ترامب الأرجنتين.. ما تداعيات فوز اليميني المتطرف "خافيير ميلي" بالرئاسة؟
بعدما ظلت تحكمها أحزاب ليبرالية تقليدية، دخلت الأرجنتين، في 19 نوفمبر/تشرين ثان 2023 دائرة أشد الأنظمة اليمينية تطرفا، بعد فوز رئيس يميني يوصف بأنه "مجنون"، ما دفع صحفا عالمية للقول إنها قفزت بذلك نحو المجهول.
اليميني المتطرف، خافيير مايلي، الذي يطلق عليه منتقدوه اسم "إل لوكو" (المجنون) فاز برئاسة الأرجنتين، في انتخابات غير متوقعة، ربما كرد فعل شعبي على الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي جعلت 40 بالمئة من الأرجنتينيين في فقر، ورفعت التضخم السنوي إلى 143 بالمئة.
انتخابه جاء بعد فشل تجارب الليبراليين التقليديين والاشتراكيين هناك في حل أزمة الاقتصاد والديون، ولكنه يطرح أفكارا رأسمالية فوضوية جنونية اقتصادية، على طريقة "العلاج بالصدمة"، ويمتلئ خطابه العام بالألفاظ النابية.
"مايلي" أستاذ اقتصاد ليبرتالي (ليس ليبراليا)، أي يتبنى ليبرالية كلاسيكية، أشد تطرفا من العادية، ويرى أن حل التضخم وديون بلاده لصندوق النقد الدولي والكساد هو أن يلغي البنك المركزي ويستخدم الدولار بدل "البيزو" المحلي.
وعد بإجراء تغييرات اقتصادية جذرية مجنونة لا تتمثل في تفجير البنك المركزي، ولكن إلغاء وزارات الثقافة والمرأة والصحة والتعليم وغيرها، وأن تتكون حكومته من ثماني وزارات فقط، وتقنين تجارة الأعضاء البشرية، وإلغاء تقنين الإجهاض.
كما أنه متطرف سياسي أيضا، فهو مؤيد بشكل كامل لأميركا وإسرائيل وقد أعلن أنه سيزور تل أبيب "لدعم إخوته في محنتهم هناك"، وسط توقعات أن يعلن من هناك نقل سفارة الأرجنتين إلى القدس.
أيضا يوصف بأنه معجب بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من حيث التفكير الجنوني والعدواني، ويعد النسخة الأرجنتينية منه، وفق وكالة "اسوشيتدبرس" الأمريكية 20 نوفمبر.
كما يعتبر هذا الرئيس، غريب الأطوار، نفسه "مقاتل صليبي" ضد "الزحف الشرير للاشتراكية العالمية (الشيوعية).
لهذا كان من الطبيعي أن يكون أول من يهنئه هو "ترامب" الذي كتب عبر موقع التواصل الاجتماعي «تروث سوشيال»: «العالم كله كان يراقب! أنا فخور بك جداً، ستغير بلدك وستجعل فعلاً الأرجنتين عظيمة مرة أخرى!».
وقال "مايلي" في مقابلة مع "راديو ميتري" 20 نوفمبر 2023 إنه يعتزم السفر إلى الولايات المتحدة قبل توليه منصبه في 10 ديسمبر/كانون أول 2023، معتبرا أن لرحلة واشنطن "دلالة روحية"!.
وقد وصل به الجنون لدرجة القول، إن الله سبحانه "كلمه" مرة وأوحى إليه مرات بنظريات "الإصلاح الاقتصادي للأرجنتين"، عن طريق رسائل نقلها له كلبه الشهير "كونان"، الذي توفى منذ 2017، حين أتاه في المنام.
علاقته بإسرائيل
رغم خروج مظاهرات ضد إسرائيل في الأرجنتين مناهضة لإبادة غزة، وإدانة خارجيتها مطلع نوفمبر 2023 الهجوم، معتبره إياه "انتهاك للقانون الإنساني الدولي"، يتخذ الرئيس الأرجنتيني الجديد موقفا داعما بتطرف لتل أبيب.
