تسميم مستشار الأسد.. ماذا وراء الصراعات الاقتصادية داخل القصر الجمهوري؟
"اتجه نظام الأسد إلى تقليص أمراء الحرب كونهم أصبحوا معضلة أمامه"
نجحت أسماء الأخرس زوجة رئيس النظام السوري بشار الأسد في إعادة هيكلة "اقتصاد العائلة" عبر إعادة تحكمها شخصيا باقتصاد سوريا من خلال تكوين غرفة سرية تضم رجال أعمال مقرها القصر الجمهوري بدمشق.
ولم تكن هذه الخطة التي قادتها أسماء لتنجح قبل الإطاحة بمدير منظومة بشار الأسد المالية وابن خاله رامي مخلوف عام 2020.
فقد بدأت مرحلة ضبط "اقتصاد الحرب" وجعله يدار من غرفة واحدة عقب عزل الأسد عالميا لقمعه ثورة السوريين في مارس/آذار 2011، بعدما شنت زوجة بشار حملة في 2019، صادرت على أثرها أموال عدد من رجال الأعمال.
وشملت الحملة، الضحية الأكثر شهرة وقتذاك، رامي مخلوف، الذي كان يدير إمبراطورية الأسد الابن منذ عام 2000 ليخرج رجل الأعمال المذكورة من مشهد بقي فيه 20 عاما مشرفا على مشاريع رئيس النظام التي تؤمن السيولة للمؤسسات الأمنية والعسكرية والعلاقات الدبلوماسية.
وإخراج رامي مخلوف من المشهد الاقتصادي يرجعه بعض الخبراء السوريين إلى رفضه وضع الأموال والمبالغ المالية التي يديرها خارج سوريا تحت تصرف القصر الجمهوري عقب العقوبات الغربية على الأسد؛ الأمر الذي قاد الأخير للاستيلاء على كل ما يملك داخل الأراضي السورية.
الضحية التالية
في تلك الفترة كان البديل عن رامي مخلوف، جاهزا، وهو رجل الأعمال يسار إبراهيم الذي عين في مايو/أيار 2020 بصفة مساعد رئيس النظام السوري.
وإبراهيم من مواليد 1982، وينتمي إلى العلوية طائفة الأسد، ووالده حسين عمل مستشارا لرئيس النظام السابق ووالد الحالي، حافظ.
ويسار إبراهيم الذي تسلم تركة مخلوف باختيار من أسماء شخصيا، أوكلت له مهمات جديدة هدفها فرض مبالغ مالية على رجال الأعمال السوريين و"أمراء الحرب" الجدد المنتشرين في مناطق نفوذ النظام وإبرام صفقات تجارية تصب في صالح النظام عبر الالتفاف على العقوبات الدولية.
وتزوجت أسماء الأخرس في 18 ديسمبر 2000، من بشار الذي ورث الحكم عن أبيه منذ 17 يوليو/تموز 2000، وهي من مواليد لندن عام 1975، وتحمل الجنسية البريطانية، وتنحدر من عائلة سنية من مدينة حمص، لكن والدها فواز عاش في المملكة المتحدة ويحمل إجازة في الطب.
وحصلت أسماء على شهادة البكالوريوس في علوم الكمبيوتر من كلية "الملك" التابعة لجامعة لندن عام 1996، وتدربت على العمل المصرفي في نيويورك.
وسار إبراهيم في مهمته الجديدة، قبل أن يتعرض لمصير سلفه رامي مخلوف بشكل مفاجئ ودون معرفة الأسباب، مما أدى إلى إخراجه من القصر الجمهوري "بطريقة مأساوية له"، طبقا لمصادر صحفية.
إذ تعرض رجل الأعمال يسار إبراهيم، إلى تسمم حاد عبر مادة كيميائية تسببت بتلف معظم أعضاء جسده الداخلية، في حين اعتقل أمن النظام السوري ثلاثة من المقربين منه واختفى اثنان آخران، جميعهم متورطون في تسميمه.
وكشف موقع "صوت العاصمة" المحلي في 17 مايو/أيار 2024 أن يسار إبراهيم، المعروف بأنه يشغل منصب المستشار الاقتصادي لزوجة الأسد، والمدرج على قوائم العقوبات الأميركية منذ عام 2021، تعرض لحالة تسمم حاد من أحد المرافقين له.
