تقف صامتة أمام العدوان الإسرائيلي.. ماذا فعل دايتون بأجهزة أمن عباس؟
بينما يُذبح الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ويُقتل ببطء ويُقمع ويُنكل به في الضفة الغربية، لا يزال 60 ألف عنصر من قوات أمن السلطة الفلسطينية يحافظون على الحياد ويمارسون دور المراقب.
بل أكثر من ذلك، يرى الفلسطينيون أن هؤلاء العناصر يحرسون أمن المستوطنات ويتوافقون مع مصالح الاحتلال الإسرائيلي عبر ما يسمى "التنسيق الأمني" لقمع كل مظاهر المقاومة.
فكيف وصلت قوات أمن السلطة الفلسطينية إلى هذه المرحلة غير المسبوقة من اللا مبالاة تجاه أبناء شعبها؟ وما دورها في تعميق هذه المعاناة؟ وما مدى توافقها مع المصالح الإسرائيلية؟.
كيث دايتون
تكمن كلمة السر هنا في "كيث دايتون" الجنرال الأميركي الذي عرف فلسطينيا بعمله منسقا أمنيا بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال بين عامي 2005 و2010 بتكليف من الإدارة الأميركية.
كيث دايتون من مواليد الولايات المتحدة عام 1949, صاحب خبرة عملية عسكرية خاصة في سلاح المدفعية، إضافة إلى خبرة دبلوماسية من خلال عمله ملحقا عسكريا في العاصمة الروسية موسكو.
ويشغل دايتون منصب كبير مستشاري وزير الدفاع الأميركي فيما يخص أوكرانيا، بعد مسيرة مهنية استمرت أربعة عقود في جيش الولايات المتحدة والتي تقاعد منها عام 2010 برتبة فريق.
ومن بين المهام العديدة التي تولاها، مدير الإستراتيجية والخطط والسياسة في الجيش، ومدير العمليات في وكالة استخبارات الدفاع، بما في ذلك مدير "مجموعة مسح العراق" التي كانت تبحث عن أسلحة الدمار الشامل.
سبق لدايتون أن عمل في فرع التدريب حول السياسة السوفياتية، وفي ميدان التفتيش عن الأسلحة العراقية، وهو حاصل على بكالوريوس في التاريخ، وعلى ماجستير في العلاقات الدولية.
ولخبرته الأمنية والعسكرية الكبيرة وقدرته على إعداد الجنود بطريقة تضمن ولاءهم، وتعزز اقتناعهم بالهدف الذي يردده على مسامعهم، جرى تعيينه في مهمة "المنسق الأمني".
وبعد 5 سنوات من التدريب والتأهيل نجح دايتون في جعل قوات الشرطة والأمن الفلسطينية تعمل لصالح المصالح الإسرائيلية على حساب مواطنيها في الضفة الغربية.
ويظهر ذلك في قمع أمن السلطة بقيادة محمود عباس أي مظهر من مظاهر المقاومة في الضفة الغربية ومساندة الاحتلال في القضاء على أي قوة عسكرية.
كما عملت سلطة عباس خلال السنوات الأخيرة كظهير لقوات الاحتلال وتنافست معها على اعتقال عناصر المقاومة أو سجن نفس العنصر مرات متتالية لدى الطرفين فيما يعرف بسياسة "الباب الدوار".
ورغم التركيز ظاهريا على خلق بيئة آمنة لكلا الطرفين وإمكانية إقامة دولة فلسطينية، فإن التساؤلات ما زالت قائمة حول الطبيعة الحقيقية لأهداف دايتون الذي كان يميل أكثر نحو إنهاء المخاوف الأمنية الإسرائيلية.
أول اختبار لإستراتيجيته كانت أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عامي 2008-2009، ووقتها نجح دايتون في جعل الضفة الغربية هادئة كما نجح على مدار سنوات عمله في منع أي انتفاضة ثالثة وهو ما ترسخ لاحقا حتى اليوم.