رئيسها الجديد أعلن أنه "صهيوني من الدرجة الأولى"، وتحدث كثيرا عن حبه لإسرائيل والدين اليهودي رغم أنه ليس يهوديا.
وأكد في عدة مناسبات دعمه لإسرائيل ولوح بالعلم الإسرائيلي في مسيراته الانتخابية.
قال منذ فترة طويلة إنه يفكر في التحول إلى اليهودية، وظهر حاملا نسخة من التوراة ويلبس طاقية يهودية.
كما هاجم البابا فرنسيس (وهو أرجنتيني المولد ويحظى باحترام كبير في البلاد) ووصفه بأنه يساري "شرير"، و"يمثل كل ما هو أكثر ضررا على الأرض"، كما دعا أحد المقربين من "ميلي" إلى قطع العلاقات مع الفاتيكان.
لذلك حذر قساوسة كاثوليك من "ترامب الأرجنتيني" ودعوا لوقفه عن إهانة المسيحية والبابا بحسب "صحيفة "واشنطن بوست" 17 نوفمبر 2023.
وتقول "عبير الفقيه"، الباحثة التونسية في شؤون أميركا اللاتينية، في مقال بموقع "الجزيرة" 21 نوفمبر 2023 إن فوز، خافيير مايلي "أشبه بفوز إسرائيل برئاسة الأرجنتين".
أوضحت أن الأمر ربما يتعلق بالجالية اليهودية، وباروناتها المالية والإعلامية، التي تستقطب آلتها الإعلامية، من خلال قناتي "لاناسيون ماس" و"إيه 24" ملايين المتابعين.
ومع أحداث غزة ومقتل 7 أرجنتينيين وفقدان 6 آخرين في أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول في مستوطنات غلاف غزة، استأثرت القناتان بقلوب ملايين المتابعين الإضافيين، وزادتا من خطاب المظلومية الإسرائيلية المزعومة، وهلّلتا لصورة رئيس يهودي الهوى مثل "ميلي".
مولود في عائلة كاثوليكية غير متوازنة ويؤمن بأن المسيح سيعود في المستقبل كملك يهودي من سلالة داود، وكمخلص للشعب اليهودي، وهو ما يعرف في المجتمع اليهودي بتيار "المسيحانية" الرائج حاليا.
واشتهر بزيارته الحاخام الأكبر للجالية اليهودية (المغربي) في الأرجنتين، وفي يونيو 2021 قال إنه يذهب إليه لقراءة التوراة، وقال إن اليهودية هي أقرب دين إلى قلبه وعقله.
وقال بعد ترشحه للجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في أغسطس/آب 2023: إن الفوز لم يكن بفضل أصوات اليهود في الأرجنتين، ولكنه بفضل "الرب" الذي بارك اقترابه من الدين اليهودي.
وتضم الأرجنتين أكبر جالية يهودية في أميركا اللاتينية، يبلغ عدد أفرادها 300 ألف شخص تقريبا.
ومع أن الجالية المسلمة في الأرجنتين هي الأكبر وتضم قرابة 800 ألف مسلم، وتعتبر واحدة من أكبر الأقليات المسلمة في أميركا اللاتينية، فهي تواجه آلة دعاية يهودية مؤثرة وحالة عداء مستمرة.
مفاجأة الانتخابات
رغم توقع البعض فوزه بسبب التدهور الاقتصادي الحاد ورغبة الأرجنتينيين في اختيار بديل مختلف لعله يُحسن أوضاعهم الاقتصادي، خصوصا مع ضعف منافسيه، فقد جاء فوز "مايلي" صادما لكثير من الارجنتينيين ودول العالم.