ووضع هذا المرافق السم في الطعام خلال وجوده في أحد المطاعم التي يتردد إليها بشكل دائم، قبل نحو ستة أشهر.
ونقل الموقع عن مصادر خاصة قولها إن إبراهيم "دخل منذ أواخر عام 2023 في رحلة علاج طويلة الأمد، تطلبت عناية خاصة من قبل أطباء القصر الجمهوري، مع استدعاء آخرين أجانب لدراسة حالته، فضلا عن حاجته لتغيير دمه كل فترة زمنية".
وأضاف أن السم، الذي لم يقتل إبراهيم، تسبب بتلف أجزاء من المعدة والأمعاء جرى استئصالها عبر عدة عمليات جراحية أدخلته في شبه فقدان للوعي وعدم القدرة على الحركة أو ممارسة أعماله.
وذكر "صوت العاصمة" أن إبراهيم غاب، منذ أواخر عام 2023، عن النادي الرياضي الذي كان يرتاده بشكل يومي، والمطاعم التي كان يقصدها في مناطق الديماس وقرى الأسد بريف دمشق.
وجاء ذلك وسط حديث تداوله مقربون منه يتعلق بسفره إلى دولة الإمارات، بمهمة كلفته بها أسماء الأسد، لتسري بعدها إشاعات بأنه في إجازة طويلة، ومن ثم تواردت أخبار عن إصابته بالسرطان وتوقفه عن العمل.
وقالت المصادر إن المادة الكيميائية التي وضعت لرجل الأعمال في طعامه جرى استقدامها من خارج سوريا، وتسببت بتلف في أعضاء داخل الجسم وتلوث في الدم ظهر على مراحل.
وأشارت إلى أن التحقيقات الأمنية مع الأشخاص المشتبه بهم بوضع السم لإبراهيم لم تصل لنتيجة واضحة، والأقاويل المتداولة داخل الأروقة الأمنية والشخصيات الاقتصادية في سوريا تؤكد وجود عملية مُخطط لها للتخلص منه وإقصائه عن عمله.
وجرى الحديث عن تورط الأسد وزوجته في محاولة قتل إبراهيم، لدفن أسرار العائلة، الأمر الذي رجحته مصادر "صوت العاصمة".
محاولة التصفية ليسار إبراهيم وهو مساهم رئيس آخر في أحدث مشغل اتصالات في سوريا "وفا تيليكوم" والذي دخل الخدمة في فبراير/شباط 2024، كشفت عن حلقة جديدة من الصراعات داخل قصر الأسد.
مجلس سري
إذ إن هناك ما يسمى "مجلس الاقتصاد السري" داخل القصر الجمهوري على سفح جبل قاسيون المطل على العاصمة دمشق، يتحكم بالاقتصاد السوري، ويدار من قبل أسماء الأسد إلى جانب عدد من رجال الأعمال وأشخاص مقربين من النظام.
وأسماء هي من تدير "الغرفة الاقتصادية السرية" بشكل شخصي، لكن يساعدها كل من المدير المالي في القصر الجمهوري يسار إبراهيم، والأمين العام لـ "الأمانة السورية للتنمية" فارس كلاس.
وهذه الأخيرة تتبع لأسماء وتمارس نشاطات هدفها إبقاء الحاضنة الشعبية ملتفة حول زوجها الأسد عبر تقديم خدمات ومساعدات وغيرها خاصة للطائفة العلوية.
وتتكون الغرفة السرية، من المكتب الاستشاري، ومكتب الإيرادات، والميزانية، والإستراتيجيات والدراسات، ومكتب “مصرف سورية المركزي”، والضرائب، و"المكتب الأمني".
ومنذ ذلك الحين تمكنت الأخرس من التحكم بالعديد من مستويات الاقتصاد السوري، ووضع السياسيات والحصول على الأرباح، في قطاعات العقارات والبنوك والاتصالات، مما يساعد نظام الأسد على إبقاء تدفق الأموال لجيبه ساريا في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية عليه.
