"غزة الإنسانية".. هكذا تحوّلت مؤسسة مساعدات أميركية إلى واجهة استخباراتية

وصف ما يحدث بأنه "مقزز" لا يفي بحقيقة ما يجرى بل يُعدّ تقليلا من فداحة الأمر
تتواصل الأحاديث عن "دور غامض" لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في دعم مشروع "إنساني" إسرائيلي مثير للجدل داخل غزة، يقوده ضباط استخبارات سابقون ومتعاقدون أمنيون أميركيون.
وبحسب تحقيق نشرته مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية، سعت تلك الجهات إلى إنشاء مؤسسة إغاثية توصف بالاستقلالية، بينما تقف وراءها مصالح أمنية وأهداف مشبوهة، في وقت يستمر فيه الحصار المفروض على السكان المدنيين.
وقد فاقم الشكوك استقالة الجنرال الأميركي المتقاعد، جاك وود، من رئاسة المشروع، احتجاجا على غياب المبادئ الإنسانية، وفق وصفه.
وكانت "مؤسسة غزة الإنسانية" قد أعلنت أنها بدأت توزيع المساعدات على سكان غزة، وأضافت في بيان، أنها "سلمت شاحنات محملة بالأغذية إلى مواقعها الآمنة؛ حيث بدأ التوزيع على سكان غزة، وسيتم تسليم المزيد من شاحنات المساعدات، الثلاثاء (27 مايو/أيار 2025)، وسيزداد تدفق المساعدات يوميا".
سادية وهدر للموارد
لكن المشاهد الميدانية والتقارير من داخل القطاع تعكس صورة مغايرة؛ فقد أظهرت لقطات مصورة طوابير طويلة من الأهالي في مناطق ضيقة بمدينة رفح جنوب غزة، ينتظرون لساعات تحت أشعة الشمس، وسط إجراءات تفتيش مشددة.
وفي تطور ميداني آخر في اليوم نفسه، اندفع آلاف الفلسطينيين الجائعين نحو نقاط توزيع مساعدات أقامها الاحتلال الإسرائيلي داخل ما يُعرف بـ "المناطق العازلة" جنوب القطاع، قبل أن يتدخل جنود الاحتلال ويطلقوا النار على الحشود، ما أسفر عن وقوع عدد من الإصابات. بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
وفي وقت سابق، وجّه المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاغوبال، انتقادا لاذعا لآلية توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، واصفا إياها بأنها "سادية".
وفي السياق نفسه، أكد المفوض العام لوكالة “أونروا” فيليب لازاريني خلال مؤتمر صحفي في العاصمة اليابانية طوكيو، أن "نظام توزيع المساعدات المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية في غزة هدر للموارد وتشتيت للأنظار عن الفظائع الحاصلة على الأرض".
وقالت المجلة: إن تقارير جديدة أفادت بأن ضابطا سابقا في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية -كان قد أشرف في الثمانينيات على برامج أميركية لتدريب الميليشيات اليمينية في نيكاراغوا- عمل أخيرا مع الإسرائيليين على إنشاء منظمة إغاثية جديدة توصف بأنها "مستقلة".
ووفقا للتقارير، تهدف هذه المنظمة إلى الانتشار في غزة التي تعاني من مجاعة حادة، وذلك بدعم من جهات أجنبية ومتعاقدين أمنيين أميركيين.

