عقدة الهولوكوست.. ما سر انحياز ألمانيا المطلق لإسرائيل ضد الفلسطينيين؟
بعد أن حظرت السلطات الألمانية تنظيم أكثر من 100 مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، ومنعت الطلاب في العاصمة برلين من حمل الكوفيات والملصقات الفلسطينية، تسير برلين نحو إقرار وجوب الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كشرط للحصول على الجنسية.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول 2023، كشفت وزيرة الداخلية المحلية لولاية ساكسونيا أنهالت تامارا تسيشانغ، عن إرسالها نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023 مرسوما إلى السلطات المحلية يربط الحصول على الجنسية الألمانية بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
وينص المرسوم، حسب وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، على وجوب الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود "بصفته مصلحة وطنية لألمانيا"، مؤكدا أن "الحصول على الجنسية يتطلب الالتزام" بذلك.
ولذلك يتعين على المتقدمين للحصول على الجنسية أن يؤكدوا كتابة قبل التجنيس أنهم "يعترفون بحق إسرائيل في الوجود ويدينون أي مساعٍ موجهة ضدها".
ويجرى استبعاد عملية التجنس إذا واصل الأجانب الذين يتقدمون للتجنيس تنفيذ مساعٍ موجهة ضد النظام الأساسي الحر والديمقراطي، ويشمل ذلك أيضا الجرائم المعادية للسامية أو إنكار حق إسرائيل في الوجود.
وسيعطى للبلديات بيانا محددا للصياغة المقترحة، التي يجب على المتقدمين التوقيع عليها، غير أنه في حالة رفض المتقدم التوقيع فلن يتم تسليمه وثيقة التجنس، وبالتالي يعد طلب الحصول الجنسية مرفوضا.
وفي 25 ديسمبر 2023، أعرب وزير العدل الألماني ماركو بوشمان عن تفهمه واعتقاده بأن قرار ولاية سكسونيا-أنهالت "منطقي ومفهوم".
ورأى بوشمان، أن إلزام المتقدم للحصول على الجنسية الألمانية بهذا الشرط هو "نتيجة للنظام الأساسي الديمقراطي الحر"، على حد قوله، مرجعا خصوصية علاقة بلاده بإسرائيل إلى ما وصفها بـ"مسؤولية ألمانيا عن الحكم النازي الظالم وعن الهولوكوست".
سقطة أخلاقية
وفي تعليقه على ربط الحصول على الجنسية بالاعتراف بإسرائيل، رأى الباحث في معهد الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة برلين الحرة عماد العلي، أن قرار ولاية ساكسونيا أنهالت هو "من بوادر تجريم تأييد القضية الفلسطينية".
وفي 19 ديسمبر 2023، رأى العلي، في مقال رأي نشره موقع "تي ري تي عربي"، أن هناك مشاريع قرارات حكومية يجرى العمل عليها لتشديد أحكام "معاداة السامية" بتجريم كل من يؤيد القضية الفلسطينية وينتقد إسرائيل.
وقال إنه "إذا كانت محرقة اليهود قد شكلت سقطة سياسية تاريخية لألمانيا، فإن دعمها اليوم للممارسات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هي سقطة سياسية وأخلاقية جديدة".
وتابع أنه عندما نشاهد كيف تُقيد ألمانيا اليوم حرية المتعاطفين مع القضية الفلسطينية وتطالب الجميع علنا بدعم إسرائيل، بل تذهب أصوات أبعد من ذلك وتطالب بتجريم المؤيدين لها أو سحب جنسياتهم أو إنهاء إقاماتهم، فهنا يصبح من المنطقي التشكيك بقداسة الحقوق والقيم الغربية.
ورأى العلي، أن القول إن أمن إسرائيل مصلحة قومية ألمانية يحمل في طياته جانبين مهمين، الأول أن المسألة بجوهرها سياسة دولة ومصالح عُليا لها أي أنها غير قابلة للنقاش وغير مرتبطة بحكومة معينة.
والجانب الثاني أن المسألة، خارجة عن إطار النقاشات الأخلاقية، أي أن السؤال فيما إن كانت هذه السياسة صحيحة أو خاطئة فهو غير مطروح أساسا.
ورغم أن العديد من الأكاديميين يرون أن الانحياز المطلق لألمانيا تجاه إسرائيل لا يخرج عن الخط العام السائد في الغرب، إلا أن برلين تزيد على هذا الاتجاه بمعاناتها من "عقدة الهولوكوست" التي أصبحت تُعمي بصيرتها وتُغيب عقلها في الحكم بالمنطق على الأحداث.
عضو هيئة التدريس بجامعة صقاريا التركية البروفيسور كمال إينات، قال إن السياسة التي تنتهجها ألمانيا تجاه المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة لا تخرج في الحقيقة عن الخط العام السائد في الغرب.
