مبادرة برلمانية للحد من هجرة كفاءات تونس نحو أوروبا.. ما مدى دستوريتها؟
“هجرة الكفاءات تُمثّل مسألة حساسة تستدعي نقاشا معمقا”
تواجه تونس شبح هجرة كفاءاتها إلى الخارج بشكل متسارع، مما دفع المؤسسة التشريعية إلى إعداد قانون لمواجهة الظاهرة، فيما تقول أصوات معارضة إنه "فاقد لكل أساس دستوري".
آخر ما يتعلق بهذه الظاهرة، جاء على لسان المدير العام للوكالة التونسية للتعاون الفني، محمد البليدي، الذي أكد أن "هجرة الكفاءات تُمثّل مسألة حساسة تستدعي نقاشا معمقا ودراسة شاملة من مختلف الجوانب".
وأشار محمد البليدي خلال حوار مع “إذاعة موزاييك” المحلية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، إلى انتداب 3198 تونسيا للعمل بالخارج حتى 31 أكتوبر/تشرين الأول 2024، مع تسجيل أعلى الطلبات على الكفاءات التونسية في قطاعي الصحة والتعليم.
وأوضح أن إجمالي المتعاونين التونسيين بالخارج يبلغ 26 ألفا، منهم أكثر من 60 بالمئة يعملون في مجالي الصحة (31 بالمئة) والتعليم (37 بالمئة)، بينما يشغل البقية وظائف في قطاعات متنوعة.
أزمة أم فرصة
وفيما يتعلق بالوجهات، أشار البليدي إلى صدارة ألمانيا كأكثر الدول استقطابا للكفاءات التونسية عام 2024، مع تراجع البلدان العربية، مقابل صعود دول أوروبية أخرى مثل فرنسا وإيطاليا.
وأوضح أنه خلال العام 2024 فقط، غادر 88 طبيبا مختصا، و22 طبيبا عاما، و145 مهندسا للعمل في الخارج، مشيرا إلى أن الوكالة تعمل حاليا، على حوكمة التعاون الفني وتحقيق التوازن بين الحاجيات الوطنية والخارجية.
يُذكر أن الوكالة التونسية للتعاون الفني، هي مؤسّسة عمومية أحدثت عام 1972 لتنفيذ سياسة الدولة في مجال التعاون الفني، وذلك بتوفير الكفاءات التونسية المطلوبة ووضعها على ذمة العديد من البلدان خاصة منها العربية والإفريقية، وتنفيذ البرامج والمشاريع التنموية في إطار التعاون الثنائي أو الثلاثي.
وفي مارس/آذار 2024، كشفت وكالة التعاون الفني عن تلقيها نحو 23 ألف ملف لمترشحين يرغبون في الحصول على فرصة عمل في الخارج عن طريق التعاون الفني، ينتمي أغلبهم لقطاعات التعليم والصناعة الكهربائية والميكانيكية والإلكترونية.
وعام 2022، قالت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي (هيئة نقابية) التابعة لاتحاد الشغل إن "نحو 2014 أستاذا جامعيا بالمؤسسات التعليمية العليا قد غادروا بحثا عن عمل أفضل".
وفي السياق، يرى الناشط المدني أحمد جربي أن “ارتفاع معدلات هجرة الكفاءات متعددة، منها الذاتي والموضوعي”، مشيرا إلى “فاعلية العامل السياسي وتأثيره الكبير على الظاهرة”.
وأوضح جربي لـ"الاستقلال"، أن الدول التي تشهد اضطرابات سياسية وأزمات اقتصادية “تعرف أكبر نسبة من هجرة الكفاءات”.
واستطرد: “بل إن بعض البلدان التي تعرف استقرارا نسبيا تعجز عن كبح جماح هذا الصنف من الهجرة، كونها مثلا لا يمكن أن تنافس الجامعات الأوروبية والأميركية في تقديم مادة دراسية ذات جودة عالية، لذلك يغادر العشرات من الأوائل في الباكالوريا للدراسة بالخارج في كل سنة”.
ولفت جربي إلى أن “هؤلاء الطلبة المتفوقين عادة ما يستقرون بالخارج حال تخرجهم، بالنظر إلى وفرة العمل وارتفاع الأجور، فضلا أن بعض هؤلاء لا يجد في بلده الأم وظائف تلائم اختصاصه العلمي”.
