحتى اليوم، لم تدن المحكمة إسرائيل ولم تصدر أي مذكرة اعتقال بحق أي مسؤول بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
بينما لم يتطلب إصدار "الجنائية الدولية" مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوى أسبوعين، بعد أن تقدمت 39 دولة أعضاء في المحكمة بطلب التحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا.
وهذا ما يجعل كثيرا من المراقبين يتهمون المحكمة بالانحياز وإعطاء إسرائيل الفرصة في كل مرة للإفلات من العقاب، رغم الجرائم الموثقة بالصوت والصورة واعتراف الاحتلال بها وافتخاره في بعض الأحيان بتنفيذها.
ويرى مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة "سكاي لاين" الدولية لحقوق الإنسان، محمد عماد، أن "عدم دخول كريم خان إلى قطاع غزة انحياز واضح من هيئة دولية قضائية يفترض أن تكون محايدة".
وشدد عماد في حديث لـ"الاستقلال" أن "الوقوف على آثار الهجوم يتطلب أن يزور المحقق الجانبين، وما فعله خان يعطي مؤشرا مقلقا بشأن المراحل القادمة بعد انتهاء الحرب وشكل تعامل الجنائية مع ما يحدث".
ويعتقد أن المعطيات الحالية تؤكد "انحياز خان بشكل مسبق للرواية الإسرائيلية على حساب شلال الدم الفلسطيني المستمر والحقوق الفلسطينية".
مدى الجدية
وسبق لخان أن قال إن للمحكمة الجنائية ولاية قضائية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المزعومة خلال هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر في إسرائيل وفي قطاع غزة.
لكن هذه ليست المرة الأولى التي تتلقى فيها المحكمة الجنائية الدولية طلبات للتحقيق في جرائم ارتكبتها إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد انضمام دولة فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية في 2015.
وهو ما يعني أن الجرائم التي ترتكب في قطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس، أصبحت ضمن دائرة اختصاص المحكمة، لكن دون تحرك جدي منها.
وشرعت الجنائية الدولية في التحقيق بالتهم الموجهة لإسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين بشكل رسمي عام 2021، بعد ست سنوات من جمع المعلومات وتحليلها.
وفي رسالة بالفيديو من رام الله، حيث التقى بكبار القادة الفلسطينيين، قال المدعي العام خان إن التحقيق الذي بدأ عام 2021 “يمضي قدما بوتيرة وصرامة وتصميم وإصرار على أننا لا نتصرف بناء على العاطفة بل وفق أدلة دامغة"، بحسب زعمه.
Yesterday in #Ramallah, #ICC Prosecutor @KarimKhanQC reflected on his visit to #Israel and State of #Palestine. pic.twitter.com/J5cZKGqq8x
— Int'l Criminal Court (@IntlCrimCourt) December 3, 2023
وعن إمكانية إجراء تحقيق، يقول الناشط الحقوقي عماد إن الجنائية الدولية "لها الدور الأكبر للتحقيق في ما يحدث بقطاع غزة، وأصبح واضحا أن هناك جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية وإبادة جماعية وتهجير قسري".
ولفت إلى أن دور الجنائية اليوم "يتمثل بالتحقيق في آلاف الملفات المتعلقة بجرائم إسرائيل بموجب ميثاق روما الذي يشكل أساس المحكمة".
ونوه بوجود مجموعة الشواهد والأدلة من قبل حقوقيين محليين والتقارير الصادرة عن الوكالات الأممية، مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" والصليب الأحمر، وجميعهم عاينوا ما جرى.
وإضافة إلى ذلك، فإن شهادات الناس أيضا واستهداف المقرات الأممية والمدارس وأماكن اللجوء، تؤكد ضرورة فتح تحقيق ضد سلطات الاحتلال، وفق عماد.
وشدد على أن "وصف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ينطبق بشكل كامل على ما يحدث"، مضيفا: "يجب أن تتحرك المحكمة لفتح التحقيق الأولي في الجرائم والممارسات العدائية الإسرائيلية".
وعن جدية المحكمة في ذلك، يقول عماد: "إلى هذه اللحظة هناك تصريحات فقط، لكن لا تحرك فعليا بسبب الضغط الأميركي المستمر على الجنائية الدولية وقضاتها".
ورغم ذلك يشدد على أن "المدعي العام يجب أن يمارس دوره الوظيفي بموجب القانون والميثاق الداخلي للعاملين داخل الجنائية".
بدوره، قال مقرر الأمم المتحدة السابق لحقوق الإنسان جون دوغارد: "يبدو أن خان مصمم على عدم محاكمة إسرائيل وقادتها".
وأوضح دوغارد لوكالة "الأناضول" التركية الرسمية في 12 ديسمبر، أن "القانون الدولي مفتاح السلام، يجب أن يكون هناك عدالة وسلام، وهذا يعني أن الأشخاص المسؤولين عن الجرائم الدولية يجب أن يحاسبوا".
وأضاف قائلا: "بينما ينصب التركيز على الهجمات التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر، يجرى تجاهل الهجمات الإسرائيلية".