ورأى أن القادة الذين يديرون سياسة ألمانيا الخارجية المعروفة بماضيها فيما يتعلق بالهولوكوست، يبذلون جهدا خاصا ليكونوا في طليعة الداعمين لتل أبيب ودفع العالم نحو نسيان المحرقة صارخين بأعلى صوتهم إنه "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها".
وتساءل إينات، في مقال رأي نشرته وكالة الأناضول في 7 نوفمبر 2023، هل دفاع إسرائيل عن نفسها يتم من خلال قتل آلاف الأطفال؟
ورأى أنه يتم تجاهل هذا السؤال من خلال ترديد العبارة نفسها: "نحن نؤيد بالكامل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
وأوضح أنه رغم استمرار إسرائيل في قصفها لغزة، منتهكة قواعد القانون الدولي كافة ومرتكبة جرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية، إلا أن دعم ألمانيا لحكومة بنيامين نتنياهو لا يزال مستمرا إلى اليوم.
وتابع أن ألمانيا لم تتمكن حتى من الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مضيفة صفحة جديدة من العار إلى تاريخها بالامتناع عن التصويت على القرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي 12 ديسمبر 2023، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قرارا يطالب بوقف فوري إنساني لإطلاق النار في قطاع غزة، حيث صوتت 153 دولة من أصل 193 بلدا لصالح القرار، مقابل معارضة 10 بلدان من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل، في حين امتنعت 23 دولة عن التصويت من بينها ألمانيا.
انحياز مطلق
بدوره، سجل الكاتب المغربي المقيم في ألمانيا وعضو الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار سابقا عبد الكريم أهروبا، أن هناك انحيازا مطلقا، وغير مشروط للحكومة الألمانية تجاه إسرائيل.
وأضاف أهروبا، في حديث لـ"الاستقلال"، أنه في ظل هذا الانحياز المطلق يعد كل من لا يؤيد إسرائيل معاديا لها بالضرورة.
وأكد أن ألمانيا -كمعظم الدول الغربية- اختارت منذ الوهلة الأولى الاصطفاف غير المشروط إلى جنب إسرائيل، ودعمها المطلق "في حربها على الإرهاب"، مهما كانت الفاتورة الإنسانية الباهظة التي سيدفعها المدنيون الذين يتجرعون الأمرين في غزة.
وأشار إلى أنه من اللافت للنظر أن يصاحب انحياز الحكومة الألمانية شبه إجماع سياسي داخلي منقطع النظير، تبنت فيه جل الأحزاب الموقف الرسمي بحذافيره، ما عدا حزب اليسار الذي شكل في هذا الصدد ذاك الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وتابع أن هذا التوافق السياسي تجلى في إخماد كل الأصوات الداعمة لفلسطين، تارة عبر محاولة حظر المظاهرات المنددة بالحرب جملة وتفصيلا، ومصادرة منظميها حقهم الدستوري في التجمع السلمي، والتعبير عن الرأي، وتارة أخرى عبر وضع كل ناقد لسياسة إسرائيل تحت طائلة معاداة السامية دون فرق أو تمييز.
وأوضح أهروبا، أن هوس إخماد أصوات كل من يحاول أن يغرد خارج سرب الموقف الرسمي، أدى إلى المبالغة في كيل تهم معاداة السامية، والتوجس خيفة من كل ما من شأنه أن يشي بانتقاد مباشر أو غير مباشر لحرب إسرائيل على غزة.
وخلص إلى أن اصطفاف ألمانيا غير المشروط إلى جانب إسرائيل -دون مراعاة حقوق الفلسطينيين، وتجاهل خروقاتها التي لا تخطئها العين- لن يؤدي إلى تحقيق المبتغى المنشود.
وعن أسباب هذا الاصطفاف الألماني الأعمى خلف إسرائيل، قال البروفيسور إينات، إن هناك أربعة أمور رئيسة، وهي عبء ماضي الهولوكوست، واللوبي الإسرائيلي في البلاد، ونفوذ الولايات المتحدة، وخط الحكومة الائتلافية الحالية.
وأكد أنه بلا شك فإن الإبادة الجماعية التي ارتكبت ضد اليهود في عهد (الزعيم النازي أدولف) هتلر قد رهنت السياسة الألمانية لصالح إسرائيل حتى يومنا هذا.
وخلص إلى أن السياسيين الألمان يصفون دائما حماية إسرائيل بأنها "سياسة الدولة" الألمانية، وهم يعتقدون أيضا أن على ألمانيا دعم تل أبيب بغض النظر عما تفعله الأخيرة في الأراضي الفلسطينية والمنطقة، وإشاحة الوجوه عن الفلسطينيين الذين وقعوا ضحايا لهذا التفكير المرضي.
أما أهروبا، فقال إنه "يجب النظر إلى العلاقة الألمانية الإسرائيلية بنوع من الموضوعية وعدم مقارنتها بالدول الأخرى، إذ ثمة فرقا جوهريا بين علاقة الدول الغربية بإسرائيل، وعلاقة ألمانيا بها".