ليس فقط بسبب مواقفه المتطرفة التي جعلت خصومه يصفونه بـ "المجنون"، و"نسخة ترامب الأرجنتينية"، ولكن لأنه طرح أفكارا مجنونة لحل أزمات البلاد.
لم يكن أي خبير سياسي يعتقد أن لديه فرصة حقيقية في أن يصبح رئيساً لثاني أكبر اقتصاد في أميركا الجنوبية، لأنه "شعبوي يميني يستعد لأخذ الأرجنتين إلى طريق مجهول"، بحسب وكالة "اسوشيتدبرس" الأمريكية 20 نوفمبر/تشرين ثان 2023.
قالت إن "الطريقة التي أثبت بها الناخبون استعدادهم لتسليم مقاليد البلاد لشخص لم يتم اختباره، تكشف عن السخط العميق الذي يحمله الأرجنتينيون تجاه الطبقة الحاكمة والوضع الراهن".
مع هذا فاز المرشح الليبرالي المتطرف خافيير ميلي، بحوالي 56 بالمئة من أصوات الناخبين، مقابل 44 بالمئة لمنافسه وزير الاقتصاد الحالي سرخيو ماسا الذي ربما عاقبه الناخبون بسبب تدهور اقتصاد البلاد وتدني سعر العملة المحلية مقابل الدولار.
لم يصدق "المجنون" نفسه حين فاز، فظل يقفز ويطير في الهواء فرحا مثل مطربي الغرب الصاخبين، ويصرخ أنه فاز.
وقف أمام حائط كتب عليه ما وعد به من إلغاء مناصب وزارية، وأخذ في محوها وزارة تلو الأخرى، وكأنه سيحكم البلاد وحده، بمعونة أميركا التي قال إنه سيستلهم تجربتها الاقتصادية ولكن في أقصى درجات ليبراليتها المتطرفة اقتصاديا.
وصفوا فوزه بأنه ربما يكون "بداية انهيار التيار البيروني" الذي حكم المشهد السياسي في الأرجنتيني منذ عام 2003، وانهار بهزيمة آخر مرشح له في انتخابات 2023 (وزير الاقتصاد الحالي سرجيو ماسا) الذي ينتمي إلى التيار البيروني الليبرالي.
وهو تيار قادته الحركة "الكيرشنيرية"، نسبة إلي حكم الرئيس الأسبق نستور كيرشنير وزوجته كريستينا التي خلفته في الرئاسة.
وتقول صحيفة "واشنطن بوست" 19 نوفمبر 2023 أنه بفوز هذا الرئيس المجنون، "تستعد الأرجنتين للتحول إلى اليمين بشكل حاد مع فوز متطرف مثل ترامب، ولا يتمتع بأي خبرة في الحكم، بالرئاسة".
وتصف رئاسة مايلي بأنها "ستجلب اليمين المتطرف إلى السلطة في ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، وقد يكون لها آثار عميقة على المنطقة والعالم".
لماذا فاز؟
تعاني الأرجنتين من مشكلتين رئيسيتين لعب على وترهما الرئيس الجديد، هما: الفقر وما يتصل به من انهيار اقتصادي وتحول بلاده لأكبر دولة مديونة في العالم لصندوق النقد الدولي، إضافة إلى فساد بيروقراطي بين الطبقة الحاكمة.
ربما لهذا لوح في أحد جولاته الانتخابية وهو واقفا في سيارة بالمنشار، الذي يعتبره رمزا لكيفية وضع حد لـ "الطبقة السياسية" الفاسدة، والتعامل مع أجهزة الدولة البيروقراطية، ووصفه أرجنتينيون على مواقع التواصل بـ "أبو منشار".
كما تحدث عن أخذ "المنشار" معه إلى أجهزة الدولة التي تعهد بتطهيرها وهو يهتز بشعره المتطاير. وكانت أزمة العملة سببًا في فقدان البيزو الأرجنتيني نصف قيمته مقابل الدولار الأميركي عام 2018.