ما يحدث "مقزز"
وقالت المجلة: إن وصف ما يحدث بأنه “مقزز” لا يفي بحقيقة ما يجرى بل يُعدّ تقليلا من فداحة الأمر.
فبعد أن بدأت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تتناول القصة، كشفت أن فكرة المشروع بدأت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأشارت إلى أن الفكرة كانت ثمرة تعاون بين مسؤولين في الجيش الإسرائيلي، ورجال أعمال إسرائيليين في قطاع التكنولوجيا، ومسؤولين سابقين في مكتب منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (COGAT) -وهو الجهة المسؤولة عن تنسيق المساعدات- إضافة إلى مستثمر إسرائيلي أميركي.
وفي أعقاب هذه التقارير، قدّم المدير التنفيذي للمنظمة الغامضة المسماة "منظمة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Organization)، استقالته.
الرئيس التنفيذي "جاك وود"، وهو جندي متقاعد من مشاة البحرية الأميركية، كان على رأس حملة جمع التبرعات لهذا المشروع.
لكن قال "وود" في بيان عقب استقالته: "من الواضح أنه لا يمكن تنفيذ هذا المخطط دون التخلي عن المبادئ الإنسانية الأساسية: الإنسانية، والحياد، والنزاهة، والاستقلالية — وهي مبادئ لن أتخلى عنها".
وقالت المجلة: إن هذا التطور يمثل ضربة لخطط "فيليب إف. ريلي"، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية قد أوضحت أن "ريلي" عمل في ثمانينيات القرن الماضي عميلا شابا لدى الاستخبارات الأميركية، وأسهم حينها في تدريب ميليشيات الكونترا اليمينية التي قاتلت الحكومة الماركسية في نيكاراغوا.
وأضافت أن هذه المعلومات وردت في مقابلة إذاعية أُجريت مع "ريلي" عام 2022، واستعرض خلالها تجربته في تلك المرحلة.
وأشارت الصحيفة إلى أن "ريلي" كان من أوائل عملاء الاستخبارات الأميركية الذين وصلوا إلى أفغانستان عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وقالت: إن "ريلي" تولّى لاحقا رئاسة محطة الوكالة في كابل، قبل أن يترك منصبه ويتجه إلى العمل في القطاع الخاص.
وذكرت أن "ريلي" عمل بعد ذلك خبيرا أمنيا لدى عدد من الجهات، من بينها شركة "أوربس" الاستشارية التي تتخذ من ولاية فرجينيا مقرا لها.
وقالت المجلة: إن "ريلي" كان وراء شراء شركة "سيف ريتش سولوشنز" (Safe Reach Solutions)، وهي شركة أمنية أميركية خاصة وغامضة، وقد بدأت نشاطها في قطاع غزة منذ مطلع هذا العام، بحسب المجلة.

ضبابية وريبة
وأوضحت المجلة أن الصحفية "ستافرولا بابست" كانت قد تناولت هذه الشركة في تقرير سابق، محذّرة من المخاطر التي ينطوي عليها وجود عناصر أمن أميركيين على الأرض في غزة.
ووصفت المجلة هذا الوجود بأنه تهديد مزدوج، ينال السكان المحليين من جهة، والعناصر الأميركية أنفسهم من جهة أخرى، مضيفة أن هذه الترتيبات تضع الولايات المتحدة على تماس مباشر مع المعارك في غزة، وتزيد احتمالات انجرارها إلى المواجهة في أي لحظة.
كما قالت المجلة: إنه لا تزال هناك ضبابية بشأن دور "ريلي" في شركة "يو جي سوليوشنز" (UG Solutions)، وهي جهة أخرى ورد ذكرها في تقارير سابقة.
لكن "نيويورك تايمز" أشارت إلى كيان أميركي آخر يُدعى (G.H.F.)، ويبدو أنه أيضا تحت إشراف "ريلي".
ما يزيد الأمر ريبةً هو تصريح "وود" لصحيفة نيويورك تايمز -قبل استقالته- بأن شركات الأمن هذه تعمل "بمعزل" عن "مؤسسة غزة الإنسانية"، وبالمناسبة، فإن هناك شركتين تحملان الاسم نفسه مسجلتين، واحدة في ولاية "ديلاوير" الأميركية والأخرى في سويسرا.
لكن محاميا أميركيا يُدعى "جيمس كاندف"، تولى تسجيل كل من شركة "سيف ريتش سولوشنز" والمؤسسة المسجلة في ولاية "ديلاوير"، وكان يعمل ناطقا رسميا باسم الكيانين معا.
وعلى هذا، تساءلت المجلة: "هل بدأت تشعر بالحيرة؟"
وقالت: "تشير كل هذه المناورات الخدّاعة إلى حقيقة مفادها أنه لا تصل أي مساعدات حقيقية إلى المدنيين في غزة، كما أن الحصار غير القانوني على السكان لا يزال قائما.
ولذلك، خلص التقرير إلى أن "أي حديث عن نظام جديد لتقديم المساعدة يُرجح أن يكون مجرد حيلة أخرى لإجبار سكان غزة على ترك منازلهم، خاصة في الشمال، تحت غطاء العمل الإنساني".