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال"، أن "ألمانيا تتعامل بكل ما يتعلق باليهود بصفة عامة بنوع من الحساسية، وهذا أمر يجب تفهمه واستيعابه وذلك لتاريخها النازي المظلم، وجرائم الإبادة الجماعية، والمحرقة التي اقترفها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، إذ أودوا بحياة 6 ملايين يهودي، فقط لأنهم يهود".
وتابع أنه "من أجل ذلك ترى ألمانيا أنها تتحمل مسؤولية أخلاقية تاريخية تجاه إسرائيل بصفتها دولة يهودية، وتريد أن تبذل كل ما في وسعها للحيلولة دون إعادة التجربة النازية، ليس فقط على المستوى المحلي عبر محاربة معاداة السامية وفكر اليمين المتطرف في المجتمع الألماني ولكن أيضا على المستوى الدولي عبر الدعم المطلق وغير المشروط لتل أبيب".
معاداة السامية
ولم يقتصر الأمر على ما تعده ألمانيا من نصوص قانونية لتشديد القيود تجاه التضامن مع الفلسطينيين، بل "قوبل الموقف التضامني مع غزة للمسلمين في أماكن العمل والمدارس والأماكن العامة الأخرى عموما بالريبة وردة فعل حادة من البيروقراطية الألمانية"، حسب الكاتب التركي ظفر ميشي.
وفي 23 ديسمبر 2023، أكد ظفر ميشي، في مقال نشره مركز "سيتا" التركي، أنه منذ السابع من أكتوبر تأثر المجتمع المدني الألماني بضغوطات تهدف إلى "تقويض التضامن مع غزة".
وأضاف أنه في الأربعة أسابيع الأولى بعد هذا التاريخ، اعتقل أكثر من 850 شخصا في برلين وحدها من قبل الشرطة، ويُزعم أن معظمهم مؤيدون لفلسطين.
وتعزو شرطة برلين حظر المظاهرات المؤيدة لفلسطين إلى أنها تعد "نداء مثيرا للكراهية ضد السامية" وأنها "أعمال عنف" بل وتشكل "خطرا وشيكا".
وقال الكاتب التركي: "رغم تفاخرها بديمقراطيتها، وقعت ألمانيا في تناقض فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحرية الإعلام وحرية التعبير، وذلك من خلال فرض عقوبات غير ديمقراطية داخل البلاد".
ولفت الكاتب النظر إلى أن "دعم ألمانيا غير المشروط للدولة الإسرائيلية (المحتلة للأراضي الفلسطينية) وسعيها لتحقيق مصالحها يمنح إسرائيل ميزة خطابية في النقاش حول معاداة السامية في الجمهور الألماني".
وأشار الكاتب إلى أن "الجهات الفاعلة الحكومية الألمانية لا تتردد في استخدام سلطتها لتغيير القوانين وحتى تقييد الحقوق الأساسية من خلال إضفاء الطابع الأمني على هذه المفاهيم".
وقال ميشي "يبدو من تصريحات المسؤولين الألمان أن الجمهور الأساسي المستهدف للتطبيقات غير الديمقراطية هي الجالية المسلمة، ولهذا من الضروري إيقاف هذه العملية الخطيرة من أجل ضمان السلام الاجتماعي في ألمانيا".
بدوره، رأى الكاتب المغربي المقيم في ألمانيا وعضو الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار سابقا عبد الكريم أهروبا، أن "آلة الإسلاموفوبيا التي أُطلِق لها العنان بعد 7 أكتوبر، توشك أن تعصف بالسِلم المجتمعي الذي بدأت تتصدع ركائزه، في وقت بدت فيه ألمانيا تتجه بخطى حثيثة إلى السقوط مرة أخرى في شَرَك اليمين المتطرف".
وأضاف أهروبا، في حديث لـ"الاستقلال" أنه "إذا كان على أجهزة الدولة ألا تتسامح قيد أنملة مع جرائم معاداة السامية، فإن ذلك يجب ألا يُتخذ ذريعة لاستهداف الإسلام والمسلمين دون جريرة".
وعد أن "معاداة السامية لا يمكن محاربتها بفوبيا الإسلام، فكلا الأمرين عنصرية مقيتة وينبعان من معين واحد، وإلا فإن ألمانيا لن تكون قد تعلمت من دروس التاريخ شيئا".
وخلص أهروبا إلى أنه "كان حريا بألمانيا أن تسعى جاهدة إلى العمل على إحلال سلام عادل، وشامل يضمن العيش الكريم لكلا الشعبَين: الفلسطيني، والإسرائيلي على حد سواء في ظل دولتين مستقلتين ذواتي سيادة كاملة".
وأكد أن "هذا لن يتأتى بانحياز أعمى دون قيد أو شرط إلى طرف على حساب طرف آخر، وإنما عبر العمل الجاد على إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى، وعبر الانحياز المطلق إلى القوانين الدوليّة، ومبادئ حقوق الإنسان".