وعن إمكانية حدوث ذلك سابقا، قال دايتون: "لم تتحقق أي من هذه التوقعات"، مضيفا أن القوات الجديدة المدربة سمحت بمظاهرات سلمية (عام 2008-2009) تضامنا مع غزة، لكنها منعت "أعمال العنف".
وأوضح وقتها وفق ما نقل عنه موقع "ذا نيشن" الأميركي في مايو/أيار 2009 أن إسرائيل "ابتعدت عن الأضواء"، ولم يُقتل فلسطيني واحد في الضفة الغربية خلال المذبحة التي استمرت ثلاثة أسابيع في غزة.
ولفت دايتون إلى أن معظم الجهد الذي فعله في الضفة الغربية كان بعد سيطرة حماس على غزة في يونيو/حزيران 2007، قائلا: "لقد شكلنا رجالا جددا".
لكن رغم ذلك، كان دايتون يحذر من أن جهوده قد تكون مدة صلاحيتها عامين فقط قبل أن تتمرد القوات التي دربها، ناصحا بضرورة أن تتزامن خطته مع "تحقيق تقدم ملموس نحو إقامة دولة فلسطينية".
وبحسب ما نقل موقع ذا نيشن: "أقر الجنرال الأميركي بأن حماس والمتعاطفين معها يتهمون قوات أمن السلطة بأنها تابعة لإسرائيل"، لكنه أكد أن كل واحد ممن دربهم يعتقد أنه "يناضل من أجل فلسطين المستقلة".
ويقول المتخصص في العلاقات الدولية، حبيب البدوي، إن توافق السلطة الفلسطينية الملحوظ مع المصالح الإسرائيلية "يثير أسئلة معقدة حول ديناميكيات التنسيق الأمني والسياق الجيوسياسي في المنطقة".
وفي خضم المآسي الحالية على قطاع غزة، تابع البدوي في دراسة نشرها عبر حسابه على موقع "لينكد إن" منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أن "تصور قوات الأمن الفلسطينية على أنها مؤيدة لإسرائيل ضد مواطنيها يتجلى في شكل تفاعل معقد بين العوامل التاريخية والسياسية والأمنية".
وبينما كانت النوايا وراء التنسيق الأمني تهدف في البداية إلى تعزيز الاستقرار، فإن عواقب وتفسيرات هذه الإجراءات تخضع لنقاش وجدل مستمر، وفق تقديره.
وواصل القول: "من المحتمل أن يطغى الموضوع الشامل المتمثل في المنافع الشخصية على المصلحة الوطنية والشعور بالانتماء الإنساني، مما يشكل تحديا كبيرا لأولئك الذين يبحرون في المشهد الجيوسياسي المعقد في المنطقة".
ولفت إلى أن "فهم الفروق الدقيقة في هذا الوضع لا يتطلب فحصا متأنيا للسياق الجيوسياسي الأوسع فحسب، بل يتطلب أيضا التفكير الرصين في الأولويات التي توجه تصرفات أولئك المكلفين بسلامة ورفاهية الشعب الفلسطيني".
وبعد كل هذه السنوات ورغم عدم الحصول على دولة فلسطينية وتدهور الوضع منذ ذلك الحين حتى اليوم، يدور سؤال حول كيفية نجاح دايتون في إبقاء السلطة في حالة الجمود والخذلان والتواطؤ في التعامل مع العدوان على غزة.
آليات العمل
هناك عدة أساليب وآليات عمل استخدمها دايتون وفريقه لضمان الولاء الكامل من قبل قوات أمن السلطة لنظيرتها الإسرائيلية.
أولا، عمل دايتون على كسب ثقة الفلسطينيين، حيث تلقى هو وأعضاء فريقه الدروس حول الثقافة العربية بصورة عامة والفلسطينية بصورة خاصة لتكييف سلوكهم بطريقة تبعث الثقة في نفوس المحليين.