ولحل هذه المشكلة أقرض صندوق النقد الدولي الحكومة الأرجنتينية بقيادة الرئيس الأسبق، ماوريسيو ماكري، مبلغًا ضخما قدره 57 مليار دولار، لكن الصفقة فشلت في تحقيق استقرار الاقتصاد، ولا تزال البلاد مدينة للصندوق بـ 44 مليارا.
وحين جرى انتخاب الرئيس الحالي ألبرتو فرنانديز عام 2019، نفذ عمليات بيع ضخمة للسندات الحكومية، تخلفت حكومته عن سدادها لاحقًا، فلجأ لطباعة النقود لتمويل البلاد، وعدم تمكنه من توفير ائتمان بعد التعثر في السداد، فأرتفع التضخم.
ويقول محللون إن أسلوب "مايلي" العدواني ووعده "بالتخلص من الطبقة السياسية"، التي يلقي باللوم عليها في أمراض البلاد، جذب الناخبين الذين سئموا من الأحزاب القائمة في الأرجنتين، بحسب "شبكة بي بي سي" البريطانية 20 نوفمبر 2023.
لكنهم يحذرون من أن يكون شعار "التغيير" الذي رفعه أنصاره قد يضر البلاد لاحقا، خاصة أنه صدم المجتمع الأرجنتيني وناشطي حقوق الإنسان باختياره "فيكتوريا فيلارويل" لمنصب نائب الرئيس.
إذ أن فيلارويل تنحدر من عائلة عسكرية، من الضباط المدانين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، واقترحت هدم متحف يخلد ذكرى ضحايا المجلس العسكري الأرجنتيني.
وهذا المجلس العسكري قتل أو أخفى قسريا 30 ألف شخص خلال حكم العسكر من عام 1976 إلى 1983.
ومن المفارقات أن "مايلي" سيتولي منصبه في 10 ديسمبر 2023، وهو اليوم الذي يوافق الذكرى الأربعين لعودة الأرجنتين إلى الديمقراطية بعد سقوط ديكتاتوريتها العسكري.
ومع أن الرئيس الجديد وعد بخطط اقتصادية مجنونة عقب تسلمه مهامه الرئاسية 10 ديسمبر 2023، بالتزامن مع انتهاء ولاية الرئيس الحالي البرتو فرنانديز، يرى محللون أنه سيصطدم بأغلبية برلمانية معارضة له.
وأنه سيضطر للتعاون مع هؤلاء الذين شتمهم خلال حملته الانتخابية، لأن كتلته النيابية لا تزيد على 38 نائباً في البرلمان الذي يبلغ عدد مقاعده 350، مقابل 94 مقاعد لأنصار الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، وأحزاب أخرى لا تفضله.
ويعتقد العديد من الخبراء أن مايلي سيضطر إلى الاعتدال بعد توليه السلطة، لأنه سيواجه صعوبة في تنفيذ مقترحاته الأكثر إثارة للجدل، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية 20 نوفمبر 2023.
أيضا قد يكون عدائه المعلن لدول شيوعية خاصة الصين وأنظمة سيطر عليها اليسار في أميركا اللاتينية مثل البرازيل وغيرها سببا لمشكلات لبلاده اقتصادية وسياسية.
إذ انتقد مايلي، الصين والبرازيل قائلا إنه لن يتعامل مع "الشيوعيين" وإنه يفضل تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة، ما دعا الصين لتحذيره من خسارة بلاده اتفاقيات وقعتها معها، وفق وكالة الأنباء الفرنسية 21 نوفمبر 2023.
وتقول صحيفة "واشنطن بوست" 19 نوفمبر إن الرئيس الجديد المتطرف قد يواجه عقبات أخرى، في قارة يهيمن عليها زعماء يساريون، وقد يخلق توترات مع الحكومات التي هاجمها، بما في ذلك شريكه التجاري المهم وجارته البرازيل.