وأكد أن “الأزمة اليوم انتقلت إلى فئات التلاميذ المتوسطين دراسيا، حيث شرعت أسرهم في الحرص على إرسالهم لاستكمال الدراسة في الخارج، ولو كان ذلك ببيع بيتهم لتوفير تكاليف الدراسة لأبنائهم، إذ يرون أن هذا نوع من الاستثمار، لا سيما في ظل ضعف سوق الشغل المحلية وارتفاع نسبة البطالة”.
وشدد على أن “الدولة مدعوة لوضع تشريعات وإجراءات تشجع هذه الكفاءات على العودة إلى البلاد وتوطينها، خاصة أنها كفاءات ذات تكوين جيد أو عالٍ، مما يعني أن الدولة ستربح نقل التكنولوجيا وسيكون لعودتهم قيمة مضافة للاقتصاد المحلي".
ومن جانب آخر، يضيف جربي، وحتى من بقي من هذه الكفاءات بالخارج، فسيكون هذا مصدرا مهما للعملة الصعبة، خاصة أن تحويلات التونسيين بالخارج فاقت مداخيل السياحة عام 2023.
تدخل برلماني
أمام ارتفاع وتيرة هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، شرع عدد من نواب البرلمان في إعداد مبادرة تشريعية بغية الحد من هجرة كفاءات البلاد إلى الخارج، عبر فرض تعويضات مالية على الأطراف المستفيدة، وتشمل المهاجر وبلد المهجَر، في خطوة أثارت مواقف متباينة.
ويتضمن مقترح القانون اقتطاع ما قيمته 180 دولار في الشهر طيلة 5 سنوات لتسديد جزء من التكاليف التي صرفتها الدولة في تكوين الأطباء والمهندسين المهاجرين.
وفي هذا الصدد، أوضحت النائبة بالبرلمان فاطمة المسدي، أن مشروع القانون ينص على التزام خريجي الجامعات التونسية في مجالات الطب والهندسة والتخصصات التقنية العالية، الذين يختارون العمل في الخارج خلال السنوات الـ5 الأولى بعد التخرج، بتسديد 50 بالمئة من تكاليف دراستهم الجامعية التي أتموها في تونس للدولة، على أقساط سنوية، وفق جدول زمني يتم الاتفاق عليه بين الخريج ووزارة التعليم العالي.
وأضافت المسدي في منشور عبر صفحتها على "فيسبوك" في 24 نوفمبر 2024، أن هذا القانون يستثني الخريجين الذين يعودون للعمل في تونس قبل انقضاء 5 سنوات من تاريخ مغادرتهم، شريطة البقاء والعمل في تونس لمدة لا تقل عن 3 سنوات متتالية.
وأشارت البرلمانية إلى أن الأموال المحصلة من هذا البرنامج، ستخصص لتحسين جودة التعليم العالي وتطوير البنية التحتية للجامعات التونسية.
وأوضحت أن اقتراح هذا القانون جاء بعد تنامي ظاهرة هجرة الكفاءات، خاصة الأطباء والمهندسين الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات التونسية، والتي أدّت إلى استنزاف الموارد البشرية المؤهلة وكبّدت الدولة خسائر مالية كبيرة.
واسترسلت: "حيث تستثمر في تعليم هؤلاء المهنيين دون الاستفادة من خبراتهم في تنمية البلاد، إلى جانب تأثير الهجرة سلبا على جودة الخدمات الصحية والتقنية في تونس".
وأشارت إلى أن هذا القانون يهدف إلى وضع آلية لاسترداد جزء من تكاليف التعليم العالي من الخريجين الذين يختارون العمل في الخارج، وإلى تحقيق توازن بين حرية الأفراد في اختيار مكان عملهم وحق الدولة في الاستفادة من استثماراتها في التعليم العالي.
من جانبه، قال رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة بالبرلمان، فخر الدين فضلون، إن مشروع القانون يعنى أساسا بالأطباء والمهندسين الذين تصل كلفة تعليمهم وتكوينهم بالمؤسسات التونسية إلى نحو 34 ألف دولار، والهدف منه "استرجاع ما يمكن استرجاعه من كلفة التكوين".
وأضاف فضلون خلال تصريح صحفي أنه “فضلا عن إعداد المبادرة التشريعية التي سيناقشها البرلمان لاحقا، سيتم التوجه إلى إضافة فصل جديد في قانون المالية لسنة 2025 يحمّل الراغب في هجرة تونس، سواء كان طبيبا أو مهندسا يرغب في العمل في الخارج، تسديد نسبة من قيمة تكاليف تكوينه في تونس، تُوزع على امتداد فترة تتجاوز 5 سنوات”.