وفي هذا الجانب، ركزوا على ضرورة الترويج لأهمية تحقيق المصلحة الوطنية الفلسطينية، وتحدثوا بإسهاب عن أهمية إقامة الدولة، وفق ما قال أستاذ العلوم السياسية الفلسطيني عبد الستار قاسم، في مقال نشره موقع "الجزيرة نت" عام 2009.
وأضاف: "في كثير من الأحيان، بدا دايتون وفريقه وكأنهم فلسطينيون أكثر من الفلسطينيين، وهذا جزء مهم من المقاربة لكسب الود والثقة".
ثانيا، التجهيز والتدريب الذي جرى في الأراضي الفلسطينية والأردن، وهذا أمر تحدثت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2009 في مقال للكاتب إيثان برونر.
وقال برونر: "إنهم يهبطون من برج يبلغ ارتفاعه 65 قدما، ويتنقلون في مسارات مليئة بالعوائق، ويطلقون النار في نطاق الرماية، وينامون في ثكنات نظيفة، يأكلون في أماكن مكيفة، حيث يلمع الألمنيوم المصقول من كل سطح المطبخ".
وتابع: "صفوف من سيارات لاند روفر تقف على أهبة الاستعداد في مركز التدريب، كُتب على المدخل، الحرس الرئاسي دائما في المقدمة: القوة، التضحية، الفداء".
وعن المكان الذي تدربوا فيه، أضاف: "قبل عام واحد، كان هذا الحرم الذي تبلغ مساحته 18 فدانا والذي بني بمبلغ 10 ملايين دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، بمثابة قطعة من صحراء الأردن، وكان الحراس الفلسطينيون ينامون على مراتب ملوثة بالبراغيث ويتناولون وجبات الطعام في حضنهم".
وإلى جانب معسكر العمليات الذي تبلغ مساحته 35 فدانا بتكلفة 11 مليون دولار على بعد بضعة أميال، بتمويل أميركي أيضا، يعد هذا خطوة حقيقية إلى الأمام في عملية بناء الدولة الفلسطينية المحتضرة، وفق الكاتب.
ونقلت "نيويورك تايمز" وقتها عن الجنرال دايتون بينما كان يشاهد التدريبات على الأراضي الفلسطينية: "يشعر هؤلاء الرجال الآن وكأنهم في فريق فائز، وأنهم يبنون دولة فلسطينية".
ثالثا، انتقاء العناصر، وهو أمر حساس للغاية حيث لم تكن قيادة دايتون تقبل كل الراغبين بالانضمام، بل يجري "فحص" كل عنصر (واستعمل كلمة الفحص البيطري) من قبل أجهزة الأمن الأميركية والإسرائيلية قبل الموافقة على الانضمام، وفق مقال "عبد الستار قاسم".
وأردف: "في التدريب داخل الأردن كان يجري فحص العنصر من قبل المخابرات الأردنية، والمعنى أنه لا يُقبل في التدريب ومن ثم الانضمام إلى أجهزة الأمن الفلسطينية إلا من رضيت عنه أجهزة الأمن الأميركية والأردنية والإسرائيلية".
وعن هذه النقطة، يقول عنصر أمن فلسطيني لـ"الاستقلال" إنه بعد انتهاء مهمة دايتون، استنسخت السلطة الفلسطينية آلية اختياره لأي قوات جديدة.
وتابع العنصر الذي رفض الكشف عن اسمه خوفا من فصله من العمل ومحاسبته: "يجري التحري عن أي عنصر أمن سيجري تعيينه حديثا، ويشمل هذا عدة أشكال، تاريخه وعائلته والمحيطين به وحساباته ونشاطه على وسائل التواصل".
وأكد أن أي عنصر محتمل "يجب أن يكون صاحب صفحة بيضاء تجاه الاحتلال والسلطة معا ولم يشارك سابقا في أي نشاط وطني أو مظاهرات أو إلقاء حجارة، وأن لا يكون أحد أقاربه أو أصدقائه أو معارفه من حركة (المقاومة الإسلامية) حماس".