وتشير الوقائع إلى أن أسماء الأسد وزوجها عمدا مع بداية الانحدار الاقتصادي، إلى إجراءات تعزز من قبضة عائلة الأسد على الاقتصاد، وذلك من خلال ترقية رجال أعمال للعمل كواجهات لهما، ومساعدتهما على تجميع المزيد من الثروة الشخصية.
لكن ما وصل إليه "القصر الجمهوري" في دمشق مر بعدد من المراحل عقب عام 2011 قبل تمكن الأسد وزوجته من تصفية الحرس الاقتصادي القديم منذ زمن أبيه حافظ وإنهاء الصراعات التالية داخله.
"رأسمال متوحش"
وضمن هذا السياق، يؤكد مدير موقع "اقتصادي"، الباحث السوري يونس الكريم، لـ"الاستقلال"، أن "الصراعات داخل القصر الجمهوري بدأت عند التدخل العسكري الروسي عام 2015.
إذ ضحى نظام الأسد ببعض صلاحياته وزمرته لموسكو للبقاء في السلطة، مما أغضب التيار الأكبر من النظام الأمر الذي قاد للإطاحة برامي مخلوف مدير امبراطورية بشار المالية حتى عام 2020.
وأضاف الكريم أن "هذه الحالة الجديدة داخل القصر الجمهوري ولدت صراعا خفيا بين أذرع نظام الأسد المالية لبعضها بعضا عبر عمليات الاستحواذ والسيطرة على بعض الاستثمارات لكل طرف وتجريد بعض رجال الأعمال من أموالهم بهدف ضرب رمزيتهم في الاقتصاد السوري".
ولفت إلى أنه "في مايو 2021 حينما زار وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف دمشق حصل توافق بين أسماء الأخرس والتيار الإيراني بعد انقلاب الروس عليها لصالح رامي مخلوف حيث سربت موسكو قضايا عن فساد زوجة الأسد بسوريا".
واستدرك قائلا: "بعد ذلك لجأت أسماء للتقرب من الروس وزارت موسكو نهاية يونيو (حزيران) 2023 وطلبت إدارة استثمارات طباخ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسوريا إلا أن موسكو رفضت هذا العرض".
وهذا الطباخ هو زعيم مرتزقة فاغنر الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، البالغ من العمر 61 عاما، والذي قتل بظروف غامضة في 22 أغسطس/آب 2023 بعد تحطم طائرة شمال موسكو حيث جاءت الحادثة بعد فشله في محاولة انقلاب على الكرملين نهاية يونيو من العام ذاته.
وبحسب الكريم فإنه "في تلك الفترة كان رامي مخلوف المختفي في مكان مجهول بسوريا أو خارجها توقف عن مهاجمة أسماء الأسد واتهامها بنهب ثروات البلد، بينما كانت زوجة رأس النظام تعيد هيكلة الرؤية الجديدة لاقتصاد القصر، وفقا للظروف السياسية والاقتصادية".
وقد "تجلت هذه الرؤية حينما طرح بشار الأسد خلال ترؤسه اجتماعا لحزب البعث في مايو 2024 وجود نمطين من الدولة في سوريا لكي تلائم كل رموز النظام"، وفق الكريم.
النمط الأول يتمثل بوجود مؤسسات الدولة، التي ترعى وتقدم خدمات للمواطنين، وهذا يدل على استمرار السلطة.
والنمط الثاني يخص تقديم مشاريع للمستثمرين دون تدخلهم في سياسة سوريا من منطلق التأثير بقوة المال وهذا يعني فتح النظام السوري الباب لمساعدته عبر الصناديق السيادية لدول الخليج.
وذهب الكريم للقول: "النظام السوري عمد خلال الفترة الأخيرة على الترويج بأن أسماء الأسد ليست صاحبة نظرة رأسمالية متوحشة، وهذا جاء بعد إنهاء الصراعات داخل القصر الجمهوري بينها وبين والحرس الاقتصادي القديم".
وختم بالقول: "بالتوازي مع ذلك اتجه نظام الأسد إلى تقليص أمراء الحرب كونهم أصبحوا معضلة أمامه تجاه الدول، ولهذا فهو يتجه في المرحلة القادمة لإنهاء (نفوذ) التجار مزدوجي الولاء سواء لحلفائه أو لدول عربية بمعنى أن يجعل ولاءهم واحدا للنظام فقط".