وأكد أن الدافع الرئيس لتوجه البرلمان إلى سن قانون جديد “هو الحد من نزيف هجرة الكفاءات التونسية التي تفاقمت بشكل لافت في الأعوام الأخيرة، وتسببت في تسجيل نقص حاد في اختصاصات الهندسة والطب”.
وأوضح أن كلفة تكوين الأطباء والمهندسين "يتكبدها التونسيون من دافعي الضرائب بمختلف شرائحهم"، بالمقابل "لا يستفيدون من خدماتهم في تونس"، لافتا إلى "النقص الحاد" في أطباء الاختصاص في المؤسسات الصحية.
واستدرك: "نحن لسنا ضد سفرهم وبحثهم عن موطن شغل في الخارج، لكن عليهم أن يعطوا الدولة حقها، أي أن يسددوا نسبة من كلفة التكوين العالي الذي تلقوه والذي كلّف الكثير من الأموال، وتستفيد من خبراتهم فقط دول المقصد".
ورأى رئيس اللجنة البرلمانية أن هذه المبادرة التشريعية "ليست بدعة"، على تقدير أن المؤسسة العسكرية في تونس تفرض تعويضا ماليا على كوادرها التي ترغب في المغادرة، وذلك ككلفة تكوين داخل هذه المؤسسة.
وتأتي المبادرة التشريعية في ظرف تشهد فيه تونس صعوبات اقتصادية واجتماعية، حيث تتجاوز نسب البطالة 16 بالمئة، الأمر الذي خلف تباينا في المواقف بشأن دوافع هذه الخطوة وتبعاتها على الكفاءات التونسية.
وتكشف إحصاءات رسمية قدمها "المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية" الحكومي التابع لرئاسة الجمهورية، مطلع يوليو/تموز 2024، أن نحو 3 آلاف مهندس يغادرون البلاد سنويا، فيما بلغت نسبة الكفاءات الطبية المهاجرة نحو 4 آلاف في الثلاث سنوات الماضية.
وسبق أن اقترح المعهد في دراسة تحت عنوان "هجرة مهنيي الصحة: رهانات المنظومة الصحية في تونس"، فرض تعويضات في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب توظف على أجور المغادرين باتفاق مع بلد المهجَر، فضلا عن شرط الحد الأدنى لعدد سنوات العمل في بلد المنشأ، والتزام الخدمة المدنية بالمناطق ذات الأولوية.
رفض واسع
وعبر العديد من الأصوات التونسية عن رفضها للمبادرة البرلمانية، ما بين من يرى أنها مخالفة للدستور، ومن يرى أنها “سفسطة وشعبوية قاصرة”، وهذا ما ذهب إليه الناشط المدني جربي لـ"الاستقلال".
وعلى المستوى النقابي، أكد عميد المهندسين التونسيين كمال سحنون، أن المقترح التشريعي "مبادرة غريبة لا ترتقي إلى مناقشتها على مستوى العمادة".
وقال سحنون لموقع "الصباح" التونسي، في 28 نوفمبر، إن “مشروع هذا القانون يتعارض مع ما جاء في دستور البلاد من مجانية التعليم بصفته حقا دستوريا لكل التونسيين”، مرجحا ألا يوقع الرئيس قيس سعيد عليه إذا تمت المصادقة عليه من قبل البرلمان.
وأضاف: "تونس ليست سجنا، وهذه المبادرة التشريعية تستهدف الكفاءات التونسية بدل دعمها، وهي لن تسهم في دعم الموارد المالية للدولة على تقدير أن جل الكفاءات المهاجرة تغادر البلاد بمبادرات خاصة وليس عبر مكاتب التوظيف التابعة للدولة وليسوا مطالبين برخص للخروج".
وعن تبعات مشروع القانون، رأى عميد المهندسين أنه "سيؤدي إلى عدم عودة الكفاءات التونسية المهاجرة لأرض الوطن والمساهمة في بعث مشاريع تساعد على النهوض الاقتصادي في البلاد".
وشدد على ضرورة العمل على “تحسين الوضع المادي والمعنوي للمهندسين وتحسين مناخ الاستثمار في تونس”.
وتقدر عمادة المهندسين في تونس عدد خريجي الجامعات الهندسية في البلاد سنويا بنحو 8500، فيما يناهز عدد الذين غادروا تونس في الفترة ما بين 2015 و2020 بأزيد من 39 ألف مهندس.
بدوره، أكد كاتب عام عمادة الأطباء، نزار العذاري، أن الإجراءات الردعية التي تضمنتها المبادرة التشريعية "تعد سالبة للحرية وستزيد في تعميق أزمة هجرة الكفاءات من تونس خاصة في اختصاص الطب".