وبين أن "هذا الجيل الجديد من المتعينين في القوات الأمنية يجري تدريبهم على أن مهمتهم هي حفظ الأمن فقط وعدم الاحتكاك أو السماح بأي توتر مع قوات الاحتلال، وأن الحل الوحيد يكمن في تهدئة الأوضاع من أجل الحصول على الدولة المستقبلية، وهذا كله ثبت فشله".
رابعا، نوعية السلاح، وهنا كان فريق دايتون يؤكد أن السلاح الذي يعطى للفلسطينيين غير قاتل، ولا يشكل خطرا على إسرائيل، كما يجري فحصها قبل توزيعها.
وعلى سبيل المثال، وافقت إسرائيل بصعوبة في أغسطس/آب 2008 على تزويد قوات الأمن الفلسطينية بالسترات الواقية من الرصاص.
وقالت وكالة "رويترز" البريطانية وقتها "بما يعكس مشاكل الثقة الأوسع بين إسرائيل والفلسطينيين، جاء الإذن بشرط حصول رجال عباس على سترات واقية من الرصاص بدلا من الدروع الثقيلة التي طلبها الفلسطينيون وبعض المستشارين الأميركيين"، حسبما ذكر مسؤولون قريبون من الصفقة.
وتخشى إسرائيل أن تقع الدروع الواقية من الرصاص في أيدي المسلحين وتوفر للمقاتلين حماية أكبر من النيران الإسرائيلية.
وتتمتع السترات الواقية من الرصاص القياسية بقدرة إيقاف أقل من الدروع الثقيلة، وفق ما نقلت وكالة "رويترز" وقتها.
وينظر الإسرائيليون إلى الملابس الواقية كعنصر مشجع على إطلاق النار مما يعرض حياة جنودهم للخطر.
خامسا، الإبقاء على الفلسطينيين مكشوفين أمام الإسرائيليين، وذلك لأنهم لا يطمئنون لأحد، ولذلك فهم يريدون مراكز أمنية فلسطينية مكشوفة ويسهل ضربها بالدبابات فيما إذا شعرت إسرائيل بخطر، بحسب مقال عبد الستار قاسم السابق الإشارة إليه.
كما أن المراكز الأمنية محصنة ضد أي أفراد يحاولون التسلل، لكنها لا تصلح بتاتا للصمود في مواجهة الجيش الإسرائيلي ولو لفترة قصيرة.
ووصل الأمر إلى أن حركة قوات عباس وهم في مهام رسمية مقيّدة من قبل الإسرائيليين، فهم يحتاجون إلى إذن لدخول مناطق معينة.
وعندما يقرر الإسرائيليون دخول مكان يوجد فيه أفراد من الأجهزة الأمنية فإنهم يأمرون بالإخلاء فيختفي الفلسطينيون بأسلحتهم.
وفي خضم العدوان على غزة، فإن السؤال الذي يلوح في الأفق هو ما إذا كان السعي وراء المنافع الشخصية، سواء في شكل دعم دولي أو تمويل أو اعتراف دبلوماسي، قد أدى إلى تشويش حكم أولئك المكلفين بأمن الشعب الفلسطيني.
ويجيب المتخصص في العلاقات الدولية حبيب البدوي في دراسته بالقول إنه "من خلال تحليل الوضع، يصبح من الواضح أن المنافع الشخصية قد تطغى على المصالح الوطنية والشعور بالانتماء الإنساني".
وأردف أن "المأساة في غزة (منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) والخسائر في أرواح الفلسطينيين (أكثر من 15 ألف شهيد) تشير إلى الحاجة الملحة لأن تعطي قوات الأمن الفلسطينية الأولوية لحماية مواطنيها بدلا من التوافق مع مصالح عدوها الأبدي".