وأشار العذاري في تصريحات صحفية، إلى أن فرض تعويضات مالية على الأطباء الذين يرغبون في العمل بالخارج "سيجعل الشبان في تونس ينفرون من تخصص الطب، فضلا عن غلق أبواب العودة أمام الراغبين في إطلاق مشاريع في البلاد".
وأوضح أن عمادة الأطباء ستعمل على تقديم مقترحات جديدة بخصوص الحد من ظاهرة هجرة الكفاءات الطبية، لافتا إلى تسجيل مغادرة 1300 طبيب لتونس عام 2024 أغلبهم من الأطباء الشبان.
كما أكد الدكتور منيف باسم، أن مشروع مجلس النواب للحد من هجرة الكفاءات “سيأتي بنتائج عكسية وستحل الكارثة”.
وأوضح باسم في تدوينة عبر حسابه على فيسبوك، في 27 نوفمبر 2024، أن “الذي سيقع هو امتناع هؤلاء المهاجرين عن تحويل الأموال إلى تونس، سواء للاستثمار أو لغيره، في حين تشكل تلك العائدات المصدر الأساس للعملة الصعبة”.
وتابع: “أي أن الخسارة مزدوجة، من حيث خسارة كفاءة لن تعود إلى البلاد للأبد، وخسارة عملة صعبة كانت تأتي عبر تحويلاتهم المهمة”.
نظرة مستقبلية
من جانبه، أكد الناشط المدني جربي أن “معالجة ظاهرة هجرة الكفاءات أو الأدمغة ليست آنية أو سريعة، ولن تتم بمثل هذه المبادرة التشريعية، بل تتطلب برامج وسياسات إستراتيجية”.
وشدد جربي لـ"الاستقلال" على أن "عمق هذه الإستراتيجية يقوم على هدف واضح، وهو جعل الوطن قادرا على توطين أدمغته".
واسترسل: “هذا يتطلب من بين ما يتطلبه، توفير بيئة سياسية ديمقراطية واقتصاد متين، قادر على خلق مواطن الشغل كما وكيفا”.
من جانبه، دعا أستاذ التعليم العالي بجامعة صفاقس والحائز على جائزة "فايزر المرموقة لعام 2024" علي البقلوطي، إلى “ضرورة أن تضع الدولة التونسية إستراتيجية كبرى لاستغلال الكفاءات العلمية والثروة البشرية الموجودة في تونس، بهدف تغيير منظومة البحث العلمي والحد من هجرة الأدمغة”.
وأوضح البقلوطي للإذاعة الوطنية التونسية، في 29 نوفمبر 2024، أن الحد من ظاهرة هجرة الكفاءات التونسية "عملية تتطلب بعض الوقت".
وشدد على أن "النسيج والمحيط الصناعي يجب أن يكون منسجما مع الجامعة على غرار النموذج الأميركي وما هو معمول به في الولايات المتحدة".
وذكر الأستاذ الجامعي أن “تونس تتوفر بها ثروة بشرية وكفاءات علمية كبيرة وتتمتع بالأسبقية على مستوى البحوث، لكنّ هناك ضعفا كبيرا على مستوى الموارد المالية، وهو ما يستوجب وضع إستراتيجية لاستغلال الثروة البشرية، وبالتالي الإسهام في الحد من هجرة الكفاءات”.
من جانبه، قال الدكتور والناشط السياسي رياض الجلاصي، إنه “في ظل النقاشات المتزايدة حول منع هجرة الأطباء والمهندسين في تونس، وجب إعادة النظر في أصل المشكلة، بدل التركيز على الحلول السطحية”.
وأضاف الجلاصي متسائلا في تدوينة عبر حسابه على “فيسبوك” في 27 نوفمبر 2024، “هل المنع هو الحل؟” ومجيبا “بالتأكيد لا”.
وشدد على أن “هجرة الكفاءات ليست اختيارا سهلا، بل غالبا ما تكون نتيجة لظروف مهنية واجتماعية غير مواتية”.
وأكد الجلاصي أن “الأجدر هو خلق بيئة عمل محفزة في تونس، من خلال توفير فرص شغل بأجور عادلة تتماشى مع مستوى الكفاءة والتخصص، وتحسين ظروف العمل، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الصحة والهندسة، وتعزيز التقدير المجتمعي للمهنيين ودعمهم معنويا وماديا”.
وخلص إلى أنه “بدل إغلاق الأبواب أمام الكفاءات، وجب فتح آفاق التطور أمامهم داخل الوطن، حينها لن تكون الهجرة خيارهم الأول، بل